المتعة الأنانية
منذ النصف الثاني من القرن الـ18 وحتى اليوم لم يتعرض شيء للهجوم مثلما تعرض له الدين والأخلاق، هجوم شرس أسفر عن الإقصاء التام للدين والمجتمع من حياة الدول الغربية، وتحول الأخلاق إلى قوانين تسنها السلطات التشريعية المخولة بذلك.
ورغم النجاح الباهر الذي حققته الجهات التي تقف وراء هذا الهجوم على مدى القرنين الماضيين فإنها ما زالت مستمرة في هجومها خشية حدوث تحولات مفاجئة ينهار معها ذلك النجاح.
لقد أشعل الفيلسوف البريطاني جيرمي بنثام (1748-1832) الحرب على الكنيسة، وأطلق الحريات الجنسية الإباحية، ووضع المشرط الأخير في عملية تحويل الأخلاق الإنسانية إلى مجموعة من القوانين والتشريعات.
الفرد عند بنثام هو القيمة الأسمى في المجتمع، وهو مصدر القيم، وفي المقابل لا يعطي المجتمع أي أهمية، ويعتبره مجرد هيئة وهمية تعبر عن مجموع مصالح أفراده
تقنين الأخلاق
في كتابه "مقدمة لمبادئ الأخلاق والتشريع" يعبر بنثام عن فهمه للأخلاق في ضوء نظريته النفعية القائمة على مبدأ المتعة والألم، حيث يربط بينها وبين القوانين التي تسنها المؤسسات التشريعية في الدولة، معتبرا الأخلاق التجسيد العملي لـ"مبدأ السعادة العظمى".
وقد حظي كتابه هذا بشهرة واسعة في القارة الأوروبية قبل بريطانيا، ونشر لأول مرة باللغة الفرنسية في بداية القرن الـ19، حيث كان بنثام يتمتع بتقدير كبير في فرنسا بعد الثورة كان سببا في منحه الجنسية الفرنسية الفخرية.
وانطلاقا من مبدأ "المتعة والألم" يعرّف بنثام الأخلاق بشكل عام بأنها فن توجيه أفعال الأفراد لإنتاج أكبر قدر ممكن من المتعة أو السعادة، والشخص الأخلاقي هو الذي يؤدي العمل لتحقيق المتعة أو السعادة لجميع المعنيين بهذا العمل.
ولا يضع بنثام اعتبارا للمجتمع ككل، باعتبار أن الفرد هو القيمة الأسمى فيه، ولذا فإنه يعتبر المجتمع مجرد هيئة وهمية تعبر عن مجموع مصالح أفراده، حيث يعتبر الفرد مصدر القيم، بل هو في ذاته يمثل القيمة العليا.
ولما كانت المتعة والألم هما أساس مذهبه النفعي فقد حدد بنثام أربعة أنواع من الأحكام التي تؤثر في ما يتعرض له الفرد من متعة وألم، وهي المادية والسياسية والأخلاقية والدينية.
وتقوم هذه الأحكام بواسطة المشرع بتحديد السلوك الأخلاقي للفرد، وتوجيهه للقيام بالأعمال التي تحقق أكبر قدر من السعادة لنفسه والآخرين، أما الأحكام المادية فهي المتعلقة بالجسد ومساره الطبيعي الذي حددته الطبيعة دون تدخل بشري أو إلهي، على حد قوله.
والأحكام السياسية مرتبطة بنشاط المشرع القانوني للأفعال المختلفة، أما الأحكام الأخلاقية فهي المترتبة على تأثر الفرد بالرأي العام وما يتعلق بحقائق مثل السمعة والسمعة الطيبة والخوف من العار، أما الأحكام الدينية فعلى المشرع أن يحد من تدخلها في سلوك الأشخاص.
لذلك، يعتقد بنثام أنه يتعين على المشرع النفعي أن يكون على دراية بالملذات والآلام وقيمتها وأهميتها للفرد، وأن يضعها دائما في الاعتبار لضمان تحقيق مبدأ المتعة والألم.
ومع تشديد بنثام على أهمية المتعة والسعادة بالنسبة للفرد لكنه نبه إلى العلاقة بين حياة الفرد الخاصة وحياته العامة التي يشترك فيها معه غيره من الأفراد، وأن هذه العلاقة تترتب عليها مستلزمات أخلاقية مهمة ينبغي أن يخضع لها الفرد على حساب حريته الشخصية، مما يحد منها ويضع قيودا عليها لصالح عموم الأفراد بواسطة القوانين التي يضعها المشرع.
ورغم أهمية الحرية الفردية عند بنثام التي يعتبرها جيدة لأنها "ممتعة" كما يعتبر تقييد الحرية شرا لأنه "مؤلم"، وأن القانون شر لأنه بطبيعته تقييد للحرية ومؤلم لأولئك الذين يقيد حريتهم فإنه شر ظاهري، فالقانون بالنسبة لبنثام ضروري للنظام الاجتماعي، والقوانين الجيدة ضرورية للحكومة الجيدة، نظرا للدور الإيجابي الذي يجب أن يلعبه القانون والحكومة، ولا سيما في تحقيق رفاهية المجتمع، وبقدر ما يعزز القانون الخيرات الاقتصادية والشخصية للفرد ويحميها وبقدر ما تكون الحكومة تحكم بشكل جيد فإن القانون يجسد مصالح الفرد.
يرى بنثام أن تحديد المصالح التي تحقق المتعة والسعادة لجميع أفراد المجتمع يجب أن يكون من مسؤولية المشرع، لمعالجة التضارب الذي قد يحدث في المصالح المشروعة، حيث يفترض مبدأ المنفعة مسبقا المساواة التامة بين جميع الأفراد
معالجة التضارب بين الفردي والجماعي
هذا التعارض بين الحرية الفردية التي تحقق المتعة الكاملة للفرد وبين مصالح عموم الأفراد كان وراء ظهور ما يعرف بـ"مذهب المتعة الأنانية" الذي يسعى لتحقيق السعادة العظمى على الإطلاق وما يعرف بـ"مذهب المتعة الأخلاقية" الذي يأخذ في الاعتبار المصلحة العامة.
ورأى بنثام أن هذا التعارض يمكن حله عن طريق الأحكام التي يضعها المشرع للعمل بطريقة مفهومة ومتناسبة، ولمعالجة ذلك حدد بنثام ثلاثة مبادئ رئيسية تقوم عليها فلسفته الأخلاقية، وهي:
- مبدأ السعادة العظمى أو مبدأ المنفعة، حيث يكون الهدف الأسمى للفرد أن يحصل على أكبر قدر من المتعة والسعادة، وأن يتجنب التعرض لأي شكل من أشكال الألم والمعاناة، حيث تقاس فائدة الأشياء أو الأفعال بمدى قدرتها على تحقيق السعادة العامة، ويكون الفعل الواجب أخلاقيا تحديدا هو ما ينتج عنه أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، ويتم قياس هذه السعادة بمدى تحقق اللذة وغياب الألم.
- مبدأ الأنانية الأخلاقية الشاملة التي تقوم على أن جميع الناس يجب أن يفعلوا ما هو في مصلحتهم، وأن الفعل الأخلاقي هو الذي يحقق المصلحة للجميع دون تعارض مع مصلحة الأفراد، ويختلف هذا المبدأ عن الأنانية الأخلاقية الفردية التي ترى أن تعزيز المصلحة الذاتية للفرد هو الدافع الكامن وراء كل عمل يقوم به، وأن قراره الأخلاقي يجب أن يحقق مصلحته الذاتية، وأن على جميع أفراد المجتمع أن يعملوا ما يصب في مصلحته ويحقق سعادته، وهو الأمر الذي يصطدم مع مصالح الآخرين، وهنا يأتي دور المشرع ليعمل على منع حدوث هذا التصادم.
- التداخل المصطنع بين مصالح الفرد ومصالح الآخرين.
وقد عمل بنثام على صياغة المبادئ العقلانية التي من شأنها أن توفر أساسا ودليلا لما اعتبره الإصلاح القانوني والاجتماعي والأخلاقي.
وعلى الرغم من أن مبدأ المنفعة يقوم على تحقيق المصلحة الذاتية للأفراد فإن بنثام يرى أنه يجب وضع سعادة الآخرين في الاعتبار للأسباب التالية:
- أن مبدأ المنفعة هو شيء يشير إليه الأفراد في التصرف، إما صراحة أو ضمنا، وهذا شيء يمكن التأكد منه وتأكيده من خلال الملاحظة البسيطة، حيث يمكن اختزال جميع أنظمة الأخلاق في مبادئ التعاطف والكراهية، وهو بالضبط ما يحدد المنفعة بجلب المتعة أو دفع الألم.
- أنه إذا كانت المتعة خيرا فهي جيدة في ذاتها، وبالتالي فإن الأمر الأخلاقي بالسعي وراء المتعة العامة أو تعظيمها تكون له قوة في ذاته بعيدا عن المصالح المحددة للفرد.
- أن الأفراد سيسعون عادة وبشكل معقول إلى السعادة العامة لمجرد أن مصالح الآخرين مرتبطة ارتباطا وثيقا بمصالحهم الخاصة.
ومن هنا يرى بنثام أن تحديد المصالح التي تحقق المتعة والسعادة لجميع أفراد المجتمع يجب أن تكون من مسؤولية المشرع.
وشدد على أن تطبيق مبدأ المنفعة يسمح بإجراء مناقشة عامة موضوعية ونزيهة تتيح اتخاذ القرارات المناسبة التي تعالج التضارب الذي قد يحدث في المصالح المشروعة، حيث يفترض مبدأ المنفعة مسبقا المساواة التامة بين جميع الأفراد.
وهكذا، وبشكل لم يسبقه إليه أحد من معاصريه أو سابقيه تحولت الأخلاق عند الفيلسوف والقانوني البريطاني جيرمي بنثام إلى قوانين يضعها المشرع، بما يحافظ على الحرية الشخصية للأفراد وعلى حصولهم على أعلى قدر من المتعة والسعادة، دون أن يتعارض ذلك مع المصلحة العامة للأفراد والدولة.
أما المجتمع وقيمه وعاداته وتقاليده فلا يعترف بها بنثام، ولم يترك لها أي دور في توجيه الأخلاق الفردية أو العامة، بعد أن نحى الدين من حياة الأفراد وأطلق العنان للحريات الجنسية الإباحية، لتصبح الأنانية الفردية عنده خلقا أصيلا والإيثار خطأ أخلاقيا، وليضع بذلك البذور الأولى لنظرية الخطأ الأخلاقي التي سادت في القرن العشرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق