تأملات في الآية الكريمة ﴿إنّه رَبّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾
الدكتور علي محمد الصلابي - مؤرّخ وفقيه ومفكّر سياسي
-﴿إنّه رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾: كيف أعصي ربي الّذي أحسن مثواي؟ أكرمني ورحمني وكان معي في كلّ محنة، ومنّ علي بكل نعمة، وكأنّي بيوسف عليه السلام كان في تلك اللحظة الّتي قال فيها هذه الكلمات يعيش حقيقتها، تذكّر حاله عندما ألقاه إخوته في الجبّ، وكيف أدركته رحمة الله تعالى، فآنسه، وبشره وهو في ظلمة قعر الجبّ، وآنس وحشته: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [يوسف: 15].
وتذكّر حاله وهو في سوق العبيد معروضاً للبيع بأيدي النخّاسين، والزّبائن يطوفون به، يتأملونه ويقلّبونه، كما يُقلّب المتاع، ثمّ يعرضون عنه زاهدين به، حجبهم الله بقدرته ومشيئته عن رؤية ملامح الجمال والبهاء في مُحياه، وجعله الله بضاعة كاسدة في نظرهم حتّى جاء عزيز مصر إلى السوق فتفرّس فيه معاني النبل والطهر، وألقى الله محبته في قلبه، وأخذه إلى بيته معزّزاً مكرماً، وأوصى به زوجته قائلاً: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ [يوسف: 21]، ولهذا رأى كثير من المفسرين أن يوسف عليه السلام أراد بقوله: ﴿إنّه ربي﴾ عزيز مصر؛ لأنّه كان سيده ومالكه، في نظر النّاس، وقد أحسن إليه وأكرمه وأكرم مثواه، وأوصى زوجته به، فلا أقابل إحسانه بالإساءة إليه وخيانته.(1)
وفي ذكر الإحسان: ﴿أحسن مثواي﴾ إيجاز لكلّ صور المعروف الّتي نالها من زوج هذه المرأة.(2)
قال شيخي الدكتور علي القره داغي: في قوله: ﴿إنّه رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾: الظاهر أن الضمير راجع إلى الأقرب المذكور وهو لفظ: (الله) أي: رباني، وأبلغني إلى هذه المنزلة وحماني في غيابات الجبّ، وأكرم مثواي، فهو الّذي هيأ لي أسباب وجودي في هذا المكان.
وذهب جماعة من المفسرين إلى التوقّف عند لفظة الجلالة في: ﴿معاذ الله﴾، وبالتالي تكون الجملة التالية: ﴿إنّه ربي﴾ مستأنفة وحينئذ يعود الضمير إلى زوج المرأة المراودة، وذلك بدليل أنّه هو الّذي قال لها: ﴿أكرمي مثواه﴾، وبالتالي فذكّرها بهذا الموقف النبيل، وبناءً على هذا، فإنّ الجملة المستأنفة جوابٌ: كيف أقترف هذه الجريمة، والله عليم بصير شديد العقاب وإن زوجك أكرمني، فكيف أخونه في زوجته وعرضه، وهل جزاء الإحسان إلّا الإحسان؟!
وبناءً على ذلك فالمراد بالرب هنا: عزيز مصر، ومن المعلوم أنّه لا مانع لغة وشرعاً في إطلاق الربّ على السيّد والكبير.(3) ثمّ ختم ذلك بفقه المآلات الّذي علمه الله تعالى إياه: ﴿إنّه لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾، كلا المعنيين مقبول أيضاً ومطلوب، وهذا من خصوصيّة المنهج القرآني العظيم.(4)
قال الشيخ محمّد متولي الشعراوي: في قوله: ﴿إنّه ربي﴾: يعود الضمير على الله سبحانه، وقد يعود على عزيز مصر، تلك ميّزة أسلوب القرآن، فهو يأتي بعبارة تتّسع لكلّ مناطات الفهم.(5)
المراجع
التفسير الموضوعي، (4/155).
2 جماليات النظم القرآني، ص 33.
3 يوسف عليه السلام، د. علي القره داغي، ص 65. ذكر ذلك الطبري وابن كثير.
4 المصدر السابق نفسه، ص 65.
5 تفسير الشعراوي، (11/6910).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق