الأربعاء، 17 سبتمبر 2014

أميركا والإبادات الثقافية

عقلية اﻹرهاب المؤسسة للموقف اﻷمريكي


أميركا والإبادات الثقافية


-الكتاب: أميركا والإبادات الثقافية.. لعنة كنعان الإنكليزية

-المؤلف: منير العكش

-عدد الصفحات: 307

-الناشر: دار رياض الريس للكتب والنشر, بيروت

الطبعة: الأولى/يوليو 2009

قراءة/عدي جوني

"أميركا والإبادات الثقافية.. لعنة كنعان الإنكليزية" 

كتاب جديد للدكتور منير العكش, يتناول تاريخ نشوء الولايات المتحدة الأميركية كدولة ونظام على مبدأ احتلال الأرض واستبدال شعبها الأصلي بشعب آخر في إطار نظرية عنصرية تشرعن إبادة الآخر جسدا وثقافة وكيانا اجتماعيا باسم الدين والحضارة في إطار الفكر المنفعي الرأسمالي الذي طبقه المهاجرون الإنجليز على كافة المستوطنات التي أقاموها في العالم.

يقدم الكتاب -وهو ليس الأول في هذا المجال للدكتور العكش، أستاذ الإنسانيات واللغات الحديثة ومدير الدراسات العربية في كلية الفنون والعلوم بجامعة سفك بولاية بوسطن الأميركية- لمحة تاريخية للإبادة الجماعية بحق الهنود الحمر ويكشف الأسس الأيديولوجية والثقافية التي اعتمدها المهاجرون الأنجليز الأوائل تنفيذا مباشرا لفكرة "شعب الله المختار" القادم إلى مجاهل العالم حاملا مشعلي الحضارة والتمدن معتبرا السكان الأصليين "مجموعة كنعانية" لا تستحق سوى الموت بوجهيه الثقافي والمادي كما فعل "اليهود" بشعب كنعان في فلسطين التاريخية لإقامة دولة إسرائيل.

الكتاب يضم العديد من الوثائق التاريخية وخارطة تبين انتشار وتوزع المستعمرات البريطانية في العالم، واللافت للنظر أن الكتاب يتناول وثائق تاريخية تبين على لسان أصحابها الطريقة الممنهجة التي اتبعها المستوطنون في القضاء على الهنود الحمر لتثبيت احتلال الأرض على مبدأ "أرض بلا شعب" بما إن الهنود الحمر وتبعا "للأيديولوجيا الاستعمارية الإنجليزية" ليسوا شعبا وإنما مجرد حيوانات تعيش بلا أخلاق وبهمجية بربرية لا يمكنها أن تقدم سوى الخراب.


الثوابت التاريخية
ويعرض د. العكش –وهو سوري بالمولد فلسطيني بالاختيار كما يقول- الثوابت التاريخية الخمس التي رافقت نشوء وتأسيس أميركا، بل إن المتابع للسياسات الأميركية يرى أنها لا تزال مستمرة وإنما بأدوات مختلقة، وهي:

1-المعنى الإسرائيلي لأميركا.
2- عقيدة الاختيار الإلهي والتفوق العرقي والثقافي.
3-الدور الخلاصي للعالم.
4-قدرية التوسع اللانهائي.
5-حق التضحية بالآخر.

هذه هي الأسس الفكرية والثقافية التي يطرحها الكتاب وبالتفصيل لولادة بلاد العم سام منذ اكتشاف كريستوفر كولومبس العالم الجديد حيث يحتفل الأميركيون بهذا المستكشف بأنه الرجل الذي قدم للبشرية تجربة إنسانية قامت على مبادئ الحرية والديمقراطية متناسين أن هذه القوة الأعظم في العالم بالمعايير الجيوبولوتيكية الحالية نشأت وترعرعت وقويت على أجساد الهنود الحمر سكان القارة الأصليين الذين حرموا حتى الحق في الاحتفاظ بهويتهم الثقافية ومجتمعاتهم، ليتحولوا بنظر المبشرين بالحضارة الإنكلوساكسونية إلى مجرد فائض تاريخي.

ويقدم الكتاب استنادا على عدة وثائق تاريخية مادة غنية بالشواهد التي تعطي القارئ فكرة عن هوية أميركا، الأمر الذي يعيد طرح الأسئلة المهمة أمام هذا الامتداد العسكري الأميركي المنتشر في العالم حاليا عبر حاملات الطائرات والصادرات التكنولوجية والغزو الثقافي في كل مفاصل الحياة للشعوب الأخرى بشأن الصورة الحقيقية لا للشعب الأميركي بصفته الراهنة بالمعنى الاجتماعي أو حتى القومي بل بطبيعة الخطاب السياسي والتعامل مع الآخر عبر ما تفتخر به الولايات المتحدة وهو "المؤسسات الديمقراطية".

وهنا تأتي أهمية الوثيقة التاريخية التي يقدمها د. العكش في الكتاب ليعيد تظهير الطبيعة الفكرية والعقلية الأخلاقية التي قامت عليها هذه المؤسسات في تعاملها مع الشعب الأصلي للقارة الأميركية، حيث يقدم فقرة وردت في إحدى محاضر جلسات الكونغرس الأميركي في القرن التاسع عشر تقول:
"يجب مساعدة الحضارة على إبادة الهنود كما أمر الله يشوع أن يبيد الكنعانيين الذين لم يكونوا يختلفون عن هنود اليوم ثم إنه عوقب على تقاعسه عن الانصياع لأمر الله".

كنعنة الآخر
الكنعنة كمصطلح يعود تاريخيا إلى العبرانيين الذين عندما قدموا إلى فلسطين الكنعانية لم يجدوا أمامهم سوى "شيطنة الآخر" باسم الله والدين لتقديم المبرر على إبادة الشعب الأصلي الذين ألصقوا به كل الصفات الذميمة واستباحوه أخلاقيا وجسديا، وكما هو معروف أن فكرة الشيطنة تعود أصلا إلى فكرة الكنيسة في تعاملها مع معارضيها في أوروبا خلال القرون الوسطى وهذا ما ذكره الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه الجنون والحضارة في شرحه لآليات إنتاج خطاب السلطة (الدينية أو السياسية) عبر تشنيع الآخر وتجريده من كل الفضائل الأخلاقية ومساواته بالوحش أو الحيوان.

ويشرح د. العكش في كتابه مفهوم الكنعنة كسلاح اعتمده المهاجرون الإنجليز –ليس فقط في أميركا بل في كل بلاد العالم الجديد ومنها أستراليا ونيوزيلندا- من أجل "إبادة شعب واستبداله بأخر":

قد يكون هناك آلاف الآسباب لدخول شعب الله الإنجليزي مسرح الاستعمار، لكن ليس بينها سبب واحد يمكن وصفه بالأخلاقي.
 إن كل ما قدمته لهم عقيدة الاختيار وقصص التوراة هو أنها ألهبت عبادتهم لذاتهم وصقلت موهبة التشنيع والكنعنة لديهم، وزادتهم فجارة أخلاقية، خصوصا أن معظم أنبياء هذا الاستعمار الأخلاقي -مثل جون وايت- فسروا القصص التوراتية في الانتشار في الأرض بأنها أوامر إلهية للإنجليز باستعمار الأرض واستيطانها كلما أتيحت الفرصة وتساءلوا كيف يمكن طاعة أوامر الله دون الاحتلال والاستيطان؟" (الفصل الرابع ص 65).

ويقدم الكتاب مثالا آخر يوضح الطبيعة الوحشية لهذا الفكر القائم على استباحة الأخر مستشهدا بالفلسفة الأخلاقية للأسقف لانسلوت أندروس الذي يقول "الأرض صحن من اللحم الموضوع على المائدة يقطع منه الإنسان ما يشتهي. وما إن يضع قطعة في صحنه، حتى تصبح له. كذلك إذا اقتطعنا بلدا لا يوجد فيه سكان بيض، يصبح لنا". (الفصل الرابع ص 65).

"فكرة شعب الله المختار وإسرائيل التاريخية وجدت من يؤسس لها في إطار البحث العلمي بما يعرف بالدراسات الأنثروبولوجية لتقديم ما يدل على صحتها وإعطائها الشرعية العلمية الرصينة بعد أن منحتها الكنيسة الشرعية الدينية والأخلاقية"

كما يبين الكتاب أن فكرة شعب الله المختار وإسرائيل التاريخية وجدت من يؤسس لها في إطار البحث العلمي بما يعرف بالدراسات الأنثروبولوجية لتقديم ما يدل على صحتها وإعطائها الشرعية العلمية الرصينة بعد أن منحتها الكنيسة الشرعية الدينية والأخلاقية.

وقدم هؤلاء العلماء باسم القانون العلمي للتطور الحضاري تصنيفات تعتمد مبدأ العنصرية والتفوق العرقي لمنح الرجل الأبيض كل المسوغات الأخلاقية لاستباحة الشعوب الأصلية كما فعل فريدريك إنغلز. يقول د. العكش في كتابه "أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة" متوافقا مع ماركس وأدم سميث "واضع النظرية الرأسمالية" في "تصنيف الشعوب إلى بربر وهمج ومتحضرين" وبشكل يعطي الدليل القاطع بأنه لافرق بين أنثروبولوجي ماركسي وآخر رأسمالي.

القنبلة الثقافية

"اللغة والدين هما خط الدفاع الأخير للهنود ولا بد من القضاء عليهما" بهذه العبارة التي قالها مؤسس مدارس الهنود الحمر في أميركا الكابتن ريتشارد هنري برات، يقدم الفصل السادس من الكتاب الآلية التنفيذية لكنعنة الآخر، انطلاقا من القاعدة المعروفة بأن اللغة والدين هما من المكونات الحضارية والوجودية لأي أمة، فالتوالي الجيني لأمة قد يعطيها القدرة على البقاء المادي في حين أن سلخها عن هويتها الثقافية يجعلها غير قابلة للتجديد والحياة والتطور وبالتالي تصبح أكثر قابلية للتبعية والتلاشي في ظل القوة الأكبر والأقوى ثقافيا حتى لو كانت تمتلك حضارة ما عبر التاريخ.

وتحديدا -فيما يتعلق بهذه الجزئية- يستعرض الكاتب القنبلة الثقافية التي أبيد بواسطتها الهنود الحمر روحيا وتحولوا معها إلى مجرد ظل في إطار الجغرافية والتاريخ وذلك بهدف احتلال أرضهم والاستفادة من ثرواتها العامرة، مع الإشارة إلى أن فهم هذه القنبلة الثقافية بمعناها المجازي الواسع -كما يشرحها الكتاب استنادا إلى أقوال مؤسسي صانعيها- تقدم وبطريقة مباشرة قراءة ولو على المستوي الدلالي فقط للتركيبة البنيوية للعقلية التي ألقت بالقنبلة الذرية على ناغازاكي وهيروشيما في اليابان.

ويوضح الكتاب الهدف الذي أنشئت من أجله مدارس تعليم الهنود الحمر كما يرد على لسان ويليام جونز أحد مسؤولي مكتب الشؤون الهندية -الذي كان يعتبر بمثابة المؤسسة الراعية لمصالح الهنود أو السلطة الوطنية للهنود- بقوله إن الهدف من إنشاء هذه المدارس هو إبادة الهندي بمعناه الثقافي وخلق بديلا عنه يرضى بالأمر الواقع.

لذلك يقول الكتاب إن اللغة كانت من المحرمات الأساسية على الهنود باعتبارها محركا أساسيا لتطور الهوية الثقافية والنظم الاجتماعية التي تجعل من المجتمع الهندي الأحمر يمتلك سلاح الاستمرار في التصدي للغزو الإنكلوساكسوني، كما يستعرض الكتاب شهادات لأطفال الهنود الحمر الذين انتزعوا بقوة السلاح من أسرهم إلى معازل خاصة تجردهم من كل شيء وأولها الأسم حيث تحولت الأسماء الهندية المحاكية للطبيعة إلى أسماء إنجليزية مسيحية في أول خطوات الإبادة الثقافية.

وباسم الحضارة والتمدن التي ساقها المستوطنون الحالمون بإسرائيل الله استنادا إلى مبادئ وعقائد البيورتانيين "الأطهار كما كانوا يطلقون على أنفسهم" المخلصين للكنيسة البروتستانتية، كانت الإبادة الثقافية مقدمة لفكرة استبدال شعب بشعب آخر.

"اللغة كانت من المحرمات الأساسية على الهنود باعتبارها محركا أساسيا لتطور الهوية الثقافية والنظم الاجتماعية التي تجعل من المجتمع الهندي الأحمر يمتلك سلاح الاستمرار في التصدي للغزو الانكلوساكسوني"
أما أنصار التمدين فكانوا يعلمون أن اغتصاب هذه الأرض (أميركا) بغير الحرب لايتم إلا بزرع الثقافة الهندية ذات البنية الاجتماعية بالألغام لتدمير نظام التكاتف الاجتماعي (أو ما تسميه الأنثرولوجيا العرقية بالمشاع البدائي أو الشيوعية البدائية) واستبدال دماغ الهندي بدماغ أبيض يؤمن بالملكية الخاصة (الفصل السادس ص 95).

ويوثق المؤلف هذه المقولة بعبارة لمفوض الشؤون الهندية جورج مانبيبني يقول فيها "لا بد للطفل الهندي من أن يتعلم كلمة أنا بدلا من نحن، وهذا لي بدلا من لنا... إلخ، ليتنازل طوعا عن ما يملك".

وهنا يوضح الكتاب الفكرة المنفعية التي قامت عليها المستوطنات الأميركية الأولى عبر شيطنة الآخر ومنح المسوغات المدعومة دينيا وأخلاقيا ومؤسساتيا لإبادة هذا الآخر وجوديا وثقافيا من أجل السيطرة عليه.

ضمن هذا الإطار وبعيدا عن القراءة المتصلة بالظرف التاريخي لمأساة الهنود الحمر، يطرح الكتاب وبطريقة غير مباشرة سؤالا في غاية الأهمية ألا وهو هل تصالحت أميركا فعلا مع نفسها بانتخاب رجل أسود رئيسا لها؟

فالسود تعرضوا لنفس التشويه واللعنة الكنعانية التي تعرض لها الهنود الحمر وتتعرض لها شعوب آخرى في الوقت الراهن في العراق وأفغانستان مثلا.

الكتاب يلقي وبشكل مسهب الضوء على العديد من المسائل التاريخية المتعلقة بنشوء الولايات المتحدة كنظام اجتماعي وسياسي ويترك مساحة واسعة للتفكير بالعقلية المؤسساتية التي تحكم هذا البلد الشاسع المترامي الأطراف, بل ويتساءل عن مفهوم التعددية الثقافية في المجتمعات الإنجليزية في أستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا وكندا، مع تأكيد الكاتب نفسه بأنه من غير المقبول تنميط هذه المجتمعات في قالب واحد لأن ذلك يعني وبطريقة غير مباشرة السقوط في نفس الفخ وهو "كنعنة الآخر".



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق