إيران في تمددها وارتباكها .. ومن يواجهونها أيضا
ياسر الزعاترة
لا خلاف على أن ظروفا موضوعية هي التي أنتجت حركة الحوثيين؛ جوهرها شعور بعض الزيديين بالتهميش، وردهم "الطائفي" على تقدم السلفيين في معاقلهم، لكن المؤكد أنه لولا الدعم والتبني الإيراني للحركة ما كان لها أن تصل إلى هذا المستوى من القوة العسكرية، سواء تبنى بعضهم المذهب الإثني عشري بفعل التأثير الإيراني، أم ظلوا على المذهب الزيدي، لاسيما أن إيران غالبا ما تخلط بين الحسابات السياسية وبين الحسابات المذهبية، وإن فضلت الدمج بينهما، كما في حالة العلويين في سوريا الذين يعتبرهم الشيعة كفارا، لكن ذلك لم يحل دون التحالف مع آل الأسد، في ذات الوقت الذي شهدت سوريا نشاطات من أجل تشييعهم، بل حدث ذلك بطلب، وأقله بموافقة من حافظ الأسد قبل ابنه.
ليس هذا موضوعنا، لكن ملف الحوثيين يفرض نفسه على هذه السطور التي تعنى بمتابعة المشروع الإيراني في آخر تحولاته، إذ من العبث النظر إلى تصعيد الحركة الحوثية الأخير وصولا إلى محاصرة صنعاء بوصفه حدثا عاديا تفرضه استحقاقات الساحة اليمنية الداخلية، وحين ترتبط جهة ما على هذا النحو الوثيق بالمشروع الإيراني، فإن من الصعب عليها التحرك من تلقاء نفسها من دون توفر ضوء أخضر من قبل الدوائر المعنية في إيران، مع ضرورة التذكير هنا بأن إيران ما بعد روحاني لم تعد هي ذاتها قبله، إذ يتصارع مشروعان داخلها؛ الأول هو المعني بالتمدد المذهبي والسياسي في آن، فيما يركز الثاني على البعد الداخلي مع بعض الاهتمام بالشأن الخارجي، ولكن ليس على النحو الذي يتبناه الطرف الأول، بل إن الشعارات ذاتها قد أصبحت متباينة إلى حد كبير.
ففي حين ركّز الأول على شعار "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل"، يبدو لسان حال الثاني أقرب إلى شعار "التصالح مع أمريكا، التصالح مع إسرائيل".
ليس من العسير القول إن إيران تشعر بارتباك استثنائي، فهي تواجه نزيفا حقيقيا في سوريا منذ أربع سنوات، وفيما كان العراق التابع لها في ظل المالكي يساعدها على تحمل تبعاته، ها هو يتحوّل إلى عبء آخر، ما يضطرها، ليس فقط إلى التورط في مستنقعه، بل يضطرها أيضا إلى الدوس على شعاراتها التقليدية وقبول التعامل المعلن مع أمريكا من أجل صد تقدم "الدولة الإسلامية". وفي أي حال فإن عراق ما بعد سقوط الموصل بيد "الدولة الإسلامية" لن يكون هو ذاته قبلها، فإما أن يُحكم على نحو ينطوي على قدر من العدالة وإعادة الاعتبار للعرب السنّة، وإما أن يتواصل النزيف، كما أن عودته إلى دعم المعركة في سوريا تبدو مستبعدة في المدى القريب.
في المقابل كان لتقدم مشروع "الدولة الإسلامية" جانب آخر بعد شعور خصوم إيران، وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية بخطره عليها، وهو ما أنتج تسوية في لبنان أعادت الحريري إلى بيروت، كما أنتج قبولا سعوديا بحيدر العبادي بديلا عن المالكي، رغم أنه لا يختلف كثيرا من حيث النهج وطبيعة التفكير، وإن لم يكن بوسعه تجاهل الظروف الموضوعية التي جاءت به، ممثلة في فشل المالكي في استيعاب العرب السنّة، ومنحهم ما يدفعهم لترك السلاح.
في هذه الأجواء التصالحية مع السعودية كان من المنطقي أن لا تذهب إيران نحو تصعيد حوثي في اليمن، لكنها فعلت العكس، والسبب هو إرادتها إرسال رسالة للجميع بأنها لا زالت قوية وحاضرة، وما شجعها هو ارتباك السعودية في هذا الملف على وجه التحديد، وبالطبع لأنها جعلت أولويتها منذ ثلاث سنوات هي مطاردة ربيع العرب والإسلاميين (السنّة)، بخاصة التيار الإخواني، وحين يكون صراع الحوثيين الأساسي مع التجمع اليمني للإصلاح المحسوب على التيار الإخواني (صار مع كل اليمنيين عمليا)، فإن من الطبيعي أن تقف الرياض على الحياد، فضلا عن أن نجاح ثورة اليمن واستقرار البلد، وتقدم مسيرة الإصلاح لا يبدو مريحا في العموم، لأن الأفضل أن يظل وضعه مرتبكا بوصفه المنافس الأكبر في الإقليم.
لو كانت نوايا إيران هي التصعيد مع السعودية، لما كانت التسوية في لبنان مقابل دعم العبادي في العراق، ولكان التصعيد الأهم في البحرين الأكثر أهمية للسعودية، لكن حراك البحرين يبدو هادئا، وغالبا بإشارة من إيران، فيما يحدث عكس ذلك في اليمن.
كل ذلك يرتبط أولا بالملف السوري من جهة، وبملف الصراع الداخلي بين الإصلاحيين والمحافظين من جهة أخرى، ذلك أن إيران لم تغادر بعد مربع الأمل بالحفاظ على نظام بشار الأسد في سوريا، وهي تأمل أن تنتقل الحرب الأمريكية على تنظيم الدولة من العراق إلى سوريا، وصولا إلى تعاون بين بشار الأسد والغرب، تماما كما تعاونت إيران مع أمريكا في العراق.
لكن ذلك لا يبدو ناجعا، فالاستنزاف في سوريا طويل طويل، وحساباتها تختلف عن حسابات العراق، كما أن إقرار إيران الضمني بأن العراق لن يُحكم طائفيا، يستتبع اعترافا آخر بأن سوريا لن تُحكم من أقلية لا تتعدى عُشر السكان مهما طال أمد الحرب.
يبقى البعد الداخلي، وما إذا كان مسار الإصلاحيين سيواصل التقدم وصولا إلى اتفاق النووي مع أمريكا، ومن ثم تقدم سلطتهم العملية على مؤسسات الدولة، وإذا ما حدث ذلك فإن برنامج مشروع التمدد سيختلف، وسيكون التخلي عن بشار ممكنا ضمن صفقة إقليمية مع العرب وتركيا تشمل جميع الملفات العالقة، وتوقف النزيف الذي يطال جميع المنطقة، ويصبُّ بشكل استثنائي في خدمة الكيان الصهيوني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق