الأحد، 24 سبتمبر 2023

بلاد العجائب في زمن الغرائب

بلاد العجائب في زمن الغرائب

 د. عبد الرحمن بشير

في وطننا مستشفيات سيئة للعلاج، أو تكون منعدمة الوجود، أو تصبح الأدوية فيها منعدمة الفاعلية، ولكن في بلادنا مساجد جميلة متخصصة للصلاة على الأموات، ويجتمعون في لحظات الموت ليأكلوا الخراف، وليمضغوا القات، ويتبادلوا فيما بينهم الكلمات الرائعة عن تاريخ المتوفى، نحن قوم نتقن فن القتل المنهجي والإماتة، ولا نحسن فن الإحياء.

في وطننا طرق وشوارع منتهية الصلاحية، ولكن عندنا أغلى السيارت، وأجملها، وأغلاها، وأفضلها، ونتفاخر في اقتنائها، وتنويعها، وفي بلادنا تنعدم مجاري المياه بشكل أساسي، ولكن لدينا مباني ضخمة، قد تبدو في شكلها (دبي) الجميلة، أو تنافس في ارتفاعاتها (سنغافورة) الرائعة، وقد تجد في بلادنا (أسواقا) تنافس في كثرتها وأشكالها تلك التى نراها في أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا، ولكن نجد في الخارج كمامات النفايات في كل مكان، فلا جمال في الشوارع، ولا تنظيم في المدن، ولا نهضة عمرانية في العواصم وغيرها (فقر في عالم الأفكار، وغنى في عالم الأشياء).

في وطننا برلمان، وعندنا حكومات، ولدينا رئيس جمهورية، وفي سماءنا وفوق رؤوسنا علم له ألوان وأشكال، وتحت أرضنا كنوز من الخيرات ما الله بها عليم، وتملأ شوارعنا كتل بشرية (الشرطة)، ومن وراءها (القوات المسلحة)، وتكدست عند معسكراتنا الأسلحة القديمة والحديثة، ومع ذلك، يحرس بلادنا غيرنا، فالحدود مفتوحة، والعدو لا يخاف من جيشنا، لأنه يعرف أنه جيش غير محترف، وغير عقائدي، فالسلاح موجه نحو الشعب إذا انتفض أو حاول إصلاح الحكم الذى انحرف، أو نحو العدو الوهمي الذى يصنع إن كانت ثمة ضرورة لإيجاده، وفي وطننا، كل شيئ موجود، ولكنه شكلي، وفي وطننا، كل شيئ مهم، ولكن لحكامنا، وليس لشعبنا.

في وطننا، حين يمرض الناس يذهبون إلى شيوخ يعالجون ما لا يعرفون (العلاج البدائي)، او يذهبون إلى الخارج للبحث عن دواء ممكن استيراده، أو عند طبيب ممكن إيجاره ونقله إلى البلد، أو عند مستشفي في الخارج ممكن إيجاد مثيل له في الوطن، ولكن المشكلة ليست في الندرة في عالم الأشياء، بل المشكلة الندرة في فكر القيادة، وفي فقر الثقافة، وفي تصحّر العقلية القيادية، هم يرغبون في صناعة الحاجة بشكل مستمر، ويحبون أن يسمعوا من الناس الصيحات، والنداءات المتكررة في الرحمة والرأفة، وفي أخذهم إلى الخارج للعلاج، وحينها يسمعون من المواطن الذى كتب عليه الفقر المنهجي الدعاء والشكر.

في بلادنا كل شيئ عجيب، الناس يغزوهم الفقر من كل مكان، وتتقلص خزينة الدولة بشكل مستمر، ويزداد الدين العام على كاهل الشعب، ومع هذا نجد المباني تزداد جمالا، والفقر يزداد قوة، ومن الغريب أن من الناس من يشتري المنازل التى تشبه القصور، وبعضهم يبنون البيوت الفاخرة والفارهة في الداخل والخارج، وحين تسألهم من أين لكم هذا؟ يقولون: من الله الوهاب، ويكتبون في الباب الرئيسي الداخلي (هذا من فضل الله)، وتجد بعضهم يشترون قصورا من كندا، أو من تركيا، المهم، اتفق الجميع في نهب الوطن، وفي تدميره، وصناعة الوطن البديل له ولأولاده، وبالتالي فهو لا يخاف من المستقبل.

في بلادنا يدمرون النظام التعليمي، ويتخرج منه أشباه المتعلمين الذين لا يحسنون كتابة جملة مفيدة حسب لغاتهم، أوفي اللغات الأجنبية، ولا يمكن لهم إبداع شيئ نافع ومفيد، ولكن الحكام عندنا يرسلون أولادهم إلى الخارج، فيتعلمون هنالك أفضل التعليم، ويكتسبون الجنسيات من أرقي الدول، ويحملون أفضل جوازات السفر، ثم يعودون إلى الوطن ليحكموا بدل آبائهم الذين نهبوا الوطن، وهؤلاء يكملون المسيرة، فيسرقون أكثر، وبشكل أجود، هكذا تستمر الحياة في بلادنا، وإلى الهاوية.

في بلدنا، الشيوخ يدعون للحكام بطول العمر، وبقاء الحكم لهم، والحكام يسرقون الأموال بلا خوف ولا رقيب، والشيوخ يفتون للعامة بالسمع والطاعة بشكل مطلق، والحكام يحكمون بغير ما أنزل الله، وبغير إرادة الشعوب، في بلادنا التناقض هو الأساس، ولكن الناس في بلادنا يعيشون بلا منهحية، ليلهم كنهارها، ونهارهم كليلهم، فلا تحديث، ولا تطوير، إن جميع أحاديث الناس تدور حول الحاكم وأسفاره، وسياراته، وأولاده، وزوجاته، وعشيقاته، وممتلكاته، وشركاته، كل شيئ يدور حول الحاكم، فلا حديث عن غير ذلك، ومن تحدث عن غير ذلك فهو مجنون، أو معتوه، لأنه خرج من النمط.

في بلادنا، الشباب يبحثون عن العمل في كل مكان، فلا يجدونه، لأن العمل لا يرتبط بما ذا تعرف؟ وإنما يرتبط بمن تعرف، في بلادنا، حتى السياسي يخطط في يومه أين يمضى جلسته في المساء؟ ومع من؟ فلا خطة بديلة له، لأن الحياة توقفت في بلادنا عند محطة (القات)، ولهذا يخطط كثير من شبابنا السفر إلى أوروبا، وقادة أوروبا قرروا عدم استقبال اللاجئين في أراضيهم، فيموتون في وسط البحار بلا رحمة، إنهم يموتون بسبب قسوة المناخ السياسي في بلادنا.

في بلادنا، يعيش الإنسان سبعين عاما، ولكنه يفكر وكأنه طفل يعيش في مقتبل العمر، له والد لا يموت، وهو الحاكم، ووالدة لا تموت، وهي زوجة الحاكم، تجده يقول عن الحاكم (الوالد)، وعن زوجة الحاكم (الوالدة)، في بلادنا، الوصاية نظام سياسي مستدام، واستعلاء الحاكم على الناس منهج سياسي، والطفولة الأبدية حالة غريبة، ولهذا، نجد بلادنا لا تسجل تقدما لأن الناس يعيشون في حالة أبوة مستدامة.

وأخيرا، وليس آخرا، في بلادنا كل شيئ ممكن، الأجنبي يحكم المواطن، والمواطن يتسوّل من الأجانب ومكاتبهم، المواطن يزداد بؤسا وفقرا، والأجنبي يزداد غنى وتمكينا، في بلادنا، تصبح الجامعات كالمطاعم، تزداد وجودا في كل مكان، ولكنها لا تصنع الثقافة والتعليم، بل تنشر الشهادات والألقاب بلا سقف، في بلادنا، تزداد المحاضرات الدينية والمؤتمرات الدعوية عددا، ولكن القيم الأساسية لبناء الدول والمجتمعات تختفي من الوجود، ولقد صدق من قال عن بلادي، إنها تخلو من الحياة، فالحياة فيها تحتاج إلى حياة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق