الأربعاء، 13 مارس 2013

للفساد قصة تروى..

للفساد قصة تروى..


فشا الفساد في القضاء، لدرجة أن الغني كان يُحكم له مقابل ما يدفعه من رشوة أو ما يُقدمه من خدمات، والقوي لا يُسأل، فأمر الملك الذي ارتاع من هول ما يجري، بقتل القضاة وسلخ جلودهم أحياء، وتنجيد مقاعد القضاة الجدد بجلودهم التي أجلس عليها أبناءهم. لكيلا يكون القاضي بعيدا عن المصير الذي آل اليه سابقوه في حال فساده.
حدث ذلك في عهد الملك الفارسي قمبيز حوالي 500 ق م.
يشير الفساد كمصطلح بشكل عام إلى حالات انتهاك مبدأ النزاهة. والفساد في معاجم اللغة هو فعل (فسد) ضد صَلُحَ (والفساد) لغة البطلان، فيقال فسد الشيء أي بطُلَ واضمحل، ويأتي التعبير على معانٍ عدة بحسب موقعه. ويعرف معجم أوكسفورد الإنكليزي الفساد بانه "انحراف أو تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة".
وعاقبة الفساد السياسي كبيرة، فقد كان سببا رئيساً في دمار قرطاجة خلال حروبها مع روما، عندما رفض البرلمان المكون -أصلا- من تجار وسياسيين فاسدين تمويل حرب هانيبال ضد روما، مما اضطره لترك الاراضي الايطالية التي احتلها بعد ان اجتاز جبال الألب عام 218 ق.م، وانتصر في "كانيا" وأصبح على أبواب روما،  فضلا عن ثورة البربر بقيادة "ميسيسنا" ضد قرطاجة بدعم الرومان الذين حاصروها ثلاث سنين، ونجحوا في دخولها وتدميرها تدميراً شاملاً.
 ذبحوا معظم المدنيين وباعوا من تبقى كعبيد، وحرقوا المدينة ودمروا جدرانها، ويقال إنهم حرثوا الأرض بالملح لكيلا ينمو فيها أي نبات بعد ذلك ولا يسكنها أحد.
وفي أثينا القديمة فشا الفساد لدرجة أن بيع الناس لعجزهم عن سداد دين أو رهن، الى أن جاء المصلح الحكيم صولون (640 - 560)،  الذي قام بإصلاحات تشريعية وإدارية، وسميت هذه التشريعات باسم تشريعات صولون، منها إلغاء الرق وحماية الحرية الشخصية للأجراء والبسطاء وضمهم بالانتخاب، وأمر أن يضم كل من تجاوز سن الثلاثين إلى مجلس الأعيان الذي يقوم بتصريف شؤون الدولة، وبذلك كسر شوكة النبلاء وتعامل معهم كما يتعامل مع الفقراء سواء بسواء. وبذلك وضع صولون في أثينا أحد الاسس الديموقراطية التي تتيج للمواطن العادي أن يشارك في السياسة والحكم.
عام 572 ق.م اعتزل صولون منصب الحاكم بعد تقلده لمدة 22 عاما، وكان قد بلغ سن السادسة والستين فآثر الحياة الخاصة، واعتزل منصبه، وبعد أن أخذ العهد على أثينا، بأيمان أقسمها موظفوها، أن تطيع قوانينه بلا تغيير فيها ولا تبديل مدة عشر سنين، وسافر بعدئذ ليطلع على حضارة مصر والشرق، ويلوح أن ذلك الوقت هو الذي قال فيه مقولته ذائعة الصيت- "إني لتكبر سني وما فتئت أتعلم".
القانون الناطق
ولافلاطون في الجمهورية عبارة لافتة هي: 'الشخص الصالح لا يحتاج القوانين لتخبره كيف يتصرف بمسؤولية، أما الشخص الفاسد فسيجد دائماً طريقة ما للإلتفاف على القوانين'.
تنقلنا عبارة افلاطون الى خطيب روما الشهير شيشرون المولود عام 106 الذي اكتسب شهرته عام 70 ق.م. حينما وجَّه اتهاماته إلى حاكم صقلية الفاسد، معلنا أنه يقفز على القوانين ويحورها لصالحه. ومما قاله شيشرون: "يجب أن يفهم الحاكم أي الحاكم، وأيا كان النظام السياسي، أنه ممثل للشعب أو للدولة أو المدينة ولن يكون حكمه شرعيا إلا إذا احترم جميع الالتزامات التي ألقيت على عاتقه، لكن احترام القوانين من قبل الحاكم لا يكفي بحد ذاته بل يتعين أن يضع الحاكم القوانين موضع التطبيق، لأنه هو الحاكم الناطق، أما القانون وحده فهو حاكم أبكم".
ومن أقواله أيضاً: "الكاذب لا يصدق ولو قال صدقاً"، "من لا يقرأ التاريخ يبقى أبد الدهر طفلاً صغيراً".
قصة هند
يعرف الفساد السياسي بأنه إساءة استخدام السلطة العامة (الحكومة) من قبل النخب الحاكمة لأهداف غير مشروعة كالرشوة، والابتزاز، والمحسوبية، والاختلاس. وبها المعنى برز البرامكة في عهد الخليفة العباسي الرشيد، لدرجة أنهم باتوا يشكلون خطرا على الدولة بأن أنشأوا دولة داخل الدولة، وكان لهم نفوذ وسطوة.
وعلى الرغم من أن نفس الرشيد حدثته بأخذ موقف منهم ووضع حد لهم، إلا أنه لم يعقد العزم على ذلك إلا حين أسمعه أحد الغيورين على دولة آل عباس بيتي شعر عمر بن أبي ربيعة:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد      وشفت أنفسنا مما نجد
واستبدت مرة واحدة          إنما العاجز من لا يستبد

فقام الرشيد وفتك بهم.
ولم يكن المتنبي بعيداً عن تلمس الفساد الذي حاق بمصر في عهد الدولة الاخشيدية، حين قال في قصيدته التي مطلعها:
عيد بأي حال عدت يا عيد
                            بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهموا
                                    فليتك دونك بيد تليها بيد

وتحديدا في قوله:
نامت نواظير مصر عن ثعالبها
                                  فقد بشمن وما تفنى العناقيد

وقبله، ورد في ترنيمة فرعونية على ورقة بردي: أيها الثور دس بحوافرك الغلال واهرسها، فالحصاد كله للأسياد".
أطواق الزرد
يقترح الشاعر اللبناني ناصيف اليازجي (1800- 1871) طريقة قد تكون "ميكافيلية" للتعامل مع الفساد، بقوله:
متى ترى الكلب في أيام دولته
                                فاجعل لرجليك أطواقا من الزردِ
واعلم بأن عليك العار تلبسه
                              من عضة الكلب لا من عضة الأسدِ

يعرف الفساد السياسي بمعناه الأوسع بأنه إساءة استخدام السلطة العامة (الحكومية) لأهداف غير مشروعة وعادة ما تكون سرية لتحقيق مكاسب شخصية. كل أنواع الأنظمة السياسية معرضة للفساد السياسي التي تتنوع أشكاله إلا أن اكثرها شيوعاً هي المحسوبية والرشوة والابتزاز وممارسة النفوذ والاحتيال ومحاباة الأقارب.
الحرب على الفساد
وليست محاربة الفساد خصوصا إذا استشرى بالامر السهل، كونها تحتاج الى إرادة وتصميم واستمرارية.
حين فشا فساد الانكشارية في الدولة العثمانية وبدأت الاصلاحات في عهد السلطان سليم الثالث، حوالي منتصف القرن الثامن عشر، بدعم من مفتي البلاد ذي التوجهات الاصلاحية، تجنب السلطان الانكشارية خوفاً من تمردها، وبدأ بإصلاح سلاح البحرية والمدفعية فيما عرف بالنظام الجديد، على أن ينضم اليها من يشاء من الانكشارية، ومع ذلك ثار الانكشاريون بدعم من المفتي الجديد الذي تولى الافتاء إثر وفاة المفتي، وكان على عكسه تماما فاتحد مع مجموعة من العلماء والجهال والمنتفعين من رجال الدولة لعزل السلطان، فراحوا يحرضون من انخرط من شبان الإنكشارية في السلك العسكري الجديد متحججين أن الملابس النظامية الجديدة هي أزياء خاصة بالنصارى مخالفة للقرآن الكريم والسنة الشريفة، ولقت سمومهم رواجا عند الجهال والمنتفعين وحصلت فتن عديدة في كثير قلاع الدولة، وقتلوا رجال الاصلاح كما عزلوا السلطان وقتلوه.
ارتقى عرش السلطة بعد سليم الثالث السلطان محمود الثاني الذي كان علماً من اعلام الاصلاح، فادرك ان اصلاح الجيش لا يكون بغير التخلص من الانكشارية، فانتهز هزيمتهم في حرب اليونان وحاصر ثكناتهم ودكها بالمدفعية عن اخرها، وعرفت هذه الواقعة باسم الواقعة الخيرية، لأن العثمانين تفاؤلوا بها خيراً.
تقويض الديمقراطية
يمثل الفساد تحدياً خطيراً في وجه التنمية. فهو على الصعيد السياسي يقوض الديمقراطية والحكومة الجيدة بتعويم أو حتى تغيير مسار العملية الرسمية. أما الفساد في الانتخابات والهيئات التشريعية فيقلل من المساءلة ويشوه التمثيل النيابي في عملية صنع القرار السياسي. أما الفساد القضائي فإنه يعرض سيادة القانون للخطر والفساد في الإدارة العامة ينجم عنه التوزيع غير العادل للخدمات.
الخلاصة: إن الفساد ينخر في القدرة المؤسساتية للحكومة لأنه يؤدي إلى إهمال إجراءاتها واستنزاف مصادرها، فبسببه، أي الفساد تباع المناصب الرسمية وتشترى. كما يؤدي الفساد إلى تقويض شرعية الحكومية وبالتالي القيم الديمقراطية للمجتمع كالثقة والتسامح.
المؤكد انني لم ألمّ بكافة قصص الفساد والاصلاح في التاريخ، حسبي اني ذكرت بعضها، كما ان قصة ميل بعض الناس لممارسة الفساد من اختصاص علم النفس، فهناك من جاء من بيته الى المنصب فاسداً، وهناك من تأثر بالجو الذي يعمل به، وبدلا من ان يكون محاربا للفساد صار تلميذا نجيباً لسابقيه.
الفساد ليس فقط في المناصب لكنه في العديد من اماكن الحياة والعمل، والحرب على الفساد تبدأ حين يعلي الناس قيم العدل والخير.

خالد أبو الخير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق