الاستعمار يعبث مجددا.. العداء بين العرب والأتراك
دعونا نعرف هذا أولاً: "كراهية الأجانب" أيديولوجية غريبة عن تركيا وثقافتها وتاريخها ومعتقداتها ونسيجها الاجتماعي. وتشهد على ذلك آلاف السنين من التراث الحضاري والثقافي لسكان هذه المنطقة. فبعيدًا عن أي نوع من الغطرسة أو تجميل التاريخ، فإن التنوع الاجتماعي والثقافي كان السمة البارزة على مدار ألف عام من الزمان، حيث لا يشعر أحد أنه "غريب" أو "أجنبي" في هذه الأرض.. ومفهوم "الغربة" كان الأكثر غرابة.
وعندما اعتنق الأتراك الإسلام، امتلأ شعورهم بالامتنان له، كما فعل العرب الذين اعتنقوه، وملأهم هذا الشعور بالسمو، وعندما تسلم الأتراك الراية من العرب الذين اجتهدوا في سباق نشر كلمة الله، استمروا في إظهار نفس التسامح الديني في المدن التي أسسوها، تماما كما فعلت الحضارتان الأموية والعباسية في كل مكان رفعت فيه أعلامهما.
ولم يكن هذا التسامح كرامة من العرب ولا من الأتراك. كانت معجزة الإسلام نفسه؛ إذ يمكن النظر إلى حقيقة أن الله جعل من أعداء الأمس "إخوة" على أنها الجانب الأكثر ثورية في الإسلام {وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ ۚ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍۢ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ}.
وتعمل جميع إستراتيجيات السلطة على خلق عدو تحدده وتستهدفه وتسعى إلى تدميره، ويستند وجود هذه السلطة إلى كراهية ذلك العدو، لكن كتاب الله العزيز (القرآن الكريم) نحا منحى آخر؛ فقد زرع المودة بين قلوب من كانوا بالأمس أعداء بعضهم البعض، وجعلهم إخوة بنعمته.
ولم تظلل نعمة هذه الأخوة (الصداقة) المسلمين وحدهم، بل حصل غير المسلمين أيضًا على نصيبهم من منها، فاستطاعوا الاستمرار في العيش تحت المظلة السياسية الجديدة، أحرارًا في دينهم ولغتهم وثقافتهم.
وشعور المسلم -حتى تجاه غير المسلمين- خالٍ من الكراهية، ما داموا لم يظلموه أو يعادوه. فالله هو خالق البشر جميعا، وقد خصص الرزق وحق الحياة والإرادة والحرية للجميع دون تمييز بين مسلم وغير مسلم.
ولذلك فالمسلم، حتى لو كان يعرف أنه على الطريق الصحيح، فإنه ليس غريبًا عن حقيقة أن الله قد أعطى الناس الحق في أن يكونوا كما يريدون بإرادتهم الحرة. وعند هذا المؤمن -الذي اعتاد على رؤية الآيات في اختلاف الخلق- لا يوجد مفهوم "الأجنبية" أو "الأجانب".
العنصرية في مواجهة قيم الإسلام
وعلى نقيض ذلك، كلما ابتعدنا عن نعمة هذا الدين الذي يجعل من الأعداء إخوة، أصبح من المحتوم أن يصبح الإخوة أعداء لبعضهم البعض، لأن هذه النعمة الجميلة يتم تفضيل عقل الجاهلية العنصري عليها، وهو عقل لا يخرج منه سوى الحقد والكراهية والعداوة.
والحقد والكراهية المنبعثان من هذا العقل لا تتوجهان فقط إلى الأشخاص الذين يُعرَّفون بأنهم "أجانب"، فعندما تعلق في هذا المستنقع، لا يكون هناك حد لمن سيتوجه إليه هذا الحقد، ولا يمكن أن نعرف أين سيتوقف صاحبها. والعنصرية سقوط عن أنبل مكانة للإنسان، وضلال عن أجمل المعارف، وغفلة عن أعمق وعي.
إن حالة فقدان الوعي التي تجعل العرب يبدون "كأجانب" بالنسبة للأتراك هي ثقافة غريبة عن هذا المجتمع. ولسوء الحظ، فإن إغراءات الجهلة، الذين يحاولون تأجيج المشاعر ونشر هذه الثقافة، قد وصلت إلى حد إلحاق ضرر كبير بتركيا. والغريب أن هؤلاء الذين يرتكبون العنصرية نيابة عن الأتراك، يتعاونون مع أولئك الذين يرتكبونها نيابة عن العرب، ويحاول الطرفان إبعاد العرب والأتراك، الذين أصبحوا إخوة بنعمة من الله، عن بعضهم البعض.
قلناها من قبل، ونكررها: خطر الخطاب العنصري -الذي يستهدف إخواننا العرب- على تركيا، لا يقل عن خطر منظمات إرهابية، مثل "بي كيه كيه" (PKK) و"داعش"(تنظيم الدولية الإسلامية) ويجب أن نقاومه بنفس ما نقاوم به هؤلاء الإرهابيين
وفي تركيا، كانت هناك حملة قوية في وسائل الإعلام العربية ضد الأتراك منذ فترة طويلة. وكانت هذه الحملة تهدف إلى منع العرب من الذهاب إلى تركيا أو حبها. ولم تنجح هذه الحملة أبدًا لأن إخوتنا العرب الذين يملؤون قلوبهم حبًا لتركيا لم ينجرفوا وراء هذه اللعبة.
والآن، مع الحملة التي نشهدها، ينضم إلى أولئك الجهلاء الذين يمارسون العنصرية باسم العرب، أولئك الذين يمارسون العنصرية باسم التركية. ويتعاون هؤلاء معا لإبعاد الأتراك والعرب عن بعضهم البعض. وهذا لا يعني شيئًا سوى استعادة مشروع استعماري إمبريالي قد بدأ قبل قرن من الزمان على أراضي الدولة العثمانية.
ودعنا نؤكد أن أولئك الذين يقودون الحملات العنصرية المعادية للأجانب في تركيا هم أقلية غريبة عن الأتراك. وأن غالبية الشعب التركي يدركون أهداف هذا الشحن العنصري ولا يمنحونه أبدًا الأولوية.
وإذا كانت "العنصرية" حركة منظمة وذات صوت مرتفع لأنها تدار من مراكز التآمر، فإن صوت الغالبية التي تعتبر العنصرية موقفًا معاديا للبشرية آخذ في الارتفاع يومًا بعد يوم.
وقبل أيام، تم تنظيم فعالية تضامنية ضد العنصرية في حديقة "سراج خانة" في منطقة الفاتح. شارك فيها عديد من منظمات المجتمع المدني. وفي معرض حديثه عن هذا الحدث، قال رضوان كايا رئيس إحدى هذه المنظمات إن "العملية التي بدأت بفاشية الحزب الواحد، تعبر عن نفسها اليوم من خلال التحريض على كراهية اللاجئين، وهو أمر لم يكن حاضرا في تاريخ المسلمين أبدًا". وأكد كايا أن "كراهية اللاجئين" في تركيا منبعها كراهية البعض للإسلام نفسه.
وتُظهر هذه الاحتجاجات وردود الفعل التي نشهدها على نحو متزايد أن تركيا لن تستسلم لهذا الإرهاب العنصري الذي يرتكبه حفنة من البلطجية ضدها.
والرئيس أردوغان يعلن أيضا موقفا واضحا وقويا تجاه هذا الخطر. فقد قال في أحد خطاباته الأخيرة: "لن نسمح لهذه الألعاب الخبيثة التي تدمر نسيجنا الاجتماعي، من استفزازات منظمات إرهابية، وبعض السياسيين، إلى سم العنصرية وكراهية الأجانب، أن تتجذر. سنحبط جهود حفنة المحتالين الذين ينشطون على وسائل التواصل الاجتماعي لتفريق شعبنا وتحويل بلادنا إلى ساحة معركة".
ولقد قلناها من قبل، ونكررها: إن خطر هذه الخطابات العنصرية -التي تستهدف إخواننا العرب- على تركيا، لا يقل عن خطر منظمات إرهابية، مثل حزب العمال الكردستاني "بي كيه كيه" (PKK) و"داعش" (تنظيم الدولة الإسلامية)، ويجب أن تكون الإجراءات المتخذة ضدهم من عينة ما نواجه به تلك المنظمات الإرهابية، ويجب أن يتحول الموقف القوي للرئيس في هذا الشأن إلى سياسة بنفس القوة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق