كرة مصر الملتهبة
قبل إطلاق الصاروخ الذي ارتقى بسببه الشيخ أحمد ياسين إلى السماء بساعات كانت معظم عواصم الإقليم قد تبلغت بالجريمة، ورفعت درجات استعداداتها للذروة..هكذا، في كل حادثة كبيرة..
الانقلاب العسكري في مصر كان مثلما قالت "إسرائيل" هو النصر الأهم منذ انتصارها على المصريين في حرب67 أو هو الأهم منذ سقوط الخلافة العثمانية كما قال آخرون، وهو إن نجح أو فشل سيتسبب في تغييرات هائلة بالمنطقة.. بيريز على سبيل المثال كسياسي مخضرم ومحنك استبق الجميع فقال: "إن فشل ستكون له آثار كارثية على إسرائيل"..
ومن دون شواهد متوفرة ومتزاحمة وموثقة لا نحتاج لتكرارها؛ فإن الجميع ـ تقريبا ـ كان يعلم بسيناريو 3 يوليو؛فحتى كثيرين منا كان يتوقع أن يحدث الانقلاب الذي لم يكن في أيامه الأخيرة سراً بالنظر إلى تمكن أصحابه من مفاصل الدولة جيداً بحيث لا يحتاجون إلى مباغتة خصمهم الإسلامي..
فإذن نحن كنا إزاء انقلاب تم بتوافق دولي، بل بقرار استراتيجي دولي بدا أنه محكم في ردات أفعاله الدولية قبل تفاصيله،
ولقد كان الاتفاق على أن تسير الأمور على ما يلي:
ـ غض الطرف من قبل الغرب، وتباطؤ في توصيف ما جرى، واستخدام الدبلوماسية الغربية الاعتيادية في الانتقال من الماضي إلى المستقبل، أي إلى تحويل النظر إلى "خارطة المستقبل" و"استعادة الديمقراطية"، وهذا نمط مألوف اعتاد الغرب أن يتخذه حيال أي انقلاب يشرف عليه في إحدى الدول الإفريقية المغمورة.
ـ استخدام أسلوب "الصدمة والرعب" العسكري الأمريكي في شل أركان الخصم وغل يده عن مقاومة هذا الانقلاب، وهذا يتلخص في جملة اعتقالات وإحداث صدمة بالقمع والقتل أحياناً إن استدعى الأمر، واللجوء إلى مجزرة أو اثنين لإشعار "العدو" بأن الانقلاب لا يمكن التراجع عنه.
ـ فرض أمر واقع سريع بتغيير كل ترتيبات ومؤسسات الدولة الديمقراطية وإحلال العلمانيين والفاسدين فوراً مكان كوادر النظام الإسلامي بما يحويه من شرفاء من إسلاميين وغيرهم، والعبور إلى منطقة أخرى، وإشغال "العدو" بالمستجدات لإيصاله لمرحلة اليأس الدافعة له لقبول الحد الأدنى أو فتات السلطة، أو الرضا بقبول مجرد العيش بلا ملاحقة آنية.
ـ تحفيز دول على إسباغ صورة الشرعية بزيارات ونحوها لإحداث خرق سريع في جدار التحفظ الدولي.
...
لكن هذا كله كان رهين قدرة الانقلابيين على إنهاء الأزمة في عدة أيام، أو إخمادها تدريجياً، وهو ما لم يحدث..
الآن، وبعد أكثر من ستة أسابيع من الصمود والاستبسال، والعبور من صدمات المجازر والآلام؛ فإن مناهضي الانقلاب صاروا الرقم الأكثر فعالية في مصر، وبدأ مؤشر العالم يتجه رويداً رويداً نحو الإقرار بحقيقة الانقلاب، وعدم شرعيته، وضرورة الإفراج عن الرئيس المختطف د.محمد مرسي كحد أدنى وإعادته للحكم كحد أعلى..
لكن هل هذا الأمر بهذه البساطة؟!
كلا.. إن القرار الاستراتيجي الأممي بإزاحة حكم الرئيس مرسي حين اتخذ وضعت كل الضمانات له لعدم التراجع عنه، ودرست كل الاحتمالات من ردات الفعل المتوقعة من التحالف الوطني لدعم الشرعية، ومثل هذه القرارات هي كقرارات الحرب لا يمكن محوها بقرار آخر، لاسيما لو كان سيترتب على ذلك:
ـ مخاطر تجاه أمن "إسرائيل" (لاسيما أن نظام الرئيس المنتخب كان يخطو باتجاه إفراغ اتفاقية كامب ديفيد من محتواها عن طريق التنمية وتطوير قناة السويس).
ـ مخاطر تجاه التأثير الإقليمي لنظام إسلامي ناهض.
ـ مخاطر باتجاه تحالفات القوى في المنطقة والتي يمكن أن تتسبب في مغادرة نفوذ الولايات المتحدة للمنطقة.
ـ مخاطر تجاه الحالة السورية، والإخلال بالتفوق الإيراني المستمر والداعم للنفوذ الأمريكي في المنطقة والذي يستدعيه "الخطر الإيراني" ظاهرياً.
إضافة إلى مخاطر أخرى، عسكرية واقتصادية وثقافية..
وبالتالي؛ فإن واشنطن وحلفاءها لديهم من سماكة الجلود ما يجعلهم يتحملون لأجل عواقب الانقلاب..
على أنهم مع ذلك، لا يمكنهم الوقوف أمام ثورة شعبية تتأجج يوماً بعد يوماً، وشعبية إسلامية متصاعدة، وبطولات تأسر قلوب جموع شبابية، ومعسكر إسلامي ممتد إلى ما لا نهاية في قلب مناطق شبه عسكرية في القاهرة والجيزة، وعملية "استنزاف سلمية" متصلة من المسيرات، ومظاهر العصيان المدني التي بدأت تتصاعد حثيثاً، ولا انهيار غير منضبط لاقتصاد متهاوٍ بالأصل، واحتمالية الوصول إلى نقطة اللاسيطرة في لحظة ما، لا ينجح معها لململة الموقف على النحو الذي حصل في 11 فبراير 2011 ، لذا؛ فإن عديدين عبروا عن مخاوفهم من أن تشتعل الأوضاع في مصر على نحو لا يمكن معها السيطرة على حدود مصر، ولا استقرارها، ويجعلها تربة خصبة لتصدير العنف إلى المنطقة وقلب أوروبا ذاتها، كما أن الوضع الاقتصادي حال تفافم الأوضاع قد يفتح الباب على مصراعيه لهجرات غير شرعية إلى أوروبا.
بالتالي؛ فإن الحيرة التي يتبدى عليها النظام الانقلابي الحاكم في القاهرة هي رجع صدى واضح لعواصم غربية باتت في حالة حرجة ما بين هواجسها وتخوفاتها من بقاء الوضع الحالي، أو حسمه بشكل دموي يخرج الأمور عن زمام السيطرة..
غير أن ما يلحظ في كل هذا أن التحالف الوطني ماضٍ في مشروعه المقاوم للانقلاب حتى النهاية، وكذلك فإن الانقلابيين ليس لديهم هامشاً واسعاً من المناورة، بل يمكن القول إنهم لا يتقنون إلا الحل الأمني، وهو حل تحاول العواصم الغربية ألا تنزلق إليه الأمور بما يقلل كثيراً من قدرتها على ضبط الأمور ولملمة الصراع حين يتفجر، لاسيما أن دوائر الاستخبارات ترصد بوضوح الغضب المكتوم لدى غير المشاركين في التظاهرات، وتنظر بإمعان إلى أطراف مصر، حيث الصعيد والمنطقة الغربية وسيناء في حال التمرد والعصيان أو على الأقل ماضية إليه بخطى واثقة..
والمفزع لدى الغرب أن "وساطاته" المنحازة بجلاء للانقلابيين لم تعد تثير اهتماماً من المعتصمين وقياداتهم، وأنهم يقابلونها بقدر واضح من الاستخفاف والازدراء، ويذكيه مواقف كل الأسرى والمختطفين بدءًا من الرئيس المختطف إلى نائب المرشد مروراً بأول رئيس برلمان منتخب في مصر من الوساطات وإصرارهم الحديدي على المضي قدماً في الضغط الشعبي، دونما التفات إلى ما يتصوره "الوسطاء" حوافز مغرية للانكفاء والانهزام.
أيضاً؛ فإن حال الانسداد السياسي المتوقعة حتى في حال نجاح القوى الأمنية بتنوعاتها في فض الاعتصام، ومعضلة وضع نحو عشرين حزباً إسلامياً في أي استحقاق انتخابي قادم، واضطرار السلطات إلى التزوير حتى بعد إقصاء الأحزاب الإسلامية جميعها، وكذلك الأهم في كل هذا، أن محاولة إضفاء شرعية على الانقلاب "أخلاقياً" حتى الآن تظل بعيدة المنال لا محلياً ولا إقليمياً ولا دولياً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق