من الأزمة إلى الفرصة
قـلـم الـتحـرير الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فالأزمات التي تتصاعد في بلاد المسلمين ليست شراً محضاً، بل قد تحمل في ثناياها خيراً كثيراً، وهذا من معالم اختلاط الخير بالشر في هذه الحياة؛ فالأزمة يمكن أن تتحول إلى فرصة إذا أحسنّا إدارتها، وقراءتها بوعي، فمن الفرص التي يمكن استثمارها في ظل الأزمات:
أن حصول الأزمة فرصة لتذكير الأمة بالعودة الصادقة إلى الله – عز وجل –، وحُسن الصلة به، واللجوء إليه؛ فالذنوب من أسباب تنزّل العقوبة والابتلاء، والتوبة سبب لتنزّل الرحمة والفرج، قال الله – تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } [الشورى: 30]، وقال سبحانه: {أَوَ لَـمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79]، وذمَّ الله – عز وجل – الكافرين الذين لا يتّعظون بالفتن، فقال سبحانه: {فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43].
ومن أفضل الأعمال التي يستحث لها الناس عند نزول الفتن، ما جاء بيانه في الآية السابقة، وهو: التضرع إلى الله – تعالى – والاشتغال بعبادته، قال سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: ٥٤]، وعن معقل بن يسار – رضي الله عنه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العبادة في الهرج كهجرة إلي)[1]، فعدَّ العبادة عند الفتن واختلاط الأمور بمنزلة الهجرة إليه، والسبب في ذلك: أنَّ الناس يغفلون عن العبادة، ويشتغلون عنها[2].
فالصلة بالله – عز وجل – تعمر القلب بالطمأنينة، وتملؤه بالراحة، وتزيل عنه الخوف، وتذهب الوحشة من النفوس، ويستنزل بها نصر الله – تعالى -، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها: بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم)[3].
المحن والشدائد رغم مرارتها وآلامها إلا أنها تحمل في ثناياها منحاً ربانية؛ تخفف من المصاب، وتقوي العزيمة، قال الله – تعالى -: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].
وعن صهيب – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا المؤمن؛ إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له)[4].
واستشعار هذا المعنى يملأ قلوب الناس طمأنينة ورضاً وحمداً.
والطمأنينة لا تتحقق إلا بالاستعانة بالله – عز وجل – والانكسار بين يديه، قال الإمام ابن القيم: «العبد دائماً متقلب بين أحكام الأوامر وأحكام النوازل، فهو محتاج بل مضطر إلى العون عند الأوامر، وإلى اللطف عند النوازل، وعلى قدر قيامه بالأوامر يحصل له من اللطف عند النوازل، فإن كمل القيام بالأوامر ظاهراً أو باطناً، ناله اللطف ظاهراً وباطناً، وإن قام بصورها دون حقائقها وبواطنها، ناله اللطف في الظاهر، وقلَّ نصيبه من اللطف في الباطن.
فإن قلت: وما اللطف في الباطن؟
فهو: ما يحصل للقلب عند النوازل من السكينة والطمأنينة وزوال القلق والاضطراب والجزع، فيستجدي بين يدي سيده ذليلاً له ناظراً إليه بقلبه ساكناً إليه بروحه وسره، قد شغله مشاهدة لطفه به عن شدة ما هو فيه من الألم، وقد غيبه عن شهود ذلك معرفته بحسن اختياره له، وأنه عبد محض يُجري عليه سيده أحكامه رضي بها أو سخط، فإن رضي نال الرضا، وإن سخط فحظه السخط. فهذا اللطف الباطن ثمرة تلك المعاملة الباطنة، يزيد بزيادتها وينقص بنقصها»[5].
من السنن الشرعية الثابتة أن تغيير ما بالأمة من هزيمة، أو إزالة ما حل بها من عقوبة؛ لا يكون إلا بعد تغيير واقع الناس، كما قال سبحانه وتعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: ١١].
وتأكيد هذه المعاني والسنن يعين – بإذن الله – على تجاوز الأزمات، وتوظيفها في الاتجاه الصحيح للإصلاح والتغيير. والجزع والتذمر والتشكي لن يغير من الواقع شيئاً، وإنما يغيره العمل والصبر والإصرار على المضي في الطريق.
من المعاني العظيمة التي ينبغي تربية الأمة عليها، خصوصاً عند الأزمات؛ تأكيد أنه لا ناصر ولا معين إلا الله – عز وجل -، فلا يتعلق قلب المسلم بأي قوة أرضية، بل يلتجئ إلى ربه – عز وجل - متوكلاً عليه، منكسراً بين يديه، ومتضرعاً إليه وحده – سبحانه وتعالى -، كما قال: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ الْكَافِرُونَ إلَّا فِي غُرُورٍ 20 أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 20-21]، وقال: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} [الكهف: 43]؛ فكل انتصار بالقوى الأرضية مهما امتد سلطانها وتعاظم جبروتها، هزيمة وخسار!
لكن نصر الله – تعالى – لا يتنزّل إلا على المؤمنين الناصرين لله، كما قال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْـمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، قال الإمام السعدي: «أي: أوجبنا ذلك على أنفسنا، وجعلناه من جملة الحقوق المتعيّنة، ووعدناهم به، فلا بد من وقوعه»[6]؛ فذلك عهده ووعده، قال جلت عظمته: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40]، وقال: {إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: ٧].
من الضروري العناية بالدراسات الاستشرافية التي تقرأ المستقبل برؤية علمية من خلال معطيات الواقع، وتحليل مكوّناته وآثاره، والوعي بطبيعة وحجم التحديات والمشكلات التي تعترض طريق الأمة.
والقدرة على فهم الأزمة وتحليل أبعادها تعين كثيراً في إدارتها وتوجيهها بطريقة راشدة، أما القصور في فهمها واستشراف آثارها لا يزيدها إلا شدة.
ومن ثم فإن الأزمات التي تحلُّ بمنطقة ما من مناطق المسلمين، فرصة لتوعية القادة والمصلحين بآليات وطرق إدارة الأزمات، وتدريبهم على التعاطي العملي مع المشكلات[7].
حصول الأزمة فرصة لتوحيد الصف، وتعزيز أواصر الأخوّة في البلد الواحد، وإزالة النعرات الجاهلية وعوامل الفرقة؛ فالاجتماع سبب من أسباب القوة، والتنازع والاختلاف من أعظم أسباب الوهن والضعف، قال الله – تعالى -: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
من الأدواء المزمنة التي وقع فيها كثير من المسلمين، هزيمتهم النفسية أمام الغرب، واغترارهم بشعاراته، وتمجيدهم قيمه، حتى درجوا على تقليده حذو القذة بالقذة، في تسويق مخزٍ لفكره ومبادئه في عالم السياسة، وفي عالم الثقافة والاجتماع على حد سواء.
لكن الجراحات والمآسي التي وقعت في هذه الأمة كشفت الوجه القبيح للغرب، وأدرك المسلمون كثيراً من أكاذيبه، ابتداء بأكذوبة حقوق الإنسان، مروراً بأكاذيب الديمقراطية، والحرية، والمعايير المزدوجة، والتوحش العسكري والسياسي المفرغ من أي حس إنساني أو أخلاقي... ونحوها.
وهذا السقوط الذريع لشعارات الغرب وقيمه، يمثل فرصة حقيقية لتأكيد الهوية الإسلامية المعتزة بعقيدة الإسلام وقيمه وثوابته التي تنهى عن التبعية والتقليد الأعمى؛ ففي كل نازلة تمر بها الأمة ندرك حقاً معنى قول الحق – تبارك وتعالى -: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
وهي فرصة لإسقاط الأقنعة عن بعض أهل الأهواء من بني جلدتنا، الذين ما زالوا مع كل هذه الفضائح الأخلاقية والسياسية يمجّدون الغرب، ويلهثون في ركابه، ويحاولون تجميل وجهه القبيح.
في كل نازلة تمرُّ بها الأمة يتبيَّن بجلاء أنَّ الضعيف لا قيمة له، فالعدو يستهين به، ويزدريه، ويبخسه حقوقه، وينتهك حرماته؛ أما القوي فإنه يُهاب، ويحسب له ألف حساب.
فهذه الجراحات ينبغي استثمارها لحث الناس على امتلاك مصادر القوة والعزة، وبذل الأسباب المشروعة لتحقيق المنعة، ومعرفة مواضع الضعف لاتقائها، وهذا من مقتضيات قول الحق – تبارك وتعالى -: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْـخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].
هذه الجراحات التي تحدث للمسلمين في دول الأطراف والأقليات المسلمة النائية، فرصة لإذكاء وتعزيز انتمائهم لأمتهم، وإحياء ارتباطهم الوثيق بجذورهم العقدية، وعمقهم الحضاري، وأنَّ إخوانهم المسلمين وإن قصّروا فيما مضى في حقهم فإنهم الآن لهم نعم النصير والمعين والمغيث.
وحين يرى أولئك المستضعفون إخوانهم يهبُّون لنصرتهم، ويفزعون لنجدتهم، ويؤثرونهم بأموالهم؛ فإن ذلك أبلغ أثراً في نفوسهم من كثير من الكلام، وما أجمل قول ابن الجوزي: «الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول»[8].
:: مجلة البيان العدد 325 رمضان 1435هـ، يوليو 2014م.
[1] أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم (2948).
[2] انظر: شرح صحيح مسلم للنووي، (18/88).
[3] أخرجه النسائي في كتاب الجهاد (6/45)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/443)، وفي صحيح سنن النسائي رقم (2978).
[4] أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، رقم (2999).
[5] الفوائد (ص 202).
[6] تفسير السعدي (ص 756).
[7] من المفيد مراجعة كتاب: (إدارة الأزمة.. مقاربة التراث والآخر)، تأليف: الأستاذ الدكتور/ عبد الله إبراهيم الكيلاني.
[8] صيد الخاطر، (ص 144).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق