هل حقا استأثر العرب بأخصب أرض الأندلس؟
ذهب نفر من المستشرقين والمؤرخين المحدثين، إلى القول إن العرب اختصوا أنفسهم بأحسن أرض الأندلس وخير نواحيها وبقاعها بعد فتحها في العقد الأخير من القرن الأول الهجري، وذلك مثل سهول الوادي الكبير في إشبيلية وقرطبة، وفي سهول أودية: شنيل، وتاجه، وأبرة، وفي سهول شرق الأندلس الغنية في مرسية وبلنسية وغيرها، ولم يتركوا للبربر غير الجبال القاحلة، والنواحي القصية، في الشمال الغربي، مثل نواحي جليقية واسترقة وليون والاسترياس.
زعم هؤلاء المستشرقون والمؤرخون أن هذا التقسيم المجحف للأقاليم المفتوحة في الأندلس، كان من أهم أسباب الثورة البربرية ضد العرب في الأندلس بعد ذلك.
المسؤول عن إثارة هذه الشبهة
والمسؤول عن إثارة هذه الشبهة، هو المستشرق الهولندي الأصل الفرنسي الجنسية والثقافة رينهارت دوزي (1820-1883)، في كتابه "تاريخ مسلمي إسبانية" المكون من 3 أجزاء، وتلقفها عنه تلميذه وخليفته المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال (1894-1956) وطورها وعممها في كتبه العديدة حول الأندلس، تاريخا وحضارة، ثم أخذ بها عدد ممن جاء بعدهم، من المستشرقين والمؤرخين الأوروبيين والإسبان، كما تبناها مؤرخون عرب، وعلى رأسهم الدكتور محمد عبد الله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس". وقد زعم هؤلاء المستشرقون والمؤرخون، أن هذا التقسيم المجحف للأقاليم المفتوحة في الأندلس، كان من أهم أسباب الثورة البربرية، ضد العرب في الأندلس، بعد ذلك، وتحديدا في سنة 123هـ.
وقد فنّد الدكتور حسين مؤنس في كتابه "فجر الأندلس"، والدكتور عبد الرحمن الحجي في كتابه "التاريخ الأندلسي"؛ هذه الشبهة خير تفنيد، فذكرا أن ما زعمه أولئك المستشرقون والمؤرخون ليس صحيحا على إطلاقه، وأنه مبالغة، لا تؤيدها المراجع، وعززا رأيهما بالعديد من الدلائل ومنها:
- اتساع بلاد الأندلس
فشبه الجزيرة الإيبيرية، بلد فسيح عظيم واسع، في حين أن العرب الداخلين عند الفتح، لم يكونوا من الكثرة، بحيث يستطيعون الانفراد بكل سهوله وأراضيه الخصبة، في الشرق والجنوب والوسط والغرب. بل إنه في حقيقة الأمر، ونظرا لمساحته الشاسعة، كان يتسع لأضعاف من نزل به من العرب والبربر معا.
ولذلك فقد ترك العرب لغيرهم نواحي من أخصب ما في الأندلس، مثل أحواض الواديانة والتَاجُه ونهر شقورة، ونهر شقر، والوادي الأبيض ووادي لكة، وغيرها كثير، ولم تكثر منازلهم بشكل واضح، إلا في حوضي الوادي الكبير، ووادي أبره الأوسط وفروعهما الكثيرة. بل إن هناك نواحيَ لم يسكنها لا العرب ولا البربر. قال ابن حوقل، الذي زار الأندلس في القرن الرابع، في جغرافيته "وبالأندلس غير ضيعة فيها الألوف من الناس لم تمدّن، وهم على دين النصرانية روم، وربما عصوا في بعض الأوقات ولجأ قوم منهم إلى حصن، فطال جهادهم لأنهم في غاية العتو والتمرد، وإذا خلعوا ربقة الطاعة صعب ردهم إلا باستئصالهم، وذلك شيء يطول".
في الجنوب مثلا استقر العرب في شذونة واستجة، واختار البربر منطقة رندة الجبلية فسكنوها، وسميت تاكرنا باسم بعض قبائلهم.
- العرب لم يختاروا مواضعهم
فهم لم يدرسوا شبه الجزيرة الإيبيرية ويتبينوا الطيب من أرضها وغير الطيب، ولكنهم استقروا حيث شاءت لهم المقادير، على طول خطوط الفتح، أي في النواحي التي عرفوها لأول دخولهم البلاد، وعلى هذا النحو أيضا كان استقرار البربر، وقد لجأ كل فريق منهم إلى ما يناسب مزاجه ورغبته من النواحي، طبقا لنوع الحياة السابقة وطبيعة الأرض المعتادة لكل منهما، أما العرب فكانوا يفضلون دائما البسائط والنواحي الدافئة في الجنوب والشرق والغرب، وأما البربر فكانوا في بلادهم يعيشون في بلاد جبلية عالية، فألفوا مثل هذه البلاد في الأندلس، فاستقروا فيها باختيارهم.
ففي الجنوب مثلا استقر العرب في شذونة واستجة، واختار البربر منطقة رندة الجبلية فسكنوها، وسميت تاكرنا باسم بعض قبائلهم. وفي هذا يقول المقري في "نفح الطيب" "وكان العرب والبربر كلما مر قوم منهم بموضع استحسنوه حطوا به ونزلوه قاطنين" إلى أن قال "وأقام من آثر السكنى في مواضعهم التي كانوا قد اختطوها واستوطنوها".
بقي عرب الأندلس وبربرها، يحاربون الأُمويين والشاميين، ويتعصبون لعبد الملك بن قطن، ويقولون لأهل الشام بلدنا يضيق بنا، فاخرجوا عنا، فكانت الحرب تدور بينهم في الكُدَى، أي الصحراء.
- تحالف البلديين والبربر ضد الشاميين
وذلك أن العرب الفاتحين، الذين عرفوا بالبلديين، كانوا دائما أحلافا للبربر، على الشاميين، الذين دخلوا الأندلس مع بلج بن بشر القشيري سنة 123، لأنهم تقاسموا معهم ما نزلوا به من البلاد، وما فتحوه من الأرض، وساءهم جميعا، عربا وبربرا، أن يحاول الشاميون مشاركتهم في هذه الأراضي، التي فتحوها بأسيافهم، فصارت غنيمة لهم، فنفروا يدافعون عنها، واشتدت الخصومة بين الجانبين.
يقول المقري متحدثا عن تداعيات قتل الشاميين لأمير الأندلس عبد الملك بن قطن الفهري (صفر 123-0 ربيع الأول 124هـ) "وكان أمية وقطن أبناه، عندما خُلع قد هربا، وحشدا لطلب الثأر، واجتمع عليهما العرب الأقدمون والبربر".
ويقول ابن القوطية في كتابه "تاريخ فتح الأندلس" "وبقي عرب الأندلس وبربرها، يحاربون الأمويين والشاميين، ويتعصبون لعبد الملك بن قطن، ويقولون لأهل الشام بلدنا يضيق بنا، فاخرجوا عنا، فكانت الحرب تدور بينهم في الكُدَى، أي الصحراء، التي بقبلي قرطبة".
وبقيت الحرب قائمة "بين الشاميين والأمويين من جهة، والبلديين والبربر من جهة أخرى"، حتى قدم أبو الخطار الحسام بن ضرار الكلبي، أمير الأندلس (رجب 125- رجب 128هـ)، ونظر في إنزال الشاميين في كور الأندلس، وتفريقهم عن قرطبة.. وكان إنزالهم على أموال أهل الذمة من العجم، وبقي البلديون والبربر على غنائمهم، لم يتنقصهم شيء.
هناك روايات تؤكد أن البربر، كانوا قاطنين بكثرة في النواحي الجبلية القصية والقاحلة من شمال غرب الأندلس، وأكدت ذلك أيضا أحداث ثورة خوارج البربر في الأندلس ضد العرب والخلافة سنة 123هـ.
- استقرار جماعات بربرية في أخصب أراضي الأندلس
كانت جماعات بربرية كثيرة مستقرة في أخصب نواحي الأندلس، سواء في الجنوب أو الشرق أو الغرب، وكان هناك جماعات بربرية من قبائل نفزة وهوارة ومكناسة ومصمودة ومديونة وأوربة وصنهاجة مستقرة على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الخصبة الواقعة بين نهر وادي آنة ونهر تاجة، مثل طليطلة وبطليوس وقونقة ووادي الحجارة، بل كادت الجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس، أن تكون مقصورة عليهم لكثرة من نزلها من بطون وعشائر البربر بعد فتح الأندلس. ولو أننا وازنا بين الأراضي التي استقر فيها العرب بالأراضي التي استقر فيها في الأندلس، لوجدنا الكفتين متعادلتين تقريبا.
بيد أن كل ذلك، لا يعني بأن قسمة أراضي الأندلس كان عادلا بشكل مطلق، لا سيما أن هناك روايات تؤكد أن البربر كانوا قاطنين بكثرة في النواحي الجبلية القصية والقاحلة من شمال غرب الأندلس، وأكدت ذلك أيضا أحداث ثورة خوارج البربر في الأندلس ضد العرب والخلافة سنة 123هـ، ولذلك فقد استطاعوا طرد العرب من تلك المنطقة، أثناء تلك الثورة "لكثرتهم هناك وقلة العرب"، كما قال صاحب "فتح الأندلس".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق