الدكتور صنهات بدر العـتيـبي
قبل البدء:
يقال أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرح فرحاً شديداً عندما سمع بإطلاق سراح مجموعة من الأسرى المسلمين المحتجزين عند الروم كما أكبر ما قام به الصحابي الجليل عبد الله بن حذافه السهمي رضي الله عنه الذي عندما طلب منه قيصر الروم أن يقبل رأسه لكي يطلق سراحه قال له: أقبل رأسك وتطلق سراح جميع الأسرى المسلمين, فوافق القيصر.. فقام وقبل رأسه، لذلك عندما وصل هذا الصحابي إلى المدينة استقبله عمر الخليفة الراشد فرحاً مستبشراً وقبل رأسه قائلاً “حق على كل مسلم أن يقبل رأسك"..!!
إنها الحرية التي ليس لها ثمن ويسلبها السجن والسجان كما تُسلب البسمة من شفاه الفتيات الصغيرات في إجدابيا!! وبذكر العرب وثوراتهم نجد أن كل هذه الثورات العربية الجارفة تدافعت بسبب سلب النظام العربي لحرية الناس سواء حرية الكلمة بالقمع والفتك والكذب والادعاء أو حرية الجسد بالسجن والتعذيب وممارسات الأمن البلطجي التي تفوق الوصف وتتجاوز المشاعر الإنسانية (رحمتك يا الله)!!
وبإمكانكم البحث عن قصة الشاب التونسي أشرف الجواني الذي دخل ليبيا سليما معافى ورُحل منها إلى مشفى الأمراض العقلية والعصبية في بلاده لأنهم كانوا يحاولون إجباره على الاعتراف بتوزيع حبوب هلوسة على الليبيين ليتطابق الأمر مع كلمة جوفاء خرجت من براطم الزعيم العربي المندهش بالناس تنزع زعامته وتتحمل الأذى!! ويقال كذلك أن صحفيي نيويورك تايمز الذين احتجزتهم كتائب القذافي في أحد سجون مدينة سرت لفترة بسيطة ثم أطلقت سراحهم بدون خدش لأنهم ليسوا عربا (يا رب أرحم العرب)، نقلوا إلى العالم أن هناك كتابات قديمة على جدران السجن مثل “ارحمنا يا الله" و"الرحمة يا رب" الخ!! ارحمنا يا الله.
الحرية لا يمكن أن تقدر بثمن وضدها يساوي القتل أو يزيد رغم المسافة الشاسعة بين القتل والسجن كما يعتقد البعض، ولكن مصادرة حرية شخص لسويعات بدون مبرر قد تعني قتله وقتل روحه المعنوية إلى الأبد! السجن معاناة مريرة ولو لمدة يوم أو يومين إذا كان بدون وجه حق فما بالك بالسنوات العجاف وبدون مبرر عدا مزاج زعيم مهووس وجلاوزة نظام بائس تضاءلت الرحمة في قلوبهم كما انعدمت الحياة في الصحراء العربية القاحلة!! والغريب أن هؤلاء المهلوسين الأمنيين الذين يحتجزون الناس بدون سبب لا بد وأن يتلبسهم رهاب الجدران الأربعة ويتقمصون الرعب وتعلوهم البلادة لو تم اقتراح حجز الواحد منهم لبضع ساعات في غرفة مكيفة، فما بالكم رحمكم الله بغرفة كئيبة حمامها فيها وبلاطها فراشها وسقفها الرديء لحافها وأجمل ما فيها شكلاً وليس فيها جميل، ذلك القفل الحديدي الذي تم استيراده بالعملة الصعبة!!
الملاحظة الأساسية أن اغلب الثورات العربية جاءت بسبب السجن والسجون والسجانين والمساجين إلى أخر القضبان..! فليبيا انفجرت بعد سجن المحامين الموكلين بالمرافعة في قضية سجن أبو سليم الشهيرة، وسوريا ثارت ثائرتها بسبب سجن أطفال كانوا يكتبون عبارات بريئة جدا مثل “جاك الدور يا دكتور"!! وفي مصر احتشدت الملايين في الساحات وكان أحد أهم الأسباب عملية القبض على خالد سعيد ومن ثم تهشيم جمجمته بمحض الصدفة!!
السجن يا عرب منافي للإنسانية ومثير للغضب إذا كان بسبب منطقي مثلا ولكن ما السجن إذا كان بدون سبب أو بعذر بليد أو بسبب مزاجية نزلت من القضاء أو جاءت من ضابط عنده مشاكل نفسية وعقد اجتماعية..، هنا يتوقف القلم فلا يمكن الوصف!! في إحدى البلدان العربية سجنوا أحدهم لأن المحقق سأله: هل فرحت بأعاصير كاترينا؟ فقال البريء: نعم، وقد جاءت كاترينا بعد الفلوجة فذهبت مثلا وذهب البريء خلف القضبان!! وفي بلد أخر سأل المحقق الشخص المقبوض عليه: هل حدثت نفسك بالجهاد؟ فقال: لا وهو يعتقد انه ذكي فخلص نفسه من الإحراج والمصير المسدود..! فقال له المحقق: وما رأيك في الحديث الشريف « من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه به مات على شعبة من نفاق » رواه مسلم. فقال البريء وقد وقع في الفخ: كلام حق، وهاهو يقبع حائرا في سجن مظلم على طريق المجهول!
وفي سجن عربي أخر أتوا بالسجين بعد بضع سنوات من التحقيق المفزع ووضعوا أمام عينيه صورة الرئيس الأمريكي بوش، وللحقيقة لست متأكدا هل هو بوش الأب أم بوش الابن ولكن كل واحد أقبح من صاحبه فالأول سلخ الفلوجة والثاني قطع رأسها، المهم سأله المحقق: هل تود أن تبصق علي الرئيس الأمريكي! فقال السجين الذكي وقد أراد أن يحمي نفسه: بل أريد تقبيله..!! فعاد سجينا بتهمة التخابر مع دولة أجنبية!!
السجون العربية وليست الثورات العربية هي (ظاهرة العصر) فالداخل إليها مفقود والخارج منها مولود ولو وضع فيها الذئب دقائق معدودة لأعترف بأنه أكل يوسف عليه السلام لحمة لحمة عظمة عظمة ظفر ظفر ولن يعتذر!! وبلطجية الأمن يعتقلون الناس بدون سبب ويسجنونهم بدون محاكمة ويعنفونهم بدون أخلاق ويضربونهم بدون إنسانية ثم لو خرج احدهم من عنق الزجاجة الحديدية يجبرونه على التوقيع على ورقة بعدم المطالبة وعدم الملاحقة القضائية!! الإجبار على نسيان السجن قد يكون في بعض الأحيان أقسى من السجن نفسه، أليس كذلك؟! الغريب أنه عندما تخرج الجماهير تحمل لوحات “الشعب يريد إسقاط حالة الطوارئ"!! سيقول المستشارون المصابون بفوبيا الإسلام السياسي هذه عصابات مسلحة وأصابع إيران وكراعين تل أبيب..!!
ثم إن حالات الطوارئ في العالم العربي المعلنة منها وغير المعلنة أضحت مأساة إنسانية حقيقية حيث يعتقل الناس بدون سؤال ويسجنون بدون حقوق ويعذبون بدون هوادة ولن تجد هيئات حقوقية مستقلة توقف المد المتوحش للسلطات العربية المتشبثة بالكراسي وهي تعلم أنها دوارة!! وإن وجدت بعض الأصوات فهي خافتة ضئيلة لا تناطح البروباغاندا الحكومية الهائلة التي توظف ثروات الناس أنفسهم لتحمي مصالحها وتغطي سرقاتها وتضمن بقاءها حتى أخر طفل من الشعب المسحوق!! والسجون العربية كما نرى اليوم أصبحت أكثر من المستشفيات وتزاحم الجامعات وفرحة الشعب بافتتاح مشروع جديد تصاب دوما بالتشنج لأن الخبر يقول: أبشروا لقد تم افتتاح سجن جديد"، والله المستعان!! “
هل يريدون أن نقبل رؤوسهم ليخرج الأبرياء المحتجزين في السجون القديمة والسجون الجديدة ويستنشقوا نسائم الحرية، حسنا، سنقبل أقدامهم ولكن ليتم وضع حد نهائي لهذا الكابوس العربي المستمر!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق