الخميس، 19 مارس 2015

بين شريعة الفقه وفقه الشريعة

بين شريعة الفقه وفقه الشريعة
مهنا الحبيل

تتكرر أسئلة العصر اليوم كما الأمس، فمنذ حركة استقلال الشرق (وهو استقلال نسبي جدا) من الهيمنة الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، تم رهن هذا الشرق بهيمنة سياسية بنماذج متعددة، ولكن تخلف الشرق وتصدعه وعودة رياح الانهيار إليه ليست مرتبطة فقط بمشاريع الهيمنة في إدارتها الذاتية أو عبر المستبدين، ولكنها تتصل أيضا بطبيعة الصراع القائم والعجز عن فهم حقائقه.
ومع فشل تجارب علمانية متطرفة عديدة وعودة روح التفكير منذ العشرينيات عبر حركة الإحياء الإسلامي، لرد الاعتبار التاريخي للإسلام كحاضن حضاري ورسالي وأممي للشرق بدياناته وطوائفه وبقيمه وتقدم إنسانه، بحيث يكون حاملا لرسالة البلاغ الإسلامي وصانعا لرحلة التقدم في الاستخلاف الإنساني، تعرض هذا المفهوم الذي كان من الممكن البناء عليه لبعث فكري وحضاري للمسلمين لعوائق، انحرفت به عن مسيرة هذا الوعي الأصيل والبناء الدقيق والمُنظم.
"يمثل ميلاد جماعات العنف أحد عوائق النهوض، فقد ولدت من فكرة رفض التجديد الإسلامي المنضبط بأفق الشريعة كونه "تميعا وضلالا" ولأنها أيضا ظهرت في فترة اضطراب واستباحة عسكرية ودموية لمناطق المسلمين"
هذه العوائق الشرسة كانت بين مدارات مصالح الغرب المستعمر السياسي والاقتصادي وبين مدارات الاستبداد، مما جعل تسلسل أفكار البعث الإسلامي في سياقها الحضاري والبلاغي تصطدم بواقع شرس، أما العوائق الأخرى فهي ما كانت من إشكاليات تراكم مسار عزل العقل والوعي والاجتهاد الفكري الموازي للاجتهاد الفقهي، في رحلة البلاغ الإسلامي.
وتلك العوائق منها ما هو جديد ومنها ما هو قديم، فأما الجديد فكان في طبيعة تلقي أفكار التجديد الإسلامي، في مدارات ومؤسسات تقليدية لتعليم الفقه المذهبي وغير المذهبي، لعصبيات أو مصالح أو فقدان آلية الإدراك الذاتي، أو تحسسها من خطاب التجديد الإسلامي، خشية من مصادرة الدين والبلاغ الإسلامي من تأويلات عنيفة مهمتها تهذيبه لمصالح استعمارية أو نفوذ للهيمنة، لكن هذا التحسس أضر كثيرا بمهام الرسالة الإسلامية الذاتية.
أما الثاني من العوائق التي تشكلت داخل صفوف الشرق الإسلامي، فهي جماعات العنف التي وُلدت أولا من فكرة رفض التجديد الإسلامي المنضبط بأفق الشريعة، كونه تميعا وضلالا لدى مصادرهم، وثانيا في ظروف خاصة تتميز بردود فعل مضطربة في الوجدان المسلم وخاصة في شريحة الشباب المتفجر من الداخل، على قسوة الاستباحة العسكرية والدموية لمناطق المسلمين وجذور التواطؤ الإقليمي بنزعته الطائفية.
وهذا الواقع هو الذي جعل الشرق رهنا لحالة حرب وصراع لا لفقه الإسلام والإنسان، ثم طرحت هنا قضية تطبيق الشريعة بزخم صراعي شرس داخل الشرق وخارجه، فأضحى المفهوم ضحية لتقاطع صراع عنيف، لا يسمح بإعادة فهم الفكر والفقه التجديدي في الإسلام وفروع الفقه المتعددة فيه، وفقا لرسالة البلاغ القطعية في هذا الدين والتي بُعث بها الرُسل وكان خاتمتهم الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم.
هذه المقدمة التي تشرح المسرح الفكري والثقافي الذي طرحت فيه قضية تطبيق الشريعة، تُبين لنا كيف تعصف أجواء الصراع بأسس تشريعية ومضامين بلاغية حملتها الرسالة، ولم تُفقه ولم تُفهم أو رُدمت حركة التجديد فيها بأتون أجواء الصراع والعاطفة الغاضبة التي لا تجد وقتا لفهم دلائل التأصيل الشرعية للعقل المسلم المعاصر، المختلفة عن برامج التأويل لتحقيق أهداف سياسية للمستبد الداخلي والخارجي.
"فقه الشريعة هو تلك المساحة الثرية الواسعة التي تُفهم من دلالات النصوص وعمق مقاصدها وثروة التدوين الفقهي والنقاشات الواسعة من فروع الفقه إلى الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام إلى أحكام التعامل التي استنبطها الفقهاء للتطور الحضاري للإنسان"
وهنا وحين نُنحي أجواء هذا الصراع الشرس العاصف ستبدأ أسئلة الفهم تُطرح للوصول إلى نظرية مهمة في مسألة تطبيق الشريعة، لعلنا نُدرجها متسلسلة كمقدمة للحاجة الضرورية للخطاب الإسلامي المعاصر لتنظيم الحوار حول هذه القضية في إطار منهجي تجعله يفهم الفكرة قبل أن يتصارع داخله أو يصارع غيره دون وعي لما يدعو له:
1- إن فقه التجديد الإسلامي هو بلاغ من رسائل النبوة وفق أصول الشريعة، ولم يُطرح عبثا بل لرسالة إلهية تتفق مع رحلة الاستخلاف الإنساني.
2- رسالة البلاغ الإسلامي الخاتمة، تعني أنها مصدر ورعاية لعهود زمنية كبرى مختلفة التطور والنماء الإنساني، وأن رسالات الأمم الأخرى التي رسخت أصول الإيمان الموحدة، نُسخت وغُيرت في أحكام فقهية لأمم وحضارات توالى عليهم الأنبياء، فيما جُعلت رسالة الإسلام مصدر التجديد لبقية الرحلة الإنسانية للحياة.
3- في فقه الشريعة هناك مساحات واسعة للاجتهاد ومصلحة الاستخلاف البشري، حددت القطعيات في الثبوت والدلالة وأصول الديانة كبعث إيماني وإصلاحي للإنسان، وتُركت مساحة الاجتهاد عن عمد لتحقيق ذلك العبور الإنساني برفقة البلاغ الرسالي الإسلامي.
4- فقه الشريعة هو تلك المساحة الثرية الواسعة التي تُفهم من دلالات النصوص وعمق مقاصدها وثروة التدوين الفقهي والنقاشات الواسعة من فروع الفقه إلى الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام إلى أحكام التعامل التي استنبطها الفقهاء للتطور الحضاري للإنسان، ويتسع هذا الميدان من الصدر الأول حتى الاجتهاد الفكري أو الفقهي المنضبط في عالم اليوم والذي هو منطلق من أصل التشريع الكتاب والسنة، وليس خارجه. فالمصدر ليس ميراثا حزبيا أو فئويا لأحد بل هو أصول تشريع تفهم بعمق دلالة البلاغ.
5- هنا نتساءل عن مقولات البعض أو آحاد من الناس أو المجموعات عن فقههم للشريعة، هل هو فقه الشريعة أم شريعة الفقه؟ بمعنى أن من يُحاكم الناس ويجادلهم لا ينطلق من مضمون هذه الشريعة بمساراتها الكبرى ومناطات تحقيق العدالة التي شُرعت لها أحكام القصاص وفُتحت فيها مسارات الحضارة والغرس البشري.
"إن انتظار زوال المحن السياسية والتعديات الخارجية حتى تُطرح قضايا النقد والتجديد هو أحد مظاهر الهزيمة النفسية الخطيرة في الفكر الإسلامي المعاصر، فيتيه الناس وتتسع الفتنة ويطول المرض الذي يفتك بالشرق ويغذي خصومه"
6- إن هذا المضمون اليوم حين تُفكك بعض الصراعات والأوضاع فيه، بل وتُقرأ بعض المواجهات الشرسة داخل الصف الإسلامي، وداخل أوطان الشرق، فإن كثيرا من القطعيات في فقه البعض، ليس قطعيا في فقه الشريعة، وإجماعيات فقهه ليست إجماعيات في فقه الشريعة، وما قاتل الناس عليه أو بهتهم فيه، ليست لازما دينيا للتحقيق الفوري بل ولا في صفة التطبيق ولا روحه في فقه الشريعة.
7- وهنا الخطورة والكارثة في ذات الوقت، فالعالَم الإنساني الذي أُمر المُسلم الواعي بحمل الرسالة له وتحقيق بلاغه، وصلته شريعة الفقه لأولئك ولم يصله فقه الشريعة، والشرق الجريح في كوارثه، يُفتن شبابه باسم شريعة الفقه الخاصة بهذه الفئة أو ذلك الشخص ولم يَعرف فقه الشريعة.
إن أولى مهام التجديد الإسلامي اليوم الذي نص عليه وندب له النبي صلى الله عليه وسلم، مناقشة هذه المعادلة المهمة في الفكر الإسلامي المعاصر وكسر الحصار حولها، ليتبين الناس فقه الشريعة لا أن يحاسبوا على شريعة فقهٍ لم يُبعث بها الأنبياء.
واستمرار اضطراب هذه الفكرة تسبب في دفاع بعض الإسلاميين عن تعاطف سطحي مع شريعة فقه هي مناهضة لفقه الشريعة. والواقع أن انتظار زوال المحن السياسية والتعديات الخارجية حتى تُطرح قضايا النقد والتجديد هو أحد مظاهر الهزيمة النفسية الخطيرة في الفكر الإسلامي المعاصر، فيتيه الناس وتتسع الفتنة ويطول المرض الذي يفتك بالشرق ويغذي خصومه.
المصدر : الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق