التأخر عن نجدة سوريا سيكلفنا كثيراً!
أحمد بن راشد بن سعيّد
لم يكن تصريح وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، لشبكة CBS الأميركية عن رؤيته لحل الصراع في سوريا مفاجئاً، فالإدارة الأميركية أعطت منذ بداية الثورة عشرات الإشارات الخضراء لسفاح الشام لكي يمارس شهوته في قتل السوريين. قال كيري إن بلاده ستضطر في النهاية إلى التفاوض مع السفاح، وإنها تدرس فرص الضغط عليه؛ من أجل حمله على قبول التفاوض.وفي اليوم الثاني، رحب السفاح بموقف كيري، مضيفاً بسخرية: عليه أن يُتبع الأقوال بالأفعال.
كم هي بائسة أميركا، وكم هو تعيس وزير خارجيتها الذي كان قبل توليه المنصب يستطيع الدفاع عن قناعاته ويحظى بقدر من الاحترام، لكنه، بعد تربّعه على هرم الدبلوماسية الأميركية، لم يعد يملك سوى تمثيل سياسات بلاده الداعمة للاستبداد، والمحاربة للديموقراطية، والمبررة لقتل الأبرياء في غزة ومصر وسوريا واليمن وليبيا.
تدرجت أميركا من دعوة الأسد إلى التنحي، والتشديد مرة إثر أخرى على أنه «فقد شرعيته» وأن «أيامه باتت معدودة»، إلى الإعلان صراحة على لسان رئيس استخباراتها، جون برينان، يوم الجمعة الماضي، عن الرغبة في بقائه وبقاء مؤسسات حكمه الطائفي الوحشي، إلى مطالبة كيري يوم الأحد من كررت الإدارة الأميركية وصفه بـ «الدكتاتور الذي يقتل شعبه» بالجلوس على مائدة المفاوضات. لا مفاجأة هنا ألبتة.
إن واشنطن تشبه المجرم الذي ظل سنوات يرتكب الجرائم، فلما افتضح أمره، لم يجد بداً من الاعتراف. لكن هل ارتاح ضمير كيري؟ هل لدى صانع القرار في واشنطن ضمير أصلاً وهو يستخف بدماء مئات الآلاف من السوريين الذين قتلهم السفاح وحلفاؤه الإيرانيون عبر أربع سنوات من حرب إبادة قل مثيلها في التاريخ؟
جون، لم تخدعنا من قبل؛ لأننا كنا نعرفك، ولن تخدعنا اليوم؛ لأننا زدنا معرفة بك، ولن تنطلي علينا «توضيحات» الناطقة باسم وزارتك والتي أكدت أن تصريحك لا يشكّل تغييراً في موقف حكومتك المصر على مستقبل لسوريا من غير الأسد.
منذ أن انتفض الشعب السوري في آذار (مارس) 2011، والولايات المتحدة تختبىء خلف تصريحات غامضة ومطاطة تهدف إلى منح السفاح فرصة أطول للقضاء على الثورة. حاولت مراراً التذرع بحق النقض الروسي والصيني في مجلس الأمن لنفض يدها من العدوان على الشعب، وظلت تردد أنها «تدرس» دعم «المعارضة المسلحة»، وتعلن بين الفينة والأخرى أنها زودت بالفعل هذه «المعارضة» بأسلحة «غير قاتلة» كالخوذات، والمناظير الليلية، بينما تمنع دولاً في المنطقة من تزويدها بأسلحة نوعية كالمدافع المضادة للطائرات.
لقد تسبّب هذا المنع (وهو تواطؤ سافر مع العدوان مارسته الإدارة الأميركية) في قتل عشرات الآلاف من السوريين في حلب وريف دمشق وإدلب وحماة ودرعا بالبراميل المتفجرة، وهي اختراع إيراني بدائي، لكنه همجي وحقير، مدمر للبشر والحجر، وينبي عن شغف عميق بقتل أكبر عدد ممكن من الناس بدافع طائفي محض.
الولايات المتحدة لم تخذل ثورة السوريين فحسب؛ بل هي شريك حقيقي في جرائم القتل والتعذيب وانتهاك الأعراض التي لم تتوقف حتى اللحظة. دعك من الخطابة. الشأن ما يرى الشعب لا ما يسمع. أيدي أوباما وكلينتِن وكيري وتشاك هيغل وروبرت فورد وسوزن رايس كلها ملطخة بالدماء، والسوريون والعرب لا يصدقون أبداً رواية الإدارة الأميركية عن «الإرهاب»، واتخاذها حجة لمنع السلاح عن الضحايا.
لقد ملّوا أسطوانة «الأيدي الخاطئة»، وهم على يقين بأن الأيدي الخاطئة هي التي تحرمهم من الدفاع عن أنفسهم، وتٌسلِمهم لذئاب طائفية في الداخل، وميليشيات طائفية ومرتزقة عابرة للحدود.
كما لا يصدق أحد ذرائع العجز عن إيقاف القتل، والتي دأب ساسة و «محللون» أميركيون (وأوروبيون) على ضخها، مثل تأطير الصراع بوصفه «معقّداً» أو «طائفياً» أو «حرباً أهلية».
وكل هذه الحجج تهاوت في اللحظة التي قررت فيها الإدارة الأميركية شن حملة عسكرية على تنظيم الدولة (داعش)، فقصفت وحلفاؤها مواقع في سوريا والعراق، وامتدت حملتها لتضرب أشرس من يقاوم جيش السفاح مثل «أحرار الشام»، و «جبهة النصرة».
وهكذا، في المنظور الإيديولوجي الأميركي، لا تبدو عصابات الأسد ولا ميليشيات الشيعة المتحالفة معها إرهابية، بل رفاق معركة في الحرب على «الإرهاب».
على مدى أربع سنوات دامية، صدمت العالمَ مشاهدُ القتل الجماعي بالبراميل، وذبح الأطفال بالسكاكين، فلم يشكّل ذلك «أزمة»، ولم يدفع ما يُسمى «المجتمع الدولي»، وعلى رأسه أميركا، إلى تدخل عسكري. لكن «الأزمة» حصلت عندما ظهر تنظيم الدولة (داعش) وحقق بعض الانتصارات في العراق وسوريا، فشكلت أميركا «تحالفاً» للقضاء عليه، وأصرت على رفض كل مطالب تركيا الهادفة إلى مقاربة عسكرية أشمل تؤدي أيضاً إلى إسقاط حكم الأسد، بما في ذلك فرض منطقة حظر جوي.
وهكذا، وكما هو الشائع في السياسة، فإن الأزمة لا تحدث على الأرض، بل في عين الناظر، والناظر هو صانع القرار.
الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير قطر، نبّه واشنطن إلى خطورة موقفها من سوريا عندما وجّه (قُبيل زيارته الولايات المتحدة في أواخر شباط/فبراير الماضي) عبر صحيفة النيويورك تايمز رسالة إلى الرئيس أوباما قال فيها إن الحرب على «الإرهاب» قادت، في بعض الحالات، إلى ترسيخ أقدام دكتاتوريات دموية شاركت في صنع هذا الإرهاب، مضيفاً: «إننا نعتقد أن المعركة ضد التطرف العنيف ستنجح فقط عندما تقتنع شعوب المنطقة بالتزامنا بإنهاء الحكم الاستبدادي مثل ذاك الذي لبشار الأسد في سوريا والذي ينفذ إبادة جماعية» ضد الشعب السوري (24 شباط/فبراير 2015).
كانت هيلاري كلينتِن قد صرّحت مطلع الثورة السورية أن بلادها تنحاز إلى الشعب السوري؛ لأنه يمثل بكفاحه ضد الاستبداد «الجانب الصحيح من التاريخ» بحسب تعبيرها.
وتتابعت فصول المأساة لتُظهر بجلاء وقوف أميركا مع الجانب الخطأ من التاريخ، وانخراطها في مسعى متوحش لقلب مساره.
لكن ذلك يجب ألا يدفعنا إلى اليأس، بل إلى إعادة النظر في التعامل مع إملاءات أميركا التي لا تخدم إلا مصالحها ومصالح ربيبتها في المنطقة؛ إسرائيل. إن دعم السعودية وقطر للموقف التركي فيما يتعلق بالحرب على داعش يمكن أن يكون بداية لتنسيق حقيقي وشامل ومؤثر بين البلدان الثلاثة يوفر إسناداً حقيقياً للثائرين من أجل الحرية في سوريا، ويرسم حدوداً للتغول الأميركي.
مركز الخلافة الأموية الذي تخضّب بالدم هو مركز توازن المشرق، ومزيد من خذلانه قد يكرّس سيطرة إيران الفارسية/الصفوية عليه، ما يهدد أمن الخليج العربي وتركيا معاً.
لا مكان للأسد ولا لإيران في صياغة سوريا المستقبل، وإذا كان كيري حريصاً جداً على «رجل إسرائيل في دمشق» (كما وصفه إفرايم هليفي رئيس الموساد السابق في مجلة فورن أفيرز)، فليعرض عليه اللجوء إلى مسقط رأسه في كالورادو!
• @LoveLiberty
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق