من "ثويبة" إلى "ربعيّ بن عامر"!
"ثويبة السلمية" جارية مملوكة لعبد العزّى بن عبد المطلب، المكنّى بأبي لهب لشدة توهج وجنتيه واحمرار خديه، وكانت قد أرضعت حمزة بن عبد المطلب أخا سيدها أبي لهب، وكانت كسيدها وكل آل عبد المطلب، جميعهم ينتظرون الطفل القادم لأخيه عبدالله الغائب في سفر إلى المدينة.
كانت ثويبة عند آمنة بنت وهب حين فاجأها المخاض في شهر ربيع الأول من عام الفيل، الذي ردّ الله فيه أبرهة وكيده عن الكعبة المشرّفة، في الحادثة التي خلّد البيان الإلهي ذكرها في الكتاب العظيم في سورة الفيل. وشهدت ثويبة ولادة الطفل الوضيء فاحتملته وألقمته ثديها وأرضعته ليغدو أخًا لعمه حمزة ولابنها مسروح من الرضاع، وبعد أن ارتوى أسرعت كالبرق إلى سيدها ومالكها أبي لهب تبشره أن زوجة أخيه عبد الله أنجبت ولدا ذكرا.
أما أبو لهب، فقد أفرحه الخبر فرحا غامرا ومضاعفا، فبادر فور سماعه إلى إعتاق ثويبة مكافأة لها على هذه البشارة الكبيرة، وهكذا غدت ثويبة يوم ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبسبب ولادته، حرة من الرق والعبودية، ولهذا يمكننا القول: إنّ أول الإنجازات التي تحققت بولادة النبي صلى الله عليه وسلم هو تحرير العبيد من الرق، ونيل الإنسان أغلى وأعز وأهم ما يطلبه وينشده في هذه الحياة، ألا وهو الحرية.
إن استعباد الإنسان للإنسان هو أقسى ما يمكن أن يمارسه البشر، بعضهم بحق بعض، ولهذا كانت الرسالة الخالدة رسالة تحرير للإنسان من الاستعباد، وكانت لحظة الولادة وهذا المشهد الرمزي الذي وقع لثويبة، إيذانا بانطلاق مسيرة تحرير الإنسان من الرق والعبودية، هذه المسيرة التي لم يتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها لحظة، منذ أن ألقى عنه دثاره وقام منذرا، إلى أن قال مختارا ورأسه على صدر عائشة رضي الله عنها: "بل الرفيق الأعلى".
إنّ الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلَنا بدينه إلى خلْقه لندعوهم إليه فمن قَبِل ذلك قَبِلْنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلْناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله
ربعي بن عامر ورستم والحوار الأنيق
عاش الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم أجمعين معنى تحرير الإنسان من الرق بكل كياناتهم، وتشربتها عقولهم وأرواحهم، وما تزال مقولة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" تتردد عبر الزمن، وتطرق أسماع وقلوب الذين ظنوا أن الاستعباد والخضوع للاستبداد قدر حتمي، ليفيقوا من أوهامهم التي أوردتهم الذلّ والهوان.
في معركة القادسية أرسل قائد الفرس رستم إلى سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- يطلب منه إرسال وفد ليفاوضه، فاختار سعد رجلا من سادة العرب وأشرافهم، الذين ربّاهم الإسلام وهذّبهم على الجندية مع تقوية مؤهلات القيادة فيهم، وكان هذا القائد يتنفس الحرية والكرامة اللتين جاء بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه ربعيّ بن عامر التّميميّ.
وبعد مشاورة بينهما، أخذ سعد بمشورة ربعي التي تقتضي ألا يرسل إلى الفرس وفدا كبيرا للتفاوض معه، وإنما يرسل لهم رجلا واحدا، وأن يكون هو ربعي بن عامر، وأن يختار ربعي الهيئة التي يدخل بها على الفرس لإيصال الرسالة المرادة والمطلوبة، فالفرس غارقون في الأبهة المادية والتباهي العسكري، ولا بد أن تكون الرسالة التي تصلهم مركّزة ومباشرة وفي العمق.
ويذكر ابن كثير في "البداية والنّهاية" تفاصيل اللقاء، إذ انطلق ربعي ممتطيا فرسا له ذيل قصير، وهو مما تُهان به الخيول، واختار أن يرتدي ثيابا بالغة البساطة، وكان يربط سيفه في وسطه بشيءٍ غنِمه من الفُرس، في رسالة لا تخفى معانيها على أحد، ودخل عليهم بفرسه حتى وقف على باب خيمة رستم، فطلب منه القوم أن ينزع سلاحه، فقال: "لا، أنتم دعوتموني، فإن أردتم أن آتيكم كما أُحبُّ، وإلا رجعتُ".. وأخبروا سيدهم رستم بذلك، فقال: ائذنوا له بالدخول، فدخل بفرسه على البسط الممتدة أمامه، ووجد الوسائد الموشّاة بالذهب، فقطع إحداها، وربط لجام فرسه بها، ثم أخذ رمحه، ومشى باتجاه رستم وهو يتكئ عليه في سيره، والرمح يهوي في البسط فيقطّعها ويمزّقها! كان رستم وحاشيته ينظرون بصمت ودهشة.. وبادرهم ربعي بالجلوس على الأرض، ووضع رمحه أمامه يتكئ عليه، فسأله رستم: ما الذي دفعك للجلوس على الأرض؟ فقال ربعي: إنا لا نستحب أن نجلس على زينتكم.
بدأ الحوار، فسأله رستم: ما الذي جاء بكم؟! فأجابه ربعي بكل وضوحٍ واختصار: "إنّ الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلَنا بدينه إلى خلْقه لندعوهم إليه فمن قَبِل ذلك قَبِلْنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلْناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله"، قالوا: "وما موعود الله؟" قال: "الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي"، فطلب رستم مهلة أيام، فلما غادر ربعي اجتمع رستم برؤساء قومه فقال: "هل رأيتم قطّ أعزَّ وأرجح من كلام هذا الرجل؟" فقالوا: "معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟" فقال: "ويلكم، لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة".
هكذا عبّر ربعي بن عامر عن الغاية من الرسالة بكل وضوح وبساطة وعزّة وحريّة، إنها رسالة القضاء على خضوع الإنسان للإنسان، والقضاء على عبودية الطغاة لشعوبهم، إنها الرسالة التي انطلقت جحافلها في مشارق الأرض ومغاربها من أجل أن يعيش الناس في رحاب العدل سواسية أحرارا.
إن ذكرى ولادة النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن تكون وقفة جادة لتحقيق الولادة الحقيقية في عالم الحرية، وتجديدا للعهد على رفض الخضوع لرقّ الطغاة والعبودية للمستبدّين أيّا كانوا، وإلا فإننا مهما ردّدنا وترنّمنا بأناشيد الحب والشوق لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع العجز عن توليد الحرية، سنبقى في أقبية الرقّ المظلمة، فلا حريّة بغير ولادة، ولا ولادة بغير حريّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق