الجمعة، 29 سبتمبر 2023

درنة (العزيزة): مدينة القادة الفاتحين والصحابة والتابعين الكرام “القائد الإسلامي زهير بن قيس البلوي”

درنة (العزيزة): مدينة القادة الفاتحين والصحابة والتابعين الكرام “القائد الإسلامي زهير بن قيس البلوي”



نبَّهت سيول مدينة درنة (العزيزة)، والكارثة التي حَلّت بها لمكانة وقيمة هذه المدينة التاريخية العريقة “مدينة الأدب والثقافة” و”جبَّانة الصحابة والتابعين”، والتي كانت ولا تزال موطن الكرام، وأهل الحِكمة، وحَفظة القرآن، وأهل الإحسان والغِيرة والإقدام، وكانت مركزاً من مراكز انطلاق الفتح والجهاد والتحرير ضد الطغاة والغزاة في تاريخها، وتشهد على ذلك معالم المدينة التي تنتمي لمرحلة الفتح الإسلامي، إذ استشهد فيها ثلاثة من الصحابة، وسبعون من التابعين في إحدى معارك جيوش الفتح ضد الرومان، والتي حصلت على الجانب الشرقي لوادي المدينة، ودُفنوا في المكان ذاته، قبل أن يقيم عليهم سكان المدينة أضرحةً وقباباً لها رمزيتها لدى سكانها والزائرين منذ القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي.

وإن من أبرز القادة الذين تحتضن المدينة أضرحتهم هو الصحابي الجليل والقائد الإسلامي الكبير زهير بن القيس البلوي (رضي الله عنه)؛ الغازي المجاهد أبو شداد، وهو من القادة المسلمين البارزين في فتوح المغرب، وهو قائد عسكري فذ، ووالٍ مخضرم، وذوو خبرة طويلة في مسيرة القيادة والإدارة والجهاد، وغدا الخليفة المباشر للقائد عقبة بن نافع في تولي حركة الفتح الإسلامي بإفريقيا، وقد سار على خطواته حتى أكمل فتح القيروان، وخلصها من طغيان الرومان، بعد تخطيط وإعداد استغرق خمس سنوات متواصلة من استشهاد القائدين عقبة بن نافع وأبو المهاجر دينار (رحمهم الله)، وهو ما سنتكلم عنه في هذا المقال.

1- القائد زهير بن قيس البلوي: اسمه ونسبه

هو أبو شداد، زُهير بن قيس البلوي، نسبة إلى ( بَلّى ) وهي فخذ من قُضاعة، ويسميه سكانها (سيدي زهيري)، قال المؤرخ الإسلامي ابن الأثير: يقال إن له صحبة، وهو جد زاهر بن قيس بن زهير بن قيس، والي برقة لهشام بن عبد الملك. [الكامل في التاريخ – ابن الأثير، 3/ 362]

كان لزهير (رضي الله عنه) بصمات قويّة وفاعلة في الفتح الإسلامي، وأبلى بلاءً حسناً في ساحات الوغى، وغاص بجنوده المجاهدين في أعماق إفريقيا على ساحل البحر المتوسط، وعُرف عنه كثرة تواضعه وتقواه وورعه، وإقدامه وحبه للجهاد، وقد كان عقبة بن نافع يضعه في مقدمة جيشه دائماً لما عُرف عنه من الصدق وحسن البلاء في الجهاد والقتال [سفير التاريخ الإسلامي، عبد المقصود باشا، 4/33]

وكانت من أبرز صفحات تاريخه المشرقة مشاركته في فتح مصر بقيادة الصحابي الجليل عمرو بن العاص (رضي الله عنهما)، وفتحِه للقيروان عام 69ه، وكسره لجيوش الرومان و"كسيلة" هناك، ودفاعه عن برقة ضد الرومان حتى استشهادة (رحمه الله).

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: زهير بن قيس البلوي، يقال إن له صحبة، يكنّى أبا شداد، شهد فتح مصر وروي عن علقمة بن رمثة البلوي، وروي عنه سويد بن قيس. [الإصابة في تمييز الصحابة، 2/ 478] ولم يذكر أهل التأريخ والسير سنة ولادته على التحديد، وذكروا أن له صحبة للنبي (صلى الله عليه وسلم) كما مرّ، واِستُشهد في جهاده ضدّ الروم سنة 76 هـ. [الكامل في التاريخ، 3/ 362]. وقد دفن هذا القائد الكبير في المكان الذي بات يُعرف بـــ “جبَّانة الصحابة” في مدينة درنة العزيزة، تقبله الله في الشهداء، وأسكنه فسيح جناته.

2- ولاية القائد زهير البلوي على القيروان في حياة عقبة بن نافع واستعادته لها بعد استشهاده

بعد اكتمال بناء القيروان عام خمسة وخمسين على يد القائد عقبة بن نافع؛ عُزل عن ولاية إفريقية، ثم لمَّا أُعيد إليها عام اثنين وستين قام برحلته الجهادية المشهورة التي قطع فيها ما يزيد على ألف ميل من القيروان في تونس إلى ساحل المحيط الأطلسي في المغرب، وقد استخلف على القيروان زهير بن قيس البلوي، ودعا لها قائلاً: يا رب املأها علماً وفقهاً، واملأها بالمطيعين لك، واجعلها عزاً لدينك وذلاً على من كفر بك.. وامنعها من جبابرة الأرض [الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي، 1/126].

وقد خلق استشهاد عقبة بن نافع وأصحابه في موقعة تهودة وضعاً مضطرباً لدى المسلمين في إفريقيا والمغرب عامة، وهدد بسحق الانتصارات التي حققها الفتح الإسلامي، لكن زهير بن قيس البلوي الذي ولّاه عقبة على القيروان، حاول أن يخفف من تأثير الانكسار النفسي المقلق لدى المسلمين [عمليات تحرير المغرب في ولاية زهير بن قيس البلوي، ص 10]. فتسلّم قيادة الجيش خلفاً لعقبة بن نافع، وعزم على إكمال مسيرته، والمضيّ في طريقه، فعزم ‌زهير ‌بن ‌قيس البلوي على إكمال طريق عقبة مباشرة، فخالفه حنش الصنعاني وعاد إلى مصر، فتبعه أكثر الناس، فاضطر زهير إلى العودة معهم، فسار إلى برقة وأقام بها. وأما كسيلة – القائد البربري الذي قتل عقبة بن نافع، وهزمه زهير لاحقاً في معركة القيروان – فاجتمع إليه جميع أهل إفريقية، وقصد إفريقية، وفيها أصحاب الأنفال والذراري من المسلمين، فطلبوا الأمان من كسيلة فآمنهم ودخل القيروان واستولى على إفريقية وأقام بها إلى أن قوي أمر عبد الملك بن مروان هذا وقد بقيت القيروان بيد كسيلة مدة تقارب خمس سنوات من عام (64 ـ 69 هـ) حتى خلصها زهير البلوي من قبضته بعد أن أمده عبد الملك بن مروان بجيش كبير [الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي، 1/136].

وفي ذلك يقول محمد بن عبد الله عنان: ففي ذلك الحين ثار البربر بقيادة زعيم لهم يدعى كسيلة بن لمزم كان قد اعتنق الإسلام وحالف العرب ثم تغير عليهم، وانضمت إليه جموع كثيرة من الروم والبربر، وانتهز فرصة تفرق المسلمين في مختلف الأنحاء، وانقض بجموعه على جيش عقبة، ووقعت بين الفريقين معارك شديدة هزم فيها المسلمون، وقتل عقبة وجماعة من القادة (سنة 62هـ) وزحف كسيلة على القيروان واستولى عليها، وارتد حاكمها زهير بن قيس البلوي بقواته القليلة إلى برقة، وكادت بذلك تذهب دولة العرب في إفريقية [دولة الإسلام في الأندلس، محمد عبد الله عنان، 1/20].

فلم يستطع زهير أن يحقق ما عزم عليه من مواصلة الجهاد بعد عقبة بن نافع إلا بعد سنوات من استشهاده رحمه الله تعالى، وذلك في سنة 69 [موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي، عبد المقصود باشا، 10/959] إذ لم تستطع الخلافة الأموية في تلك الحقبة أن تهتم بأمور “إفريقية” إثر مقتل عقبة بن نافع واحتلال “كسيلة” البربري للقيروان إلا بعد وقت طويل؛ لأن ظروف الخلافة لم تسمح بذلك. لقد توفي يزيد بن معاوية “64هـ/ 682م”، وخلفه ابنه معاوية “الثاني” ولم يكمل عاماً واحداً حتى تنازل عن الخلافة دون أن يعين من يخلفه، وانتهى الأمر -في العام نفسه- إلى مروان بن الحكم. وكان قد انشغل مروان بن الحكم بما وقع بينه وبين عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، ثم لم يلبث إلا أن مات بعد فترة وجيزة سنة 65هـ/ 683م”، تاركا الخلافة لابنه عبد الملك الذي ورث واقعاً سياسياً مرهقاً عمل بمهارة فائقة وجهد دؤوب على تعديله. وبعد أن هدأت الأحوال شيئا فشيئا ابتداء من “68هـ/ 687م” وثبتت الخلافة لعبد الملك اتسع أمامه الوقت ليقوم بعمل عسكري لاستعادة القيروان والمغرب [الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، 1/ 147].

فلم تمنع المشكلات العديدة والفتن المتتالية الخليفة عبد الملك من التفكير في أوضاع إفريقية، وضرورة استعادة نفوذ المسلمين بها، واستشار من حوله في ذلك، واستقر الرأي على ضرورة تجهيز حملة جديدة، يكون على رأسها ‌زهير ‌بن ‌قيس؛ لمعرفته بطبيعة المنطقة وأحوال الناس هناك، فضلا عن شجاعته وحبه للجهاد، فأرسل الخليفة بذلك إلى زهير ببرقة، وأمده بما تحتاج إليه هذه الحملة، وحشد إليه وجوه العرب، ووفر له المال اللازم، فرتب زهير أموره، وخرج للقاء كسيلة وجموع البربر والروم، فعلم كسيلة بتحركات زهير وفضَّل الخروج لملاقاته خارج القيروان. خشية أن ينضم المسلمون المقيمون بها إلى جيش زهير، واختار منطقة ممس التي تبعد مسافة يوم عن القيروان، لتكون معسكرًا لجنوده، لوفرة المياه بها وقربها من الجبال، التي يمكن الاحتماء بها، أو الهروب إليها إذا ما حلَّت الهزيمة بجنوده. وصل زهير على رأس قواته إلى القيروان، واستراح خارجها عدة أيام عبأ فيها قواته، وتجهز للمعركة، وقد نفخ زهير بن قيس البلوي في الجنود روح المقاومة والتصدي لكسيلة عندما زحف على القيروان، وهتف قائلاً: يا معشر المسلمين إن أصحابكم قد دخلوا الجنة، وقد منّ الله عليهم بالشهادة، فاسلكوا سبيلهم، أو يفتح الله عليكم دون ذلك [البيان المغرب 1/31].

ثم انطلق للقاء كسيلة وجموعه من البربر والروم عند ممس، ودارت بين الفريقين معركة حامية؛ حمى فيها الوطيس، وكثر عدد القتلى من الفريقين، ولكن المسلمين صمدوا، وتمكنوا من قتل كسيلة، فدبَّ الضعف والوهن في جموع البربر والروم، وتكاثر عليهم المسلمون من كل مكان، وقتلوا منهم عددًا كبيرًا، وتتبعوهم حتى فروا من أرض المعركة؛ يجرون وراءهم أذيال الهزيمة المنكرة [موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي، د. عبد المقصود باشا، 6/12].

وفي ذلك يقول الدكتور عبد المقصود باشا: لما انتهى المطاف بعقبة شهيدا نتيجة حربه الشرسة التي خاضها ضد الروم والمرتد كسيلة الأمازيغي، الذى كان قد أسلم وارتد عن الإسلام، قام كسيلة بالزّحف إلى القيروان وزحف معه الروم وقاموا باحتلالها كليا، واستمر ذلك الحال إلى أن قام عبد الملك بن مروان بتولي الخلافة في العام 65 هـ، فقام بإرسال المقاتلين والمدد إلى زهير، فقام زهير بالتوجه مع المقاتلين إلى كسيلة والروم لقتالهم فاجتمع جيش المسلمين وزهير من جهة، وجيش الروم وكسيلة من جهة أخرى، واقتتل الجيشان قتالا عنيفا انتهى بانتصار المسلمين واندحار وهزيمة الروم، وتم قتل كسيلة في تلك المعركة العنيفة مما أدى إلى انكسار شوكة الأمازيغ.

في هذه الوقعة ذهب رجال البربر والروم وملوكهم وأشرافهم، وعاد زهير إلى القيروان وجنود المسلمين منصورين بنصر الله تعالى [موسوعة التاريخ الإسلامي، الدرر السنية، 1/252. تاريخ الجزائر في القديم والحديث، مبارك محمد الميلي، 2/ 30].

3- عودة زهير البلوي إلى برقة بعد تحقيق نصره في القيروان

بعد المعركة الفاصلة التي انتصر فيها زهير على البربر والروم بقيادة كسيلة تتبع زهير البربر حتى وادي ملوية. وقد ظن أنه قلم أظفار البربر نهائياً، فحسب أن الأمن قد استتب، فزهد في الامارة [تاريخ الجزائر في القديم والحديث،2/ 30] ولم يرد الإقامة في القيروان لما وجده من عظمة ملكها على الخصوص، ولما رآه من عظمة الملك في إفريقيا على وجه العموم، على أن الرجل لم يترك القيروان حتى أقام أمرها ودبر شؤونها، وترك زمرة من أصحابه المجاهدين فيها وارتحل من القيروان مشرقاً [علاقة الأمازيغ في ليبيا بالعرب، نجيب القندوز، رسالة ماستر، 2017، ص 47] . ويبدو أنه لم يكن مستريحا للمقام في تلك البلاد، ويفسر الرواة ذلك بأن زهيرا “كان من رؤساء العابدين وأشراف المجاهدين وكبراء الزاهدين، وأنه رأى بإفريقية مُلْكا عظيما فأبى أن يقيم وقال: إنما قدمت للجهاد، فأخاف أن أميل إلى الدنيا فأهلك” [نهاية الأرب في فنون الأدب، 20/100].

4- استشهاد القائد زهير البلوي

وكان الروم بالقسطنطينية قد بلغهم مسير زهير ومعه الجيش كله من “برقة” إلى “القيروان” لقتال كسيلة، فاغتنموا الفرصة وخرجوا من جزيرة “صقلية” في مراكب كثيرة وقوة عظيمة فأغاروا على “برقة”، وأصابوا فيها سبيا كثيرا وقتلوا ونهبوا، وأقاموا بها مدة أربعين يوما. وقد وافق ذلك رجوع زهير إلى المشرق فأخبر بخبرهم، فأمر العساكر بالإسراع والجد في قتالهم، وعجل هو بالمسير ومعه سبعون من أصحابه أكثرهم من التابعين وأشراف المسلمين المجاهدين، وعندما علم الروم بقدومه أخذوا في الاستعداد للرحيل عن “برقة”، وفي الوقت الذي وصل “زهير” فيه إلى ساحل مدينة “درنة” -التي اتخذها الروم مركز لهم- كان الروم يدخلون سباياهم من نساء المسلمين وذراريهم إلى المراكب. قال ابن الأثير: “فلما رآه المسلمون استغاثوا به فلم يمكنه الرجوع، وباشر القتال، واشتد الأمر، وعظم الخطب، وتكاثر الروم عليهم، فقتلوا زهيرا وأصحابه، ولم ينج منهم أحد.

وهكذا أصيب المسلمون بكارثة أخرى في إفريقيا “تونس حالياً”، ووصلت أنباء مقتل زهير وأصحابه إلى “دمشق”، فكان لها رنة حزن عميقة، وتوقف الفتح مرة أخرى عدة سنوات، وكان لا بد من مواجهة حاسمة بعد أن طال الأمر كثيراً [موجز الفتوحات الإسلامية، د. طه عبد المقصود أبو عُبيّة، ص 79].

وقد عادت بعض السيطرة البيزنطية على أجزاء من الساحل الإفريقي، إلى أن استعاد الفتح الإسلامي عافيته ومجده ابتداء من حسان بن الثابت سنة 74 ه، إلى أن استقر وتمدد سنة 85 ه، على يد القائد الإسلامي موسى بن نصير رحمهم الله تعالى جميعاً [موجز الفتوحات الإسلامية، د. طه عبد المقصود أبو عُبيّة، ص 87].

درنة عزيزة، وصامدة، وحاضرة طوال تاريخها، فسلام عليها، وعلى من عاش فيها أو دُفن فيها في الخالدين.

المراجع:

  • الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، 1/ 147.
  • الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي، 1/126، 136.
  • الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر، 2/ 478.
  • البيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب، 1/31.
  • تاريخ الجزائر في القديم والحديث، مبارك محمد الميلي، 2/ 30.
  • دولة الإسلام في الأندلس، محمد عبد الله عنان، 1/20.
  • الدولة الأموية، د. علي محمد الصلابي، 2/350.
  • علاقة الأمازيغ في ليبيا بالعرب، نجيب القندوز، رسالة ماجستير، 2017، ص 47.
  • عمليات تحرير المغرب في ولاية زهير بن قيس البلوي، ص 10.
  • الكامل في التاريخ – ت تدمري، 3/ 362 ، 364.
  • موجز الفتوحات الإسلامية، طه عبد المقصود أبو عُبيّة، ص 79
  • موسوعة التاريخ الإسلامي، الدرر السنية، 1/252.
  • موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي، عبد المقصود باشا، 10/959 – 6/12.
  • نهاية الأرب في فنون الأدب، 20/100.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق