الأربعاء، 7 أغسطس 2013

صور من سجل الانقلابات العسكرية المعاصرة


صور من سجل الانقلابات العسكرية المعاصرة

 شريف عبدالعزيز الزهيري

في لحظة فارقة وحاسمة في مصائر ثورات الربيع العربي، وفي مشهد لم تره المنطقة منذ عدة سنوات، بل لم تشهده مصر نفسها منذ أكثر من 60 سنة؛ جاء التغيير العسكري المصري في 3 يوليو ليعيد إلى الأذهان ذكريات أليمة، وحصائد تجارب مريرة، كانت الشعوب أول وأكبر من دفع ثمنها.

في مصر غار العسكر على الإرادة الشعبية الحرة والنزيهة، ليعيد الأوضاع في مصر إلى المربع رقم صفر، حيث الحكم العسكري الذي ظل متسلطاً على البلاد لعقود ممتدة.. في نادرة تاريخية فريدة أن يخرج الملايين على الحكم، ثم يخرج شطر منه بعد ذلك بعامين ينادي بعودته وعودة الاستبداد والديكتاتورية، بعد أن غلبه الحنين والشوق لقرع السياط على ظهره ووقع البيادة على مستقبله السياسي.

• الانقلاب العسكري هو أحد أفرع فلسفة "البرجماتية العسكرية" التي تحكم فكر معظم القيادات العسكرية المسيطرة على جيوش العالم الثالث عامة وجيوش محيطنا الإقليمي خاصة.
 والانقلاب هو عملية عسكرية بحتة يقوم بها بعض المغامرين العسكريين في جيش تقليدي محترف، من أجل التدخل في مسار العملية السياسية، والتحكم في مقاليد السلطة لمصالحهم الخاصة أو مصالح قوى معينة، سواء داخلية أو خارجية؛ من أجل تأمين وضعية سياسية تجهض محاولات الخروج عن الخطوط المرسومة والنطاقات المحجوزة إقليمياً ودولياً لهذا البلد، وتعيده مرة أخرى للسير على الدرب القديم والأطر المرسومة سلفاً، أو بعبارة أخرى العودة بالدولة لسياسات النخبة الموروثة.

الانقلابات العسكرية ليست حدثاً عفوياً أو ردود أفعال وقتية، بل هي مخططات مرسومة من إجهاض إيمان الشعوب في أن خلاصهم السياسي في استكمال مسيرتهم نحو سقف لا محدود من الديمقراطية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، من خلال فرض وصاية غير شرعية بنكهة عسكرية على الإرادة الشعبية. البرجماتية العسكرية هي التي تبرر هذا الوثوب اللا أخلاقي على إرادة الشعوب، ومصادرة اختياراتها، وهي شارع طويل المدى، شاحح الملامح، صامت المعاني، أصم المنافذ لا مداخل فيه ولا مخارج، ولا مجال فيه للبحث والتفكير والالتفات، لكن دائماً وأبداً تنظر للأمام حتى لو على حساب هرس الشعوب، وسحق اختياراتها.

وثقافة الانقلابات العسكرية ثقافة متجذرة في منطقتنا العربية والإسلامية، لها أعوان وأنصار وأولياء وخدم وعبيد لا يرون عزهم إلا في ركاب العسكر، ولا يتحقق لهم سلطانهم وولايتهم إلا بفوهة البنادق ومن على ظهور الدبابات.. 
ومن باكستان شرقاً إلى موريتانيا غرباً، ومن تركيا شمالاً إلى اليمن والصومال جنوباً، كانت الانقلابات العسكرية حاضرة بقوة في المشهد السياسي، وكانت لها كلمة الفصل في وأد تجارب الديمقراطية الوليدة في منطقة أريد لها دائماً أن تظل أسيرة النظم السلطوية الشمولية.
ومن وسط زخم كبير لتجارب الانقلابات العسكرية سنركز على ثلاث دول كان للانقلاب العسكري في كل واحدة منها مذاق مختلف عن الآخر؛ وهي باكستان وتركيا والجزائر.

أولاً: الانقلابات العسكرية في باكستان
باكستان عرفت الانقلابات العسكرية مبكراً، فقد استقلت فعلياً عن الهند في سنة 1947 بعد مخاض عسير وفاتورة استقلال تعتبر الأكثر دموية إقليمياً، حيث راح ضحية هذا الاستقلال مئات الآلاف من مسلمي باكستان، ولم يكد تستقر البلاد وتهدأ أوضاعها المضطربة من جراء قيام هذا الكيان الضخم، حتى أقدم محمد أيوب خان، القائد العام للجيش الباكستاني، على الاستيلاء على السلطة بعد انقلاب عسكري قام به في 1958، وأطاح بحكومة الرئيس إسكندر ميرزا المنتخبة، وبعد توليه الرئاسة بدأ بالمعالجة الشكلية لإظهار برنامجه الإصلاحي المصطنع من خلال حل بعض مشكلات باكستان الداخلية، وإصلاح الجهاز الحكومي، وتنفيذ برنامج للإصلاح الزراعي، ثم أصدر دستوراً جديداً للبلاد عام 1962، ليتوالى عليها الجانب السلبي المعهود دائماً من التسلط العسكري، فقام بحظر قيام الأحزاب السياسية، ومنح نفسه صلاحيات مطلقة، فجعل رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للدفاع، وهو الذي يختار الوزراء من خارج الجمعية الوطنية، ويحق له حلها، وجعل السلطة التنفيذية في كل إقليم في يد الحاكم المعين من قبل رئيس الجمهورية، الأمر الذي جعل القوى السياسية تتوحد ضده وأخذت شعبيته في الانهيار بإحساس قطاعات عريضة من الشعب الباكستاني بفشله في إدارة البلاد، ليأتي عام 1969 نهاية لهذا المتعجرف المتسلط باسم العسكرية؛ فقامت المظاهرات ضده، وشاعت الفوضى، ولم يكن أمام "أيوب خان" إلا أن يترك منصبه، فقدم استقالته، لكنه على غرار ما فعله حسني مبارك عندما تنحى، حيث قام بتسليم السلطة إلى "يحيى خان"، رئيس هيئة أركان الجيش، ليستمر الحكم العسكري في باكستان لكن بصورة أشد سوءاً بسبب انتماء "يحيى خان" للطائفة الشيعية، وفي عهده وقعت العديد من الحوادث الضخمة مثل الحرب مع الهند، ثم انفصال باكستان الشرقية «بنجلاديش» والاضطرابات العرقية والطائفية الكبيرة، وبموجب اتفاقية تآمرية قام "يحيى خان" بتسليم الحكم إلى "ذو الفقار علي بوتو"، وكان شيعياً إسماعيلياً سنة 1971، ورحل يحيى خان إلى منفاه الاختياري بإيران، وذلك لكونه شيعياً جعفرياً.

لم يعرف بوتو الاستقرار في سنوات حكمه السبع إلا قليلاً؛ بسبب ولائه الشديد للغرب، ومحتده الباطني، وسياساته تجاه ملفي كشمير وبنجلاديش، وانتهى الأمر به على أعواد المشانق بعد انقلاب عسكري قاده الجنرال ضياء الحق سنة 1977، وسار ضياء الحق على درب الانقلابيين العسكريين؛ ففرض الأحكام العرفية، وألغى المجالس النيابية، وأقال حكومات الأقاليم، وشكل مجلساً عسكرياً لإدارة شؤون البلاد، لكنه في الوقت نفسه قام بعدة خطوات من أجل جلب تأييد الشعب الباكستاني والتيارات الإسلامية، حيث شرع في تطبيق جزئي لأحكام الشريعة الإسلامية، لكن ذلك لم يخفف من حدة المعارضة ضد حكمه العسكري، وحاول ضياء الحق أن يسير في اتجاهين متضادين ليضمن استمراره في السلطة؛ الاتجاه الأول: التقارب مع أمريكا لضمان حصوله على السلاح، وإضعاف موقف الهند في الصراع التاريخي بين البلدين، والاتجاه الثاني: التقارب مع الإسلاميين بتطبيق جزئي للشريعة وإقامة علاقات قوية مع أمصار العالم الإسلامي.
 وهذه السياسة جلبت عليه عداوة الكثيرين داخل وخارج باكستان، فقرر في أواخر حياته التركيز على الاتجاه الثاني، فدفع حياته نتيجة هذا التغيّر، إذ قامت وكالة المخابرات الأمريكية بتفجير طائرته في أغسطس 1988، فمات ضياء الحق إثر ذلك.

باكستان بعد هذه الفترة الطويلة تحت حكم العسكر «30 سنة» بدا لأهلها أنه لا سبيل للفكاك من هيمنة العسكر على الحياة السياسية، ولكن بصورة غير مباشرة، أو بغطاء مدني من ساسة وأحزاب مدنية هزيلة وفاسدة، وخلف الستار يتحكم العسكر في المشهد كله، وفي الفترة الممتدة من 1988 حتى 1999 ظلت باكستان تلعب لعبة الكراسي الموسيقية بين بنبي نظير بوتو، ونواز شريف؛ بوتو تحكم عاماً أو عامين، ثم يليها نواز، وهكذا، حتى قام برويز مشرف قائد الجيش الباكستاني بالانقلاب على نواز شريف، ليعود العسكر للقيادة المباشرة من جديد، وهذا الانقلاب تحديداً جاء في توقيت شهد تقلص هذه الظاهرة ذاتها على مستوى بلدان العالم الثالث منذ انتهاء الحرب الباردة؛ بفضل رفض المجتمع الدولي هذه الظاهرة تشجيعاً منه على الديمقراطية في هذه البلدان، لذلك كان وقوعه حدثاً استثنائياً، فقد وقع هذا الانقلاب في دولة نووية مثل باكستان، والعجيب أن يستقبل الشعب الباكستاني هذا الانقلاب بالارتياح والترحيب العام، حتى إن سكان مدينة كراتشي قاموا بتبادل الحلوى ابتهاجاً بهذا الانقلاب..
وبالنسبة للموقف الإقليمي والدولي، فقد التزمت الهند الجارة اللدودة لباكستان الهدوء وقالت إنها ستتعامل مع أي قيادة قائمة وفق مصالحها القومية، أما الولايات المتحدة فقد تباين رد فعلها من التنديد في البداية إلى تفهمه بعد ذلك رغم علمها باحتمال وقوعه بفترة كافية، حيث تأمل الولايات المتحدة في أن يؤدي هذا الانقلاب إلى إعادة الاستقرار بباكستان، كما أكد الرئيس كلينتون أن بلاده ستواصل الحوار مع قادة الانقلاب من أجل إقناعهم بضرورة العودة إلى النظام الديمقراطي..
لاحظ مدى التطابق في الموقف الأمريكي من انقلاب العسكر في باكستان سنة 1999، مع حركة العسكر في مصر سنة 2013.

ثانياً: الانقلابات العسكرية في تركيا
رغم أن محاور دراستنا هذه تركز على الانقلابات العسكرية المعاصرة، إلا أننا عندما نتحدث عن الحالة التركية لا يمكن أن نغفل عنصري التاريخ والعرقية، فالأتراك عرق بطبيعته محب للقوة والفتوة والأعمال العسكرية، ينبهر بالشجاعة والسطوة، لذلك استعان بهم الخلفاء العباسيون ابتداء من عهد المأمون العباسي، حتى كثرت أعدادهم داخل بغداد، فبنى المعتصم مدينة "سامراء" اتقاء لشر تجمعهم في مكان واحد، وابتداء من سنة 247 هـ أصبح القادة العسكريون الأتراك هم المسيطرون الفعليون على مقاليد الخلافة، يعيّنون من يشاؤون من الخلفاء ويعزلون من يشاؤون. فالعنصر التركي الذي استعانت به الدولة الإسلامية كانت إسهاماته الأولى في الجانب العسكري، وكانت نتيجة طبيعية أن يلعب الجانب العسكري دوراً فاعلاً عند السلاجقة أو العثمانيين الذين كانوا أصلاً يسمون سلاجقة الروم، وكانت دولتهم في تخوم الدولة البيزنطية والذين أعجبهم لقب غازي الذي خلعه عليهم السلاجقة لمواصلتهم الجهاد تجاه الدولة البيزنطية.
وعندما قامت دولتهم على أنقاض دولة السلاجقة، كان العامل العسكري هو الأقوى في توحيد المنطقة ومن ثم مواصلة الغزو غرباً ليجتاحوا أوروبا الشرقية وينهوا الدولة البيزنطية ويُدخلوا الإسلام إلى ربوع أوروبا حتى أبواب فيينا.
 وقد أثر نظام الجيش حتى في النظام الإداري المدني في الأماكن المفتوحة، فكانت الوحدة الإدارية الأساس تسمى (السنجق) والتي تعني اللواء، هذا اللواء أو السنجق هو الذي يقوم على السلطة السياسية والعسكرية، وكان في الأغلب الأعم أن تكون الطبقة الإدارية من العسكريين، فمنصب الصدر الأعظم الذي كان بمنزلة رئيس الوزراء يكون من هذه الطبقة، والدولة العثمانية منذ بدايتها حتى نهايتها نجد أن الجيش كان عنصراً مهماً في التغيرات السياسية التي طرأت عليها.
وظل الانكشارية أو الجيش الجديد صاحب كلمة الفصل في تعيين الخلفاء العثمانيين وعزلهم لأكثر من قرنين من تاريخ الدولة العثمانية.

لذلك؛ كان من الطبيعي عندما تسقط الخلافة العثمانية وتحل مكانها دولة تركيا المعاصرة، أن يكون الجيش هو حامل أختام الحكم والسلطة، وذلك بعد أن اخترقته المنظمات الماسونية والأفكار الطورانية والجماعات اليهودية، فصار الجيش التركي حامي حمى اللادينية والقومية والشعوبية، ويمكن القول إن فترة أتاتورك (1923-1938م) لم تشهد أي تدخلات انقلابية من الجيش لتغيير نظام الحكم، بل كان الجيش هو حامي ذلك النظام ووسيلته لبسط الاستقرار على مدى 15 عاماً، في ظل هيمنة حزب سياسي وحيد خرج من رحم العسكرية الأتاتوركية هو حزب "الشعب الجمهوري".

خلال الفترة الممتدة من سنة 1960 حتى سنة 1995 شهدت تركيا عدة انقلابات عسكرية، جميعها قام بها العسكر التركي لسبب واحد فقط، وهو "قطع الطريق على أي محاولات للإحياء الإسلامي" والحفاظ على مبادئ أتاتورك والعلمانية المتطرفة في تركيا، هذه الانقلابات العسكرية جاءت كالتالي:

1 - انقلاب سنة 1960، حيث تدخل الجيش الذي أعلن قائده آنذاك ألب أرسلان تركش في يوم 27 مايو 1960م، أن الجيش قد سيطر على مقاليد إدارة البلاد. نتيجة لذلك شكلت محاكمات قضت بإعدام رئيس الوزراء عدنان مندريس بتهمة الانحراف عن مبادئ أتاتورك واعتناق الأفكار الرجعية؛ لأنه أعاد الأذان بالعربية، كما حكم على رئيس البلاد جمال بيار بالسجن مدى الحياة.

2 - انقلاب 1971، وفيه انقلب الجيش بسبب خسارة حزب الشعب الانتخابات لصالح حزب العدالة الذي يميل لناحية المحافظين، فانقلب الجيش وألغى الانتخابات وسيطر على المشهد مع حزب الشعب.

3 - انقلاب كنعان إفرين سنة 1980، وجاء أيضاً للسبب نفسه السابق وهو فشل حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات، وهكذا دأبُ الفاشلين سياسياً في كل زمان ومكان يبحثون عن ظهر دبابة يعتلونها لاقتحام المشهد السياسي. بعد الفشل الذي جناه حزب الشعب لم يبقَ أمامه سوى التآمر مع العسكر لقلب نظام الحكم، وقاموا بالانقلاب 12/9/1980 بقيادة كنعان إفرين، الذي علق الدستور وأعلن الأحكام العرفية في تركيا، وحكم البلاد مباشرة دون غطاء مدني، وأصدرت المؤسسة العسكرية قراراً بتعليق نشاط الأحزاب ثم حلها، كما أصدرت دستوراً جديداً في 12/9/1982 مُنح بموجبه رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة لم يتمتع بها أي رئيس جمهورية تركية قبل ذلك، وتضمن دستور 1982 نصاً صريحاً في المادة 13 على حظر الأحزاب الدينية والفاشية والاشتراكية، وبذلك تم حظر الأحزاب المناوئة لحزب الشعب والعلمانية، وحاول العسكر بهذه الإجراءات إعادة ترسيم الخريطة التركية جغرافياً وسكانياً ودينياً ومذهبياً وحزبياً.وفي المقابل سُرّت أوروبا بهذه الخطوات وكافأت الانقلابيين بدعم لا محدود وقبول تركيا في الاتحاد الجمركي الأوروبي.

4 - انقلاب العسكر في 1996، وفيها انقلب العسكر على أول حكومة إسلامية بقيادة نجم الدين أربكان، زعيم حزب الرفاه الإسلامي الذي فاز في الانتخابات في أواخر 1995، وشرع في إدخال إصلاحات سريعة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التركية، ما أغضب العلمانيين ودعاهم إلى تحريك الأذرع العسكرية ضد الحكومة المنتخبة، فلم يمهله الجيش سوى شهور قليلة وانقلب عليه في أواسط 1996، وباستخدام دستور 1982، وبتفسير مواده على أساس أن أربكان يسعى إلى تطبيق الشريعة وإعادة النظام الرجعي، فحُظر الحزب، وأُدخل أربكان وكبار معاونيه السجن، وعُزل معظم قادة الحزب سياسياً.

ثالثاً: الانقلابات العسكرية في الجزائر
للجزائر وضعية أممية خاصة، فهو بلد كبير مترامي الأطراف ظل يرزح تحت نير الاحتلال الفرنسي لمدة 132 سنة متصلة، ودفع فاتورة استقلال هي الأبهظ والأعلى في التاريخ الحديث وربما القديم أيضاً، إذ سقط قرابة المليوني شهيد من أبنائه في ميادين الكفاح ضد المحتل الفرنسي شديد الصليبية والعنصرية في آن واحد، لذلك كانت أوضاع الجزائر السياسية بعد الاستقلال سنة 1962 بها قدر كبير من التباينات والتجاذبات بين رفقاء الكفاح الثوري؛ ثلاثة من المتزاحمين على السلطة كانوا على الساحة: الحكومة المؤقتة التي أسسها حزب الجبهة في 1958، والقادة العسكريون، وقادة الولايات، وتغلف النزاع بينهم حتى قبل الاستقلال بالجهوية والعقيدة الفكرية، وفي النهاية تم الاتفاق على أحمد بن بلّه رئيساً لتاريخه في النضال سنة 1962، ولكن على دخن، لذلك سرعان ما أطاح به وزير الدفاع القوي هواري بومدين سنة 1965.

انقلاب بومدين سنة 1965:
بومدين كان رجلاً عسكرياً من الطراز الأول، شديد البطش والاستبداد، فجمع كل السلطات والصلاحيات في يده، وعطّل العمل بالدستور والمجلس الشعبي، كما عيّن أتباعه في المراكز القيادية، وكان الهدف المعلن إعادة إحياء قيم الثورة، وكان بومدين يميل نحو الفكر الناصري، فراح يقلد عبد الناصر في تطوير الجزائر، فحقق نجاحاً ملحوظاً بسبب النفط والتوسع في الصناعات، لكن المسار السياسي ظل مسدوداً بالكلية أمام التعددية الحزبية والتداول السلمي والحريات العامة، فلم يتغير الحقل السياسي، بقي كالاقتصاد مقفلاً بين يدي العسكر.. في المجمل استقرت الجزائر لكن بسبب السياسات القمعية والاستبدادية لبومدين.

الانقلاب الدموي سنة 1992:
بعد رحيل بومدين سنة 1977 تولى مكانه أكبر قادة العسكر العميد الشاذلي بن جديد، فلم يحد في سنوات حكمه الأولى عن سياسات بومدين الاشتراكية، ومع الوقت أخذ في الانفتاح والتحلل شيئاً فشيئاً عن اشتراكية بومدين، فانتهج سياسة السوق الحر والانفتاح الاقتصادي، وكان لهذا التحول أثره في الطبقات الوسطى والعمالية، فاندلعت مظاهرات عارمة في أكتوبر سنة 1988 قمعها الجيش بمنتهى القسوة، وسقط مئات الضحايا، فاستغل بن جديد الأمر وخرج معتذراً للشعب عن الأحداث، ثم قام بإبعاد الجيش عن الحياة السياسية تماماً، وعزل العديد من قادته، كما أنه سمح بتأسيس الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية والشيوعية، ورخص لهم بدخول الانتخابات، وكتب دستوراً جديداً للبلاد تخلص فيه من الاشتراكية كعقيدة للدولة، كما تخلص من سطوة العسكر في الحياة السياسية، وعقد الانتخابات البلدية والتشريعية في سنة 1991 ليفوز تحالف الأحزاب الإسلامية المنضوي تحت لافتة "جبهة الإنقاذ" بغالبية المقاعد في البرلمان، وبدا للعيان أن الدولة ذاهبة في اتجاه الإسلاميين، عندها أوعزت فرنسا صاحبة النفوذ والمصالح الكثيرة والمتشابكة مع الجزائر إلى وزير الدفاع الجزائري "خالد نزار" بالتحرك نحو منع الجولة الثانية من الانتخابات، ورفض نتائج الأولى، فشنَّ حملة كاسحة ضد جبهة الإنقاذ واصفاً الإسلاميين بأنهم تكفيريون وخطيرون.

عادت الجزائر لقمة التوتر السياسي، وأعاد الجيش انتشاره في الولايات في حالة إنذار على مساحة البلاد، كما نزلت الدبابات لشوارع العاصمة، وجهزت حواجز أمنية عسكرية، وأجبر الشاذلي بن جديد على الاستقالة بسبب رفضه هذه الإجراءات الانقلابية، وأحكم الجيش قبضته على المشهد السياسي، وتم جلب "محمد بوضياف" من فرنسا، وكان أحد القادة التاريخيين لثورة الاستقلال، ليلعب دور الغطاء المدني للانقلاب العسكري.

العلمانيون في الجزائر رحبوا بهذا الانقلاب على الديمقراطية والشرعية خوفاً من وصول الإسلاميين، وقامت الأحزاب الاشتراكية والنقابات العمالية بتسيير مظاهرات حاشدة ضد جبهة الإنقاذ، ومنع العسكر كل نشاط سياسي للجبهة حول المساجد، موقفاً كل منخرط فيها بتهم حيازة أسلحة أو الاستعداد لتمرد شامل، وكانت قرارات المحاكم العسكرية بالسجن الممدد أو الموت دون حق طعن. وقام العسكر بنقل آلاف الإسلاميين للصحراء، والمئات عذبوا في المخافر. أغلب قادة الجبهة اعتقلوا، كما هاجر آخرون أيضاً.
الحرية التي أعطيت قبلها للصحافة عادت منكمشة، كما عطل مجلس الشعب، وأصبحت الجزائر وقتها دولة المخابرات الفرنسية الممتدة عبر البحر المتوسط من ناحية الجنوب. أما البو مضياف فقد تم التخلص منه على يد العسكر بمجرد التفكير في إعادة الحياة السياسية والمسار الديمقراطي، ليدفع حياته ثمن رضائه لعب دور التيس المستعار.

ومنذ عام 1993 حدثت تغيرات عميقة في المؤسسة العسكرية هدفت إلى تصعيد الضباط الأكثر عداءاً للحركة الإسلامية، حيث تمت ترقية اللواء محمد العماري ليصبح قائداً لهيئة الأركان، واللواء محمد التواتي قائداً لجيش البر، وتمت في الفترة نفسها إحالة مجموعة من الضباط الكبار للتقاعد وترقية بعض الضباط الشباب، لتدخل الجزائر دوامة عنف ودماء مرعبة راح ضحيتها مئات الآلاف بين قتيل وجريح، واستخدم العسكر أحط الأساليب وأقذرها في محاربة الإسلاميين الذين لم يستكينوا لهذا الطغيان البشع، ولعبت أجهزة المخابرات الفرنسية والجزائرية دوراً كبيراً في هذه المجازر البشعة التي كانت تلقي باللائمة فيها على الإسلاميين، ومرت عشرية سوداء على الجزائر ما زالت آثارها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية قائمة حتى الآن.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق