عندما غنى سيد قطب!
أحمد أبو خليلكاتب ومدون مصريلم يلفتنى لعاطفة سيد أنها متفجرة، ولا لمشاعرة أنها نفاذة، ولم يجذبنى لغزلياته أنها بارعة فى وصف المرأة، ولا مستميلة مطربة لرغائبها، ولكن ما جذبنى لها أنها "مكتملة"، أو ربما بشكل أدق تسعى للاكتمال، عاطفة وحب تبدأ من المرأة لتفيض وتشمل الوجود
هذا الشاب
"نفسُهُ خيّرة مُحبة، يغمر الحنان جوانبها تريد – لو استطاعت- أن تبسِم لكل شيء، وأن يَبسم لها كل شيء، وهي تعشق الرضا والهدوء وتتلمسه في كل ناحية وفي كل مظهر من مظاهر الحياة، وتود لو كانت الحياة منبسطة هادئة لا عوج فيها ولا نتوء.
تصطدم هذه الطبيعة بالواقع فتحار وتتألم وتشكو، وقد تغضب وتنفعل، وقد تسخر وتهدد بالانتقام، ولكنها مع ذلك تحتفظ بخيرها وحنانها في أشد ساعات الغضب والانفعال والسخرية، وهي تود ألا تغضب وألا تنفعل في يوم من الأيام، حتى إذا انتهى ذلك الموقف عاد إليها حنانها، وعادت تبحث عن مظاهر الود والمحبة بحث اللاهث المستزيد.
وكل ذلك في غرارة بريئة مندفعة في رضاها وسخطها على السواء، وفي طفولة كبيرة لا تخرج منها إلا وهي تحن إليها، وتسخط على الحوادث والتجارب التي فجعتها فيها"
شاب فى النصف الأخير من عقده الثالث، كذا يصف نفسه الشاعرة، كذا يتحدث عن نفسه كواحد من الشعراء الشباب – فى مقالة له – غير مغتر ولا وجِل، كأفضل مقدمة قصيرة بكلمات بليغة يقدمها عازف ناى على خشبة مسرح لجمهوره قبل أن يلتقم آلته ويشنف الآذان.
وأيا ما كان من رحلة هذا الشاب وما تلاها وتعاقب عليها، فإن من الجرم أن لحنا خرج من قلب كهذا لا يُسمع، ولا يُعرف، وأيا ما كان من مسيرة هذا الرجل فإن الذين يلتفتون للسمات الفكرية، والمكونات الثقافية لأى مفكر أو مثقف لحرىٌ بهم أن ينظروا أيضا فى سماته النفسية ومكوناته الوجدانية حتى يفهموا يوما .. ما خلف كلماته، وما بين أسطره !
عين الخيال
"ما الفرق بين الخيال والواقع، إذا كان كلاهما يستجيب له القلب والذهن، ويترك آثاره فى النفس والحياة ؟ وما الفرق بين الحلم والحقيقة، وكلاهما طيف عابر، يلقى ظله على النفس ثم يختفى منه عالم الحس بعد لحظات .."
هكذا أنهى سيد قطب روايته "أشواك" التى لم تكن لونا أدبيا يضرب فيه بسهم بقدر ما كانت ستارا شفشفا ينقش من خلفه قصته الأولى والأخيرة، يودع عذاباته وأشواقه بين دفترها للأبد، يطلقها من قفص روحه ترفرف فى الفضاء، يتخفف منها استعدادا لرحلة مختلفة، وطريق طويل شاق، لا تمثل له فيها تلك الصفحات إلا ذكرى عابرة
قد لا تجد طوال صفحات الرواية ما تعهده فى لغة سيد قطب، قصة عادية قد تحدث مع أى شاب، أحدهم يتقدم لخطبة فتاة، فيعرف بعد الخطبة أنها كانت تحب آخرا، فيحجم تارة ويتركها تختار، ويقدم تارة ويجعلها تنسى، حتى ينتهى الأمر – بعد أحداث كثيرة - ويقرر الرحيل تماما، وبعد عامين يلقاها مرة فى الطريق ومعها طفل سمته بنفس الاسم الذى اتفقا عليه لو أنجبنا بعد الزواج، يسلم عليها ويقبل طفلها (أو طفله) ويسير بصحبتهما دقائق حتى محطة الترام، ثم تتلاشى خيطوها، خيوط المرأة وخيوط القصة معا.
لقد كانت الشهور التى قضاها قبل هذا اللقاء مغلقا قلبه عليها يتخيلها فى كل يوم حبيبته هو فقط، وكانت كل السنوات التى تلت هذا اللقاء امتداد لتلك اللحظة، بهذه القوة يقرر الرجل أن الخيال فى عقله حقيقةٌ، واليقين فى قلبه واقعٌ، فى هذه الفقرة الأخيرة من الرواية تجد سيد قطب الذى تعرفه فيما بعد، والذى عرفته الأجيال، صلبا قويا، معلما متعاليا، يرى كل الحقائق بـ "عين الخيال"، الخيال الذى هو أبعد ما يكون عن الواقع، قد ركّب له عينا، تلك التى هى ألصق ما تكون بالحقيقة !
ربما هذه الروح هى التى جعلت من غناءه شيئا يلمس الوجدان بقوة، ويثير الحس بعنفوان، إيمانه الشديد ما يشعر به، لو كان حلما فإنه يصوره كما لو كان حقيقة، ولو كان تمردا يصورة كما لو كانت ثورة، ولو كانت شكوى أو تبرم من الحياة حتى فإنه يكون حادا مؤلما كشعور من يشرف على حتفه
السر
"إن السر العجيب – في قوة التعبير وحيويته- ليس في بريق الكلمات وموسيقى العبارات، وإنما هو كامن في قوة الإيمان بمدلول الكلمات وما وراء الكلمات، وإنه في ذلك التصميم الحاسم على تحويل الكلمة المكتوبة إلى حركة حية، والمعنى المفهوم إلى واقع ملموس"
لم يُعرف سيد قطب شاعرا رغم أن له ديوان كامل معنونا بـ "الشاطىء المجهول" به 62 قصيدة، إضافة إلى عدد من القصائد المنشورة فى المجلات والجرائد الثقافية المختلفة حقق منها الدكتور عبد الباقى محمد حسين فى كتابه "سيد قطب حياته وأدبه" 67 قصيدة، أشهرها "أخى أنت حر وراء السدود" - تلك التى لم ينفك فيها عن أن يرى بعين خياله فيقرر أن ذلك السجين بين جدرانه حرا، فى قيوده حرا - وقد دارت مجموع قصائده حول التمرد والشكوى والحنين والتأمل والغزل والوصف والرثاء وبعض الوطنيات.
مُنعت قصائد سيد قطب وأدبه كما منع فكره إثر إعدامه، وعندما عاد فكره لم يعد معه أدبه، حجب أدبه فى الأولى شانؤوه، وحجبه فى الثانية محبوه، رغبة منهم فى بناء صورة ذهنية للرجل على قدر أدمغتهم.
أشعار سيد قطب ربما ليست فى لغة الشعراء القدماء من البلاغة والجزالة، تلك التى يخرج المغنون منها فى عصرنا هذا كنوزا تُغنى من المجنون وحتى ابن عربى، وربما ليست فى رونق بعض المحدثين من براعة التصوير وجرس الكلمات، فهو عندى ليس خليل مطران، ولا أبو القاسم الشابى، ولكن ربما هو ذلك "السر" الذى تحدث به عن نفسه فى كل كلماته، أنها قوية، صافية وصادقة
وبالغزل يحلو الغناء، وغزليات سيد على وجه التحديد – كما كل شعره – كانت متأثرة بمدرسة الديوان، وبزعيمها العقاد، فأحيانا تجد الصور الذهنية طاغية، ولكنها لم توغل إيغال العقاد ومن شايعه، وفى نفس الوقت بها مسوح من صور مدرسة أبوللو التجديدية وشعرائها، فأخذت من الأولى القوة والعمق، ومن الثانية الخفة والسلالسة، مما جعل منها لحنا متفردا
فى غزليات سيد لا تشعر أنها موضوعا مستقلا من أحد مضامينه الشعرية، بل تشعر بأنها عضو فى تلك الوحدة الكبيرة، يقدم لها بالحنين، ويغلفها بالشكوى، يثور عليها بالتمرد، ويوغل فيها بالتأمل والوصف، ويختم بعضها بالرثاء
أنا بانتظارك ما أبالى .. رضى الهوى حكم الجمالِ
غيبى إذن أو فاحضرى .. أنا قانعٌ فى كل حالِ
راضى بأحلامى التى .. تضفى عليك حُلى الجلالِ
هى أنت
هى .. تلك الغائبة التى يعرفها جيدا، رسمُها فى لحاظه يُبرق، وصوتها فى أذنه يُطرب، يعرف أنها هناك فى مكان ما، لا يفصل بينها وبينه سوى غلالة رقيقة من زمان ومكان مقدرين، "هى" يأتى بعدها مباشرة "أنت"، أنت .. تلك الحاضرة، المخاطَبة، التى انتفض طائرها من قلبه وعقله فتلبث بإحداهن فأصبحت واستحالت على الفور من "هى" إلى "أنت"، فما أروعه حيث كان خيالا، وما أحلاه عندما صار حقيقية.
إنها لالتذاذة كاملة، فبدون "هى" فى الخيال يكون الواقع ناقصا، كأى قلب فارغ من صورة امرأة فيصادف إحداهن فتقع فيه على غير موضع لها مقدود من قبل، لا يعانى بحثا ولا جهدا، ولا يعرف مكابدة، تأتى سهلة، وقد تذهب سهلة أيضا .. وبدون "أنت" متمثلة بلقيا ووصال فى عالم الحس، تبقى تلك الصورة الخيال عذابا من عذابات العمر يتلظى فيها المرء حتى حتفه، أو ذكرى بعيدة ينشغل بنوائب الدهر، وعظائم الأيام عنها
هى أنت التى أطافت بنفسى .. وتراءت فى خاطرى من بعيد
مطلع قصيدة "هى أنت" معزوفة من إحدى سيمفونياته، لما ذقت بعض كلماتها عرفت ما الذى أتى به سيد قطب عندما غنى .. عندما كان فى البدء يتلقى الأغانى فى قريته أولا، بقلب رهيف وعين تقع على طفلة وادعة فتحرك فى نفسه شيئا تجاهها لا يعرف كهنهه، وتظل تلك الروح من وقتها تطيف به وتتراءى له من بعيد، تحفها ظلال من الأمانى التى لا تفارق خياله، يتعلل بالآمال، حتى يتبلغ بالمآل، حتى إنه فى مطلع معزوفة أخرى يدندن بجلاء :
أحبك كالآمال إذ أنت مثلها .. تذكين فى نفسى أعز مواهبى
هى أنت التى تلاقيت روحا مع روحى .. فهامتا فى الوجود
هى أنت التى تحدثت عنها .. خطراتى فى يقظتى وهجودى
إن تكونى إذن فذاك فؤادى .. كله خالصا نقى العهود
شجعينى على الجهاد طويلا .. فجهاد الحياة جد شديد
أشعرينى بأن قلبا نقيا .. يرتجى ساعدى ويهوى وجودى
نظرة منك وابتسامة حب .. تجعل الصعب لينا كالمهود
فإذا الكون والحياة جمال .. وإذا العيش فسحة فى الخلود
"لقيا الأرواح" بما تشى به من تحرر كلى من الأجساد والحسيات، "الهيم" بما يحمله من معنيى الانطلاق بخفة، والتيه بلا هداية، طالما كان ذلك بعد لقياها هى/أنت، "حديث الخاطر" بما يرسمه من صور لا حدود لها صباح مساء .. مساء صباح
كل ذلك إن كنتيه فإنى ساعتها – إذن – أقدم أغلى ما أملك، "فؤادى" الذى هو مختصر لنفسى، لا أقدمه فقط بل أقدمه "كله خالصا"، وامتلاءُ القلب بها بغية للشاعر عبر عنه أيضا فى بيت شبيه عندما دندن :
أحبك من قلبى – الذى أنت ملؤه - .. ومن كل إحساس بنفسى ذائب
أما "الحياة" و "الجهاد" و "الصعاب" فإنها لا تغادر صورة صاحبنا المرسومة بدقة، فهى شاخصة رغم طغيان عالم الحب والمثالية، وكل ما هو مطلوب منها فى خضم هذه العقبات أن تحوطه بمهاد بعينيها، وتظله بوريف قلبها، كل ما هو مرجو منها أن تكون معه، تحبه، تهوى وجوده فى الحياة، وإنها طاقة لو أمدته بها لاستحال كل صعب فى الحياة سهلا مستطاعا
ويبدو أن لوحة كهذه عندما ينتهى صاحبها من رسمها، يقف أمامها، فيهتف من أعماقه، أنها مؤكد ضرب من الخيال، لا تنتمى لهذا العالم الذى نعيش فيه، نفحة من الحياة السرمدية، رسول من السماء يكشف لأهل الأرض بعضا من مفاتن الفردوس، طاقة تنفتح لك فتبصران معها قصور الجنان .. فإذا الكون والحياة جمال .. وإذا العيش فسحة فى الخلود!
حب صاحبنا
لم يلفتنى لعاطفة سيد أنها متفجرة، ولا لمشاعرة أنها نفاذة، ولم يجذبنى لغزلياته أنها بارعة فى وصف المرأة، ولا مستميلة مطربة لرغائبها، ولكن ما جذبنى لها أنها "مكتملة"، أو ربما بشكل أدق تسعى للاكتمال، عاطفة وحب تبدأ من المرأة لتفيض وتشمل الوجود، أو هى فائضة وغامرة لكل شىء حتى تصل إلى منتهاها فى قلب امرأة، أو كف أخ، أو روح حيوان صغير (كتب قصيدة كاملة فى رثاء قطة له)، والعجب العجاب أن يعبر هو عن نفسه بأفضل ما تعبر أى كلمات عنه، فيقول عن نفسه ..
"ولو تهيأ لصاحبنا أن يتخيل الكون من جديد ما أحسبه كان يتخيله إلا حدائق ومتنزهات تجري من تحتها الأنهار، وتغرد فيها الأطيار، وتجمع فيها الأصدقاء والخلان والمحبون للتناجي والسمر الهامس اللطيف، ولا ضجيج ولا اضطراب، ولا تجني ولا تزاحم في ذلك النعيم المقيم.
وهذا الحب الذي يخفق به قلب شاعرنا ليس مقصوراً على حب المرأة ولا حب الأصدقاء، وما أردت ذلك فقط حين قلت إن نفسه محبة، وإنما قصدت إلى معنى أشمل هو معنى الحب العام الذي يغمر النفوس، فلا يدع فيها مكاناً للبغضاء أو الحقد، والذي يجعلها نزاعة أبداً إلى الاجتماع والعطف، وتلقي كل مظهر من مظاهر الحياة بنوع من القبول والرفق، فهو يودّ لو يشمل الكون جميعه بالحنان، وأن يشمل كل شيء في الكون بالحنان كذلك، يكون بينهما تعاطف وتراحم وتواد، وهذا الحب يظهر في حب المرأة، أو في حب الأصدقاء، أو حب العهود الماضية والدروب البالية، والأشجار الناضرة والذابلة، والطيور المغردة والنائحة.. فيكون كل أولئك منصرفاً لذلك الحب الشامل ومظهراً له، لا تستوعبه، ولكن تدل عليه، لأنه أكبر من أن ينحصر في بعضها أو فيها جميعها:
هو قلب ما درى كيف السرور لا ولا كيف يرائي أو يخون
يحفظ الود وحاشا أن يجور وَلَكَمْ يبكي لمرأى البائسين
وهو قد يصبر ويتجلد حين يصاب في نفسه، ولكنه يأسى لمصاب غيره، لأن هذا المصاب، يهيج فيه عاطفة الحنان الدفينة:
عجبت لنفسي لا تراع من الأسى ويقتلها خطب ينيخ على غيري
ويا ربما أبكي لمن خلت بائساً على حين يقضي ليله باسم الثغر
والقارئ لهذا الشاعر يجد حب المرأة، وحب الصديق، وحب الطبيعة – ولا سيما الأشجار والأطيار- وحب الذكريات والعهود والأطياف، وكل ذلك يسير معاً في تيار واحد، وبقوة تكاد تتماثل لأنها جميعها ترجع إلى معين واحد، هو معين الحب العام في تلك النفس الحانية الرؤوم".
من مقال للكاتب بمجلة الأسبوع - 1934
رحم الله سيد قطب ..
رحم الله سيد قطب ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق