فرنسا بين العقلية الاستعمارية واللغة الاستعلائية
(قراءة سياسية للعلاقات التاريخية والمستقبلية بين فرنسا، والقارة الأفريقية)
يقول رئيس فرنسا الحالي: إن التحدي الذي يواجه القارة الأفريقية حضاري، وأن الأفارقة يزدادون بقوة، ولديهم خصوبة غير عادية، عندهم مشكلة في المواليد، ترتفع بشكل قوي، فالرجل الذي يحكم (فرنسا) تلك الدولة القوية يرى بأن القارة تشكو حضاريا، ولديها مواليد مرتفعة، وبالتالي فهي تشكو من هذه الأزمة كما يقول رئيس متخصص في الاقتصاد، ويحكم دولة تعتبر من العشرين، ومن الخمس التي تملك حق الفيتو في مجلس الأمن.
قال ساركوزي الرئيس الأسبق لفرنسا: إن الرجل الأفريقي لم يدخل التاريخ بما فيه الكفاية، ولم يتحرك نحو المستقبل، فهذه الفكرة المنبثقة من ساركوزي، ومن الرئيس الحالي ماكرون، ما الذي يجمعهما؟ هل ثمة قيم يؤمنان بها؟ وهل ينطلقان من رؤية واحدة؟ أم لكل واحد منهما رؤيته الخاصة؟
لقد حكمت فرنسا عقودا متطاولة القارة الأفريقية، وخاصة في الشمال، والوسط، والشرق، وفي الغرب كذلك، واستعمرت أكثر من عشرين دولة، ونشرت في داخل القارة لغتها، وثقافتها، واستطاعت أن تتدخل في كل شيء، وقد صدق من قال: إن الاستعمار الفرنسي همجي، أما الاستعمار البريطاني سياسي، فلا يحاول الاستعمار البريطاني تغيير الهوية بقوة عسكرية كما صنعت فرنسا في الجزائر، ولكنه يحاول صناعة التبعية اقتصادا وفكرا، بينما يحاول الاستعمار الفرنسي تغيير الجلد بالقوة والحديد، ويستخدم المنهج واللغة والفكر كأدوات، فيجعل الوطن المستعمَر (بفتح الميم) جزءا من فرنسا، وهذا ما تم صناعته في الجزائر، وقد مرت فرنسا في تعاملها مع القارة الأفريقية، وخاصة مع الدول الناطقة بالفرنسية (الدول الفرنكوفونية) في مراحل أربعة، وكل مرحلة من هذه المراحل تجعل فرنسا دولة غير عادية، بل نجد إن بعض الساسة في فرنسا مصابون بمرض (الغباء)، ولكن بشكل منهجي.
إن فرنسا كدولة استعمارية مرت علاقتها مع القارة الأفريقية في أربعة مراحل، وهي تكون كالتالي:
كانت البداية من مرحلة الاستعمار المباشر:
وتعني تلك المرحلة حين كانت فرنسا تحكم الدول المستعمَرة بشكل مباشر، وتعاملت مع القارة بأنها هي المالكة الحصرية للإنسان والأشياء في هذه البلاد، بل كانت ترى الإنسان الأفريقي جزءا من ممتلكاتها، وتنقسم هذه المرحلة إلى قسمين،
مرحلة الاستعمار الشامل، والكامل،
ومرحلة إعداد الأفارقة للاستقلال الناقص، والحرية الزائفة،
وفي هذه المرحلة استخدمت فرنسا الإنسان الأفريقي في الدفاع عن أراضيها في الحرب العالمية الثانية، وفي حروبها ضد التحرير مع القارة الأفريقية كما صنعت في الجزائر، ويقال، إن أكثر من مليون مواطن أفريقي ساهم في هذه المعارك، ونجحت فرنسا في هذه المرحلة الخطيرة في نهب أموال القارة وثرواتها، وهذا هو الذي صنع نهضة فرنسا، وخلق لها المناخ المالي الذي تبوّأت بها فرنسا عالميا.
مرحلتا التحرر من الاستعمار والاستقلال الناقص
لقد جاءت لحظة التحرر من الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، واستيقظت الشعوب، وحينها تأكد لفرنسا الاستعماري أن هذه اللحظة لن تدوم، وأنها يجب عليها إعداد المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الاستقلال الناقص، والحرية الزائفة، والاستعمار بأدوات محلية، ومن هنا اختار رئيس فرنسا الجنرال (ديغول) السيد (جاك فوكار) مهندس الاستعمار الفرنسي في أفريقيا، ليقوم بإعداد النخب التي تحكم أفريقيا بعد الاستقلال الناقص، بل كان يجب عليه أن يقوم في صناعة المناخ السياسي ما بعد الرحيل الشكلي لفرنسا عن القارة، ومن هنا، أعدت فرنسا (النخب) الحاكمة، وهي التي يجب أن تكون لديها (العقيدة) الفرنسية في السياسة، وصناعة جيل فرنسي الهوى، وغير متعلم، ومنهزم حضاريا أمام فرنسا، ويعتقد أن باب الحضارة هي باريس دون غيرها، ويوازي هذا النوع من الانهزام الحضاري عقلية فرنسية تؤمن بالوصاية، والاستعلاء والتحكّم الشديد، ولهذا قررت فرنسا صناعة (الفرنك الأفريقي)، وجعلت محور هذه العملة، وتحريكه اقتصاديا في داخل البنوك الفرنسية، وخاصة البنك الوطني، ومن هنا تم ربط الاقتصاد الدول الناطقة باللغة الفرنسية بالدولة التي تعتبر الوالدة، ومن خلق مهندس الاستعمار الفرنسي جاك فوكار البيئة الصالحة لوجود فرنسا في القارة بلا مشاكل.
نجحت فرنسا ربط القارة بحضارة فرنسا، واقتصاد ها وثقافتها، حيث جعلت اللغة الفرنسية الأولى والأهم في هذه الدول، ومن هنا، كانت أهم وزارة في فرنسا (وزارة التعاون) الفرنسي، والتى ورثت وزارة الاستعمار سابقا، وتولى في قيادة هذه الوزارة جيل استعماري يؤمن بعظمة فرنسا، ويخطط ربط القارة بها، ونجح جاك فوكار إنشاء شبكة (فرانس – أفريقيا)، ومن خلال هذه الشركة نجحت فرنسا في وضع يدها على الثروات الأفريقية حيث منحت تلك الشركة الحقوق الحصرية في الحصول على أي مواد خام تكتشف في أراضي المستعمرات الفرنسية سابقا.
في هذه المرحلة، ومن خلال هذا الرجل (جاك فوكار)، وكذلك من خلال هذه الشركة لعبت فرنسا لعبتها المركبة (الاستخباراتية، والسياسية) فأسقطت رؤوسا، وصنعت رؤوسا أخرى، وأوجدت أنظمة، كما نجحت في إخماد ثورات، وفي نهاية عام ١٩٦٠م تم تسميم المعارض الكاميروني (فيليكس مومييه) في مطعم في سويسرا، وفي عام ١٩٦٢م اختفي المناضل الجيبوتي السياسي الكبير السيد محمود حربي في طائرة، وحين فكّر وخطط السيد أحمد سيكوتوري، الرئيس الغيني استبعاد التبعية السياسية لفرنسا، أغرقت الأخيرة من خلال مخابراتها بالعملات المزيفة التى دمرت اقتصاد الوطن.
تمر اليوم المرحلة الرابعة العلاقات الأفريقية الفرنسية،
وهي مرحلة تتسم بالتراجع الفرنسي عن المكتسبات، بل هناك يقظة أفريقية في البلاد الفرنكفونية حيث يكثر فيها النقد اللاذع للسياسات الفرنسية من خلال النخب، ومن الجيل الصاعد الأفريقي الذي شعر بالإهانة الحضارية أمام فرنسا، ولوحظ من خلال التصريحات الفرنسية وجود هذا الإحساس عند النخب الفرنسية، ولكن فرنسا تحاول اليوم الوقوف أمام هذه اليقظة بكلام معسول، وأقرّ رئيس فرنسا من خلال القمة الأفريقية الفرنسية الأخيرة والمخصصة للشباب الأفريقي والقيادة الفرنسية مسؤولية فرنسا الكبيرة في تجارة الرق والعبودية والاستعمار، لكنه لم يقبل الاعتذار عن هذا التاريخ، وتحدّث عن وجود فرنسا العسكرية، وذكر بأنه موجود بطلب الدول، وانتقد كمحلل سياسي، وليس كشريك سياسي مع الدول المستبدة في القارة حيث ذكر بأن (القارة فتية، ويحكمها كبار في السن لفترات طويلة جدا)، وينسى الرجل بمقولة شائعة في أفريقيا مفادها (إن أفريقيا متزوجة بفرنسا، زواج قسري منذ أكثر من خمسمائة عام)، وهناك مقولة جيبوتية يتناولها الكبار في مجالسهم (فرنسا الأم)، ولكن ماكرون تحدث في القمة قائلا: إذا استمرينا في التصادم، أو القطيعة، لن نتقدم أبدا.
في هذه المرحلة تشهد القارة الأفريقية معارك قوية بين فرنسا، وبين الكبار من الدول التي لها رغبة في الوجود في الساحة الأفريقية، فبينما كان وجود فرنسا في القارة يتسم بالشمولية، هناك ظهور صيني اقتصادي قوي، وظهور روسي عسكري وأمني شبه قوي، ويتنامى ظهور أمريكي ثقافي، وكذلك نجد وجودا تركيا عسكريا (الصومال) نموذجا، ووجودا تركيا اقتصاديا (إثيوبيا) نموذجا، وكل ذلك يتم في لحظة بزوغ فجر جديد في أفريقيا، وبداية أفول الوجود الفرنسي أمام هذا الاجتياح الصيني، والروسي، والأمريكي، والتركي.
إن الدليل على تراجع دور فرنسا، وضمور وجودها الفكري والثقافي هو ما تحدث به رئيس فرنسا في جزيرة (جربة) التونسية في عام ٢٠٢٢م حيث ذكر بأن مكانة (لغة موليير تتعرض لانتكاسات) على جبهات عديدة خصوصا في المنطقة المغاربية، ووصفها بمقاومة شبه سياسية، وتمرّ فرنسا في هذه المرحلة تخبطا سياسيا في علاقاتها الاستراتيجية مع القارة، وهذا ما أكّده الباحث المغربي الأستاذ نبيل زكاوي حيث يؤكد بأن ثمة (وجود نزيف النفوذ الفرنسي أمام الممانعة الداخلية للدول الأفريقية، وقد تهاوت جاذبية فرنسا في أعين الأفارقة)، وهناك بدائل سياسية ومالية وعسكرية حيث (الشراكات الأمنية مع روسيا، والاقتصادية مع الصين).
هل يمكن لفرنسا أن تلعب دورا في مستقبل القارة؟
هنا أسئلة محورية ومهمة، هل فرنسا التاريخ يمكن لها أن تتغير؟ وهل يمكن لفرنسا أن تغير جلدها الذي صنعها (جاك فوكار)؟ وهل يمكن تحويل البوصلة من عقلية (أربح، وتخسرون)؟ وتأخذ سياسة (أربح وتربحون)؟ وهل يمكن تغيير وزارة التعاون الفرنسي وتحويلها إلى الأرشيف؟ وهل يمكن للقادة في القارة الأفريقية الخروج من عالم (التبعية) إلى عالم (الندية)؟ وهل لدى الأفارقة حرية الاختيار، والخيار ما بين العبودية السياسية، والسيادة الحقيقية لبلادهم؟
ليس من السهولة بمكان تحقيق ذلك، ولكن ليس من المقبول السير في هذا الطريق الذى لا يؤدى إلا إلى الاستعمار من جديد، وليس من العقل التحوّل من الاستعمار الفرنسي (الثقافي الاقتصادي) إلى تبني استعمار جديد (صيني وروسي).
إن مشكلة أفريقيا ليست في إنسانها كما قال ماكرون، وليست كذلك في عدم دخولها للنادي الحضاري، ولكن المشكلة الأفريقية سياسية من الدرجة الأولى، وهي مرتبطة بالعقلية التى ترى أن الإنسان الأفريقي مهيأ للاستبداد، فالسادة في أوروبا وفي الصين وفي روسيا يرون بأن تعاطي القارة للديمقراطية ليس جيدا، وليس فيها مصالح للدول العظمى، ولا حتى لشركائها، وهذا في الوقت الذي تتطلع الشعوب، والنخب الفكرية في إيجاد حكم ديمقراطي بحيث يحاول الجميع إبقاء القارة تحت الهيمنة، ولهذا، تكون البداية الثورة على على الوضع الذي يصنع التبعية الأبدية.
يقتنع الفرنسيون بأنه لا فرنسا بدون أفريقيا، وهذا ما صرّح به رئيس فرنسا الأسبق (ميتران) وتعمل فرنسا بكل قوة بقاءها في القارة، بل تؤكد أن مقعدها في القارة محجوز وإلى الأبد، ولهذا يعتبر وجود فرنسا في القارة شأنا سياسيا، ورئاسيا، وليس برلمانيا، كما أنه يعتبر وجود فرنسا في القارة مسألة وجود لفرنسا، وليس فقط مسألة تنمية كما يقول البعض، ومن هنا، فإن فرنسا لن تقبل الهزيمة بسهولة في القارة، كما أنها لن تقبل الانسحاب منها بسرعة، ولكن الواقع الذي تم صناعته مؤخرا، لا يكون لصالح فرنسا، ومن هنا، فإن الحراك الفرنسي الأفريقي سيكون ساخنا في الأيام القادمة.
صحيح، لا مستقبل لفرنسا بدون أفريقيا كما يقول ميتران، ولكن للقارة الأفريقية مستقبل بدون فرنسا، فالصراع اليوم ليس بين مستقبل فرنسي، ومستقبل أفريقي فقط، بل هناك صراع بين فرنسا والصين وروسيا من جانب، وبين فرنسا واليقظة الأفريقية من جانب آخر.
يرى الأفارقة بأن ثرواتهم تحكمها فرنسا التي تزداد غنى، وأهالي القارة يزدادون فقرا، ويرون بأن البلدان الأفريقية التابعة لفرنسا تضع مداخيلها تحت النفوذ الفرنسي أكثر من 80%) ويقع ذلك تحت رقابة البنك المركزي الفرنسي، وتضخ أكثر من 50% من احتياطاتها إلى فرنسا، كل ذلك يجرى، وبدون تغيير يذكر منذ عقود ستة، بل تبقى تلك الدول بدون حرية حقيقية، واستقلال كامل.
تحتاج فرنسا إلى تغيير كامل لعقليتها الاستعمارية، وفكرها الاستعلائي، وروحها السياسي المبني على التحكم الشديد، كما يحتاج الأفارقة إلى تغيير العقلية التي ورثوا بها من الاستعمار، فالعالم تغير كثيرا، والناس علموا أكثر، ولن يكون العالم كما كان قبل ستين عاما، ولكنه لن يكون كما يحلم به بعضنا بدون عمل، فلا بد من خطة أفريقية تخرج الأفارقة من عالم (البقاء) تحت الهيمنة، إلى عالم (الخروج) نحو السيادة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق