تعليقا على تصريحات الدكتور حلمي الجزار
لسبب أجهله، وجدتني عازفا عن مشاهدة أول ظهور إعلامي للدكتور حلمي الجزار رئيس المكتب السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، بعد غياب عن الساحتين السياسية والإعلامية دام عشر سنوات!
وعلى إثر هذا الظهور المفاجئ، وصلتني رسائل عديدة من بعض المتابعين الأعزاء، على منصات التواصل الاجتماعي، تطالبني بالتعليق على التصريحات التي أطلقها الدكتور حلمي الجزار، في لقائه مع الإعلامي أحمد عطوان على قناة الشرق الفضائية، المملوكة للسياسي الدكتور أيمن نور.
واستجابة لهؤلاء الأعزاء، شاهدت هذا اللقاء "الخطير" في مضمونه وتوقيته، بعد ثلاثة أيام من بثه.
وقبل الولوج إلى الموضوع، أود التنبيه إلى أمر هام! لا أكتب مقالي هذا تحت تأثير الغضب، كما قد يتوهم البعض، أو الرغبة في الثأر من قَتلة ابنتي حبيبة، أو الانتقام ممن رقصوا على دمائها، فهذا مقام آخر، وشأن خاص. ولا أكتب من موقع الساخط على الدكتور حلمي الجزار الذي أُكنّ له كل احترام وتقدير، وإنما أكتب من موقع المحب لأخيه، المشفق عليه، المتأسف له، الذي لم يكن يحب أن يرى أخاه في هذا الموقف الذي احترت في وصفه، ولا يسمع منه هذا الكلام الذي يهدم "ثوابت" الإخوان المسلمين الدعوية، ويجافي الفطرة أيضا. من موقع الذي يرى الأشياء بأحجامها الحقيقية.
خطاب "افتراضي" لن يصدقه أحد
الخطاب الذي عرضه الدكتور حلمي الجزار على الرأي العام، خطابٌ غير واقعي، مبنيٌّ على افتراضات يدحضها الواقع، وينسفها من جذورها!
فالدكتور الجزار (في خطابه هذا) صنع عالما افتراضيا، وأطرافا افتراضيين، وقواعد افتراضية، وافترض أن هذه الأطراف ستقبل بها، وهيا بنا نلعب. تماما كما في عالم "الكارتون"!
"عندما أمد يدي إليك لأصافحك، فمن الطبيعي أن تمد يدك إليَّ وتصافحني".. هكذا قال الدكتور الجزار لمحاوره أحمد عطوان، في بداية اللقاء، مبرهنا على أهمية ما سيطرحه لإنقاذ الوطن!
لا يا دكتور حلمي! هذا يكون (فقط) مع الناس الطبيعيين.. الأسوياء.. حتى لو كانوا أعداءً، أما هؤلاء الذين تخاطبهم، فقد قرروا (عن اقتناع ورضى) أن يكونوا أدنى من ذلك منزلة وسلوكا.. إن هذا الصنف من المخلوقات ينتظر أن تمد يدك إليه؛ ليقطعها، أو يعضّها لا ليصافحها! ولا أدَلَّ على ذلك من تعليقيّ "أستاذ" العلوم السياسية معتز عبد الفتاح، والإعلامي "عمرو أديب"، على طرحك.
خُوَّان وخنجر في ظهر الوطن!
فعلى منصة "X" كتب معتز عبد الفتاح: "أي مرشح يدعو لعودة الإخوان للحياة العامة والسياسية، وبالتالي للمتاجرة بالدين لأغراض دنيوية، هو خارج عن الصف الوطني، ويبحث عن مكاسب انتخابية قصيرة المدى، على حساب مصالح وطنية طويلة المدى" (يعني أحمد الطنطاوي).
ويضيف "أستاذ العلوم السياسية": "الإخوان، لو كانوا فعلا وطنيين، لقاموا بحل الجماعة، وتراجعوا عن الفتنة المجتمعية، والانقسامات السياسية التي يحدثونها في المجتمعات المختلفة. لكن قيادات الجماعة لن تحل الجماعة؛ لأن هذا "بيزنس" ضخم، ومهام استخباراتية، من قوى تريد للخُوَّان أن يكونوا خنجرا في ظهر الوطن".
هذه هي جماعة الإخوان المسلمين في نظر "أستاذ العلوم السياسية"، وقطاع واسع ممن يمد إليهم الدكتور الجزار يده، دون قيد أو شرط!
أنا عدو من يذكر الإخوان بخير
أما عمرو أديب، فمشاهدته، والتأمل في لغة جسده، والاستماع إلى صوته ، وهو يرد على الدكتور الجزار الذي لم يُسَمِّه، ووصفه بـ"بتاع الزبادي"، أهم بكثير مما قاله في هذا الفيديو الشوفيني العنصري الذي لم يصدر عنه مثله بحق صبري نخنوخ؛ أشهر بلطجي في مصر!
وخلاصة ما قاله أديب: إنه يرحب بأي رأي لأي أحد، في أي موضوع إلا طرح موضوع الإخوان المسلمين، وأكد على "عداوته إلى يوم الدين" مع أي أحد يتكلم عن الإخوان بإيجابية، أو يدعو (ولو تلميحا) لعودتهم إلى الحياة العامة!
المرتكزات الثلاثة لتقييم خطاب الجزار
ولتقييم هذا الخطاب، استندتُ إلى ثلاث مرتكزات هي: "شعار" دعوة الإخوان المسلمين وهو مستلهَم من صحيح الدين، والسياسة، والفطرة.
أولا: شعار دعوة الإخوان المسلمين
الإخوان المسلمون جماعة دعوية، الله غايتها، والرسول قدوتها، والقرآن دستورها، والجهاد سبيلها، والموت في سبيل الله أسمى أمانيها، هكذا يقول شعارها المنطوق، ويترجم شعارها المرسوم (Logo) كل هذه المعاني: فهناك مصحف (هداية وشريعة) يحميه سيفان في حالة التحام واشتباك (جهاد وتدافع)، وتحت المصحف كلمة "وأعدوا" وهي الكلمة الأولى من الآية الكريمة "وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ" (الأنفال: 60).
ويؤسفني القول، إن كل ما جاء على لسان الدكتور الجزار، في هذا الحوار، يخالف أو ينسف كل ذلك، أو يتملص منه، أو يعتذر عنه، رغم أنه لا يقصد ذلك بطبيعة الحال، ولكن هذا ما سيستخلصه جُل الناس من خطاب الرجل.
فمن كان الله غايته يكون عزيزا، حتى وهو في أضعف حالاته؛ لأن إظهار العزة في هذا الساعة يُشعِر العدو بالضآلة، والفشل، وقلة الحيلة، رغم كل ما يحوزه من قوة.. ويكون خطابه مفعما بالثبات على ما عاهد الله عليه، ممتلئا باليقين في وعد الله بالنصر المبين، وتمكينه لعباده الصالحين، ولا يخلو (الخطاب) من تحقير للطغاة الذين ينازعون الله في ملكه، وفي خلقه "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ" (المنافقون: 8)، وقد خلا خطاب الدكتور الجزار من كل ذلك..
ومن كان الرسول قدوته، فليقتدِ به في موقفه من عرض كفار قريش عليه، وهو في أشد حالات ضعفه وحاجته.
مع التنبيه إلى أن الطغاة الذين يسومون الإخوان وإخوان الإخوان سوء العذاب، منذ عشر سنوات، لم يعرضوا على الإخوان شيئا، وإنما الإخوان هم أصحاب العرض، في الظاهر على الأقل! وإذا كان هؤلاء الطغاة قدموا عرضا للإخوان في الغرف المغلقة، فلن يكون أسوأ من هذا العرض الذي طرحه الدكتور حلمي الجزار، ألا وهو الاستسلام بغير شروط، وإعلان ذلك على الملأ، وهذا ما كان!
ومن كان القرآن دستوره، فهو قرآن يمشي على الأرض، تدور حياته، ومصالحه، وعلاقاته، وأطروحاته، وكلامه، وصمته، مع القرآن حيث دار.. والقرآن حث على مقارعة الظالمين والمتجبرين في الأرض بغير الحق، ولو بالكلمة.. "فَلَا تُطِعِ ٱلْكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدْهُم بِهِۦ جِهَاداً كَبِيراً" (الفرقان: 52)، أي جاهدهم بالقرآن: "فلا تطعهم في ترك شيء مما أرسلتَ به، بل ابذل جهدك في تبليغ الرسالة، وجاهد الكافرين بهذا القرآن جهاداً كبيراً، لا يخالطه فتور".. ويستوي في ذلك، الكافر والطاغية.
ومن كان الجهاد سبيله، فعليه أن يعد نفسه إيمانيا، وسلوكيا، وبدنيا، وفكريا؛ لسلوك هذا السبيل، عازما على الفوز بإحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.. فمن العار أن تستكين وتستجدى جلادك بعض الرأفة بالمعتقلين وأسرهم، وأنت المأمور بهز أركان عرشه ولو بالكلمة، لا أن تمد يدك إليه ليقطعها، أو ربما قال لك زاجرا: أنا لا أصافح اليد الملوثة بالدماء، رغم أن يدك الممدودة إليه، لم تقتل نملة، وهو يعلم ذلك علم اليقين!
ومن كان الموت في سبيل الله أسمى أمانيه، فهو يبذل نفسه في سبيل الله، مقبلا غير مدبر، عزيزا لا ذليلا، شجاعا لا جبانا، يرى الحياة كشمس الشتاء في أقصى الشمال، ما أن تشرق ساعة، حتى تغرب مع الشهادة، فلا تشرق مجددا إلا في دار الخلود..
وأنا من جملة من يرون "الحياة في سبيل الله أسمى أمانينا"، وليس الموت.. فالحياة في سبيل الله أصعب ألف مرة من الموت في سبيله، فلا يحيا في سبيل الله إلا من كان الله غايته، والرسول قدوته، والقرآن نوره ودستوره، والجهاد في الله سبيله..
هذا هو "شعار الدعوة" الذي يجسد رؤيتها ورسالتها وأهدافها، وكلها من صميم الدين، فأين طرحك منها يا دكتور حلمي؟
ثانيا: السياسة
الدكتور الجزار رئيس المكتب السياسي في جماعة الإخوان المسلمين، والسياسة هي إدارة المصالح، والعلاقات، والعداوات، والتفاهمات، والتحالفات، بين طرفين أو أكثر، انطلاقا من المرجعية الفكرية، أو العقدية، أو السياسية، لكل طرف من الأطراف.. أي أن كل طرف له مصلحة أو مصالح لدى الطرف الآخر، يتم النقاش حولها.. ولا يوجد (في هذا العالم) شخص أو كيان ليس له مصالح.. فما المصلحة التي طالب بها الدكتور الجزار، خلال ساعة هي مدة الحوار؟
إليك (عزيزي القارئ) ما قاله نصا:
الحل يجب أن يكون سياسيا، وفي القلب منه "قضية المعتقلين، وتخفيف معاناة أسرهم"!
حتى أنه لم يقل "إطلاق سراح المعتقلين"! لن يقرأ نظام الانقلاب هذا المطلب إلا على النحو التالي: يكفينا جدا تحسين ظروف الاعتقال والزيارة، بالقدر الذي يخفف معاناة المعتقلين وأسرهم، وليبق الحال كذلك، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا..
هذا كل ما طالب به الدكتور الجزار، بعد عشر سنوات من التضحيات الهائلة التي يصعب حصرها، فضلا عن تقييم آثارها النفسية، والاجتماعية، والمادية، والسياسية!
لم يأت الدكتور الجزار (خلال هذا اللقاء) على ذِكر الثورة.. الشهداء.. الانقلاب.. الرئيس الشهيد محمد مرسي الذي قدمته قيادة الإخوان قربانا ولم تُعنه على النحو الذي كان يجب أن يكون، وأنا على ذلك من الشاهدين!
محمد مرسي الأستاذ الجامعي والبرلماني اللامع، رئيس حزب الحرية والعدالة؛ الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين الذي لم تُقِم قيادة الإخوان له وزنا ولا اعتبارا، ودفعت بالمهندس خيرت الشاطر، النائب الأول للمرشد العام، مرشحا رئاسيا، فكان ذلك سببا في وصفه من قِبل الذين لا يعقلون بـ"الاستبن"!.. اغتيال معنوي مبكر..
لماذا كان الحزب إذن، ما دامت الجماعة هي صاحبة القرار في الشأن السياسي، وهي التي تختار مَن ينافس في العملية السياسية؟! لماذا؟!
الرئيس الأشم الذي ضرب أروع مثال في التضحية والثبات، في زمن الأقزام، والأنذال، والجبناء، رغم معاناته في سجنه الانفرادي الذي استمر ست سنوات، ثم كان اغتياله بالسم، في قاعة (عدم المؤاخذة) المحكمة!
ما الفرق بين إزالة نظام الانقلاب لصورة الرئيس مرسي من بين "رؤساء" مصر، رغم أنه الوحيد الذي جاء بإرادة الشعب، وتجاهل الدكتور الجزار للرئيس، خلال ظهوره الإعلامي الأول، بعد عشر سنوات من الغياب؟
ما دلالة هذا التجاهل (من جانب الجزار) للرئيس الوحيد المنتخب في تاريخ مصر، والأصل (في السياسة) أن لكل تصريح أو تلميح أو تجاهل معنى، ودلالة، ومغزى؟!
ما دلالة تجاهل نحو عشرة آلاف شهيد، جُلهم ليسوا من الإخوان، غير أنهم وثقوا في قيادة الإخوان؟! أيكون التجاهل (التام) هو جزاؤهم عندك وإخوانك يا دكتور حلمي؟!
هل هو الخوف على مشاعر الدموي المنقلب، والحرص على عدم تعكير مزاجه الذي يعكره ذِكر الرئيس الذي خانه وانقلب عليه، والدماء التي أهرقها بغير حساب؟
هل هي محاولة لطمس هذه الصفحة التي ستظل عنوانا لفشل قيادة الجماعة الذريع؟ هذا الفشل الذي كلف الأمة كلها أثمانا باهظة، وليس مصر فحسب.. وما كان هذا الفشل إلا لغياب الرؤية لدى هذه القيادة، وعدم الاستعداد لمثل هذا الموقف (انتفاضة يناير 2011) رغم تنبيهي إليه في ورقتي "قبل الاستحقاق أو ملء الفراغ" التي سلمتُها يدا بيد للراحل الأستاذ إبراهيم منير (رحمه الله) في مكتبه بلندن، في شتاء عام 2006، أكرر عام 2006، في حضور الأستاذ محمود الإبياري، وهو حي يرزق! ومن أسف، أن ما استشرفتُه في هذه الورقة وقع بحذافيره في عامي 2011، و2012.
هل هذا ما طلبه الجنرال المنقلب؟ أم هذا ما تظن قيادة الإخوان أنه سيُرضيه، ومن ثم يتحلحل الموقف، وتنتهي الأزمة؟
الإجابة عند الدكتور حلمي الجزار..
تكلم الدكتور الجزار كثيرا عن "مصلحة الوطن" التي لا تعني (من قريب أو من بعيد) هؤلاء الذين يتحدث إليهم.. فجلهم (إن لم يكونوا كلهم) لصوص وخونة، على كل المذاهب التي نعرفها والتي لا نعرفها، دينية كانت أو سياسية!
كما تكلم أكثر من مرة، عن "الحل السياسي" الذي سينقذ "الوطن"، ويريح الأوروبيين من صداع الهجرة "غير الشرعية"! وكأنه لم يسمع المنقلب وهو يقول: "أنا مش سياسي"! فأي "حل سياسي" تنتظره من كائن "مش سياسي" يا دكتور؟ وأي حل سياسي من مستبد جاهل قال بملء فيه: "متسمعوش كلام حد غيري.. اسمعوا كلامي أنا بس"، وأي حل سياسي لدى مخبول يعتقد أن الله اختاره ويوحِي إليه؟!
ألم أقل في بداية المقال: إن الدكتور حلمي صنع عالما افتراضيا، وأشخاصا افتراضيين، ووضع قواعد افتراضية، وافترض أن هذه الأطراف ستقبل بها! تماما كما في عالم "الكارتون"؟!
كم هو مؤسف أن أرى تماثيل الشمع المصرية تدب فيها الحياة، وتتكلم بنبرة غضب على المنقلب، لا تخلو من لوم وتأنيب، في الوقت الذي تصدر قيادة الإخوان هذا الخطاب "العاطفي" الذي يفيض رضىً وتسامحا، ويخلو حتى من "العتاب"!
وكم هو مؤسف أن يتحدث الدكتور الجزار عما يوصف بـ"الانتخابات الرئاسية"، وهو السياسي المخضرم، كما لو كانت حقيقة (حتى الساعة على الأقل) في الوقت الذي يصفها كُثر من حلفاء السيسي ومؤيديه السابقين بأنها "مسرحية"!
إنقاذ الوطن الذي تحدثت كثيرا عنه (يا دكتور) يأتي من طريقين لا ثالث لهما:
الطريق الأول: أن يصلح النظام نفسه، فيطيح بهذا المنقلب، ويكتفي العسكر بما نهبوه، وتتولى حكومة فنيَّة (وطنية بحق) إدارة البلاد لفترة انتقالية..
فهل تتصور (يا دكتور) أن هذا ممكن، وفق المعطيات الحالية للواقع "اللا سياسي" الذي لا يخضع لقانون ولا لمنطق، ويتصدر المشهد فيه حفنة من مرضى الشهرة، والباحثين "عن أي حاجة في رغيف"، أم أنك تعلم ما لا نعلمه؟!
الطريق الثاني: أن تنفض جماعة الإخوان المسلمين عن نفسها غبار الذلة والمسكنة، وتجدد نفسها، وفكرها، وتبلور رؤية عملية تعتبر فيها من أخطاء الماضي، وتستشرف المستقبل، وتضع تصورا عصريا لحكم رشيد، وتجند وجوها جديدة مؤهلة؛ لإشاعة الوعي بين الجماهير التي ستفرز (مع الوقت) "كتلة مؤثرة"، تشكل بدورها قيادة "ميدانية" تتبنى هذه الرؤية، ولا يهم أن تكون هذه القيادة من الإخوان أو من غير الإخوان، فالمهم إيمانها بالقيم العليا الضرورية لبناء مجتمع صالح..
ثالثا: الفطرة
خطاب الدكتور الجزار، في مجمله، يجافي الفطرة الإنسانية ويصطدم بها؛ فالإنسان مجبول على الاستجابة للمؤثرات: يغضب للإهانة، ويذود عن العِرض والشرف، ويثأر للدم، ويرد العدوان بمثله، ولا يتسامح مع سارقه.. إلخ. ثم جاء الدين ليضع إطارا حقوقيا، وميزانا اجتماعيا لكل ذلك، حتى لا يجور المظلوم على الظالم، فيأخذ أكثر من حقه، وحتى يردع الباغي، فلا يسلب ما ليس له..
والحال كذلك، فهل تنتظر (يا دكتور حلمي) أن يصدق خطابك هذا مَن أهانوك، وحطوا من شأنك، وافتروا عليك الكذب، ووصموك بالإرهاب، وهم يعلمون (يقينا) أنك لست إرهابيا؟!
هل سيصدق هذا الخطاب مَن اغتصب النساء، وأهرق الدماء؟
هل سيصدق هذا الخطاب من اعتدى عليك، وسجنك، وطاردك، وأحال حياتك إلى جحيم؟
هل سيصدق خطابك هذا المجرم الذي سلب من الشباب أجمل وأزهى سنوات العمر؛ لأنهم قالوا له: لا.. ولم يزيدوا عليها؟!
هل سيصدق خطابك هذا اللصوص الذين سرقوا الوطن الذي أسرفت في ذكره، ظنا منك أن "الوطن" هي الكلمة السحرية التي ستوقظ ضمائرهم.. تلك الضمائر التي وأدوها عن سابق قصد وتصميم، كي يستمتعوا بحياة العربدة والنهب؟!
كل هؤلاء لا يتوقعون منك سوى الانتقام، حتى لو أقسمت ألف ألف مرة أنك سامحتهم، وعفوت عنهم، وحتى لو ظلت هذه الابتسامة تعلو وجهك، حتى وأنت نائم.. تلك الابتسامة التي فسَّرها عمرو أديب بأنها "مسكنة إلى حين"!
يا دكتور حلمي!
لن يصدقك هؤلاء إلا في حالة واحدة ووحيدة، ألا وهي أن تكون في موقع المنتصر، لا في موقع المهزوم.. فمما جُبِلت عليه الفطرة الإنسانية، أن المنتصر إذا قال فعل؛ لأن لا أحد يثنيه إذا عزم.. وأذكرك بعفو الرسول الكريم ﷺ عن كفار قريش، يوم فتح مكة، وكان قادرا على إبادتهم جميعا..
لن يصدقك هؤلاء إلا إذا انتصرت عليهم، وملكت رقابهم، وكنت قادرا على الانتقام منهم.. ساعتها فقط، سيصدقونك إذا قلت لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء..
أما قبل ذلك، فستظل في نظرهم "الخبيث المغلوب"، صاحب "الابتسامة الصفراء" الذي ينتظر لحظة الانتقام، "المُتَحَرِّف لقتال" الذي يتحين الفرصة للتنكيل بمن فعلوا به الأفاعيل، وهم أدرى بما فعلوا بك!
يا دكتور حلمي!
إما اسدال الستار وانسحاب نهائي من الساحة؛ لتستقبل من هو أقدر منكم، على مواصلة الطريق، فلا تنازعوهم، وإما بعث جديد من تحت هذا الرماد المشبع بدماء الشهداء؛ لإنجاز ما قدموا أرواحهم في سبيل تحقيقه؛ عالم يعيش تحت راية الإسلام، يأمن فيه المرء أيا كان دينه وجنسه ولونه وعِرقه على نفسه وعرضه وماله.. عالم حقيقي وليس افتراضيا، بشَّر الله عباده الذين اصطفى بأنهم هم سادته وساسته، فلا سواهم يؤتمن على خلقه "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ" (الأنبياء: 105).
كلمة أخيرة!
لست ضد انسحاب الإخوان من المشهد، وربما يكون هذا هو القرار الأصوب في هذه الظروف بالغة السوء، إلى أن تعيد الجماعة بناء نفسها، وتنضِج مشروعها، وتبلور رؤيتها، ولكني ضد "الانبطاح" أمام العدو، لا سيما إذا كان عدوا معدوم الشرف.
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق