البرهان من الصولة إلى الجولة
قبل أقل من شهر واحد، تمكَّن عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة السوداني، من التسلل من الرقعة الضيقة التي ظل محاصرا فيها لأكثر من أربعة اشهر، من قِبل قوات الدعم السريع، التي يقودها ربيبُه ونائبه السابق في المجلس السيادي، محمد حمدان دقلو (حميدتي) والتي تخوض حربا ضد الجيش، منذ وقتها وهو في حالة تجوال خارج الحدود يزور هذه الدولة وتلك، ولم يصدر عقب تلك الزيارات ما يفيد بأن البرهان خرج منها بما يفيد معركته ماديا أو أدبيا.
ثم صدر عن وزارة الخارجية السودانية بيان قبل يومين، جاء فيه أن ذهاب البرهان إلى نيويورك للمشاركة في اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، نصر دبلوماسي مؤزر، وذلك للإيحاء بأن المشاركة تعني اعترافا أمميا به كرئيس دولة، مما قد يعود عليه بالنفع في معركته ضد الدعم السريع، وربما لا يعرف من أصدروا ذلك البيان أن الأمم المتحدة تعترف بـ"الدول" ولا شأن لها بمن يحكمها، وأن مقر الأمم المتحدة في نيويورك "فاتيكان" أي بقعة مستقلة عن مشيئة دولة المقر، التي هي هنا الولايات المتحدة، وحضور رئيس أي دولة لمداولات المنظمة الدولية لا يخضع لمشيئة السلطات الأمريكية.
منذ أن تسلل إلى القصر الرئاسي على أنقاض حكومة حزب المؤتمر الوطني ورئيسها عمر البشير، راكبا موجة الرفض الشعبي لتلك الحكومة، والبرهان يثبت أن أكثر ما يعنيه من أمر منصب رئيس مجلس السيادة هو الهيلمان والطيلسان والأبهة، ومن ثم فإن جولاته الخارجية الحالية التي خرج منها خالي الوفاض، والتي أبعدته عن أرض المعركة، لابد وأن أشبعت غروره، لكونه خلع خلالها جلبابه العسكري، وامتشق زي رئيس الدولة.
خاطب البرهان الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الخميس الماضي الموافق 21 أيلول/ سبتمبر، وكرس القسم الأعظم من خطابه لتعداد جرائم الدعم السريع منذ اشتعال الحرب في منتصف نيسان/ أبريل الماضي، ورغم أن العالم كله يعرف أمر مأساة دارفور منذ بواكيرها في عام 2003، فقد حرص البرهان على عرض الفظائع التي ارتكبها الدعم السريع في الإقليم عبر السنين، وفات عليه أنه كان ضالعا فيها عبر السنين، خاصة عندما كان راعي الجنجويد، وهم عصابات القتل والحرق والنهب التي رعتها حكومة عمر البشير.
وتأسيسا على تلك الاتهامات لقوات الدعم السريع، طالب البرهان المنظمة الدولية اعتبار تلك القوات كيانا إرهابيا، وكأنه يريد بذلك أن ينسى المجتمع الدولي أنه من تولى تسويق قوات الدعم السريع وتبييض سيرتها، وأنه من جعل قائدها نائبا له في المجلس السيادي ومنحه رتبة فريق أول، ثم أنه ومتسلحا بنزعة دون كيشوتية جعلته يناطح الاتحاد الأفريقي ومجلس السلم والأمن الإفريقي، دخل في تحدٍّ مع الأمم المتحدة عندما قرر طرد مندوبها في السودان، الذي كان مكلفا بموجب قرار دولي بمساعدة أهل السودان لتحقيق التحول إلى حكم مدني ديمقراطي، ونسي أو تناسى وهو يعدد جرائم الدعم السريع في سياق الحرب، أن ذلك المندوب قدم قبل أيام قليلة تقريرا وافيا عن حال السودان في ظل الحرب، كشف فيه أيضا عن خروقات ارتكبها الجيش السوداني باستخدام الطيران الحربي والمدافع والدبابات داخل المدن.
ولأن حرب السودان الحالية في جوهرها حول السلطة والثروة: البرهان يريد أن يكون رأس الدولة وحده لا شريك له، والمحافظة على استثمارات وشركات الجيش التي لا يعرف أحد خارج حلقة ذوي الرتب الرفيعة في الجيش اين تذهب عائداتها، بينما حميدتي صدٌّق أن به "خامة رئاسية" تؤهله لمنافسة البرهان على كرسي الرئاسة، حتى يحافظ على الثروات الطائلة التي راكمها في السنوات الأخيرة. لأن الحال كذلك، فما من دولة زارها البرهان إلا واكتفت بمطالبته بوقف الحرب، وكان الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير دولة قطر ـ التي زارها البرهان قبل أيام قليلة ـ الأكثر وضوحا في هذا الصدد، عندما طالب في خطابه في المنظمة الدولية بوقف فوري للحرب، وقال إن المطلوب هو أن يكون للسودان جيش واحد، "يحمي البلاد وليس يحكمها".
مأزق البرهان الراهن هو أنه وبخيار جولة إثر جولة، ابتعد عن صولة الحرب، وبذلك فقدَ سلطة إصدار القرارات العسكرية بوصفه قائد الجيش، وهناك من يرجح أنه قد يفقد ذلك المنصب كليا، وهو يحط الرحال في ميناء بورتسودان حيث استقر بعض كبار المسؤولين الحكوميين طلبا للسلامة، ليس فقط لأن قوات الدعم السريع ستكون له بالمرصاد لاعتقاله أو تصفيته وهو يحاول العودة إلى الخرطوم، ولكن لأن قراءة واقع المعارك تؤكد أن الجيش عاجز عن تحقيق أي نصر يعتد به أو اختراق لاستحكامات الدعم السريع، وربما ينقلب على قيادته ضباط يسوؤهم بؤس أداء الجيش.
عن حال فقدان التوازن السياسي و"العملياتي" البادي على البرهان، في تخبط قراراته وهلامية تصريحاته، راجت طرفة في السودان تقول إن الشخص الذي يقود السفينة إلى حيث يريد الركاب يسمى قبطان، بينما الذي يقودها إلى حيث يريد هو يسمى قرصان، أما الذي يتصدى لقيادتها وهو لا يعرف كيف، ولا إلى أين يذهب بها فهو "برهان"..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق