الثلاثاء، 19 سبتمبر 2023

مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس

 مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس

م.محمد إلهامي 

هذا كتاب لطيف مؤثر..

يوميات متفرقة لجندي مصري طبيب على جبهة قناة السويس قبيل حرب أكتوبر (1973م)، كتبها بين عامي 1969 و1972.. قبل أن يلحق بالشهداء في 1972م.

يطرب المؤرخون لمثل هذه اليوميات التي تكشف لهم حياة الناس والبسطاء المغمورين تحت سطح الحياة السياسية التي تتكدس فيها أخبار الساسة والقادة، فمثل هذه الكتابات تلقي الضوء على الأعماق الإنسانية البعيدة للأحداث الكبيرة والقرارات السلطوية.. فبينما أنت تقرأ في كتاب التاريخ نبأ الجيوش والشعوب كأنها بيادق وأدوات، تقرأ في مثل هذه المذكرات واليوميات نبأ الإنسان الذي كان رابضا في الخنادق، فيم كان يفكر وماذا كان يأمل ومم كان يعاني.

صاحبنا مؤلف هذا الكتاب كتبه وهو في الثلاثين من عمره، ولكن لغته وأسلوبه يكشفان عن قصاص ذي موهبة سينمائية، فهو يرسم المشهد بينما يحكي الحكاية، ويصور الأجواء والظلال والألوان قبل وأثناء رواية المضمون، ويربط بين عناصر القصة رباطا سهلا غير متكلف، فلا تنتهي اليومية إلا وقد أجاب عن السؤال الذي أثاره لديك في ثنايا السياق.

وأغرب ما في قصة هذا الكتاب أنه منع من النشر، ولا أدري السبب، يقول الذين منعوه: لأنه يحتوي على أسرار عسكرية قد تفيد العدو، ويقول الرافضون لهذا المنع: بل لأن الكتاب يثير قضية الجنود الذين دفعوا الثمن ولم يحصلوا على أي تقدير، فيم ذهبت المكاسب إلى من لم يعاين الخطب ولم يعان أهوال الحرب!

وفي الكتاب حقا صفحات من هذه المأساة، ولكنها لا تبرر منعه، فكم نشرت في مصر كتب أشد خطرا من هذا، ولهذا يبدو لي المبرر غير مقنع، ولعل ثمة ما لا أعرفه!

لكني حين بحثت عن الكتاب عثرت على نسخة إلكترونية، منقولة -كما قال الذي رفعها- عن النسخة التي صدرت عن «مختارات الكرمة».. وبينما أقرأ فيها، إذ عثرت على نص رائع أثار في نفسي بعض الذكريات، فهرعت لكي أضعه في ضمن بحث أكتبه، فاضطررت للبحث عن نسخة مطبوعة لكي أوثق منها هذا النص بالصفحة والرقم والطبعة (كما هي تقاليد البحث الأكاديمي)، فعثرت على النسخة التي أصدرتها دار الفكر، لكنني فوجئت أن النص الذي أريده غير موجود!!!

وإذن، فثمة تلاعب بنص المذكرات جرى في دار الفكر التي مقرها القاهرة وباريس..

يتحدث هذا النص المفقود عن معلومة مثيرة للتأمل، وهي أن الناس (المقاومة الشعبية) انهمروا كالسيل لدعم الجيش والمقاتلين في العدوان الثلاثي 1956، بينما لم يحدث هذا منهم في عام 1967 بل “إن الملل مثل الكابوس دخل كل بيت وتربع فيه”.

ذكرتني هذه الفقرة بالمقارنة التي عقدها عدد من المؤرخين والمفكرين بين مقاومة الشعب المصري للحملة الفرنسية، وهي المقاومة الهادرة التي انخرط فيها الجميع، وبين المقاومة الضعيفة الخافتة التي واجهوا بها الاحتلال الإنجليزي.. كان السبب في ذلك هو الانكسار العظيم الذي تعرض له الشعب على يد الطاغية الجبار محمد علي باشا وخلفاؤه، لقد كسر الطغيان روح الشعب وجرده من عوامل القوة، حتى سلمه هدية للاحتلال الإنجليزي.

ما الفارق بين 1956 وبين 1967 إلا هذه الفترة الناصرية السوداء الكئيبة التي أعيد فيها كسر الشعب وقهره وإذلاله وتحطيم عوامل قوته؟! إنه ليس إلا هذا.. ومن هاهنا اندفع الشعب لمقاومة العوان الثلاثي دفاعا عن وطنه الذي يشعر أنه قد استرده، ولكنه بعد 11 سنة من البطش كان في حال آخر!

لم أتتبع بالمقارنة ما إن كان هذا الفصل وحده هو المحذوف أم ثمة غيره.. لعل باحثا ينهض لمثل هذه المقارنة.

من أهم فوائد هذا الكتاب أنه يثبت -عبر القصص الإنسانية والتفاصيل الصغيرة- تلك القاعدة المهمة في علم النفس الاجتماعي، وهي من طبائع الناس، أن الموقف أقوى من الفرد، بمعنى: أن الإنسان أكثر انسياقا مع البيئة المحيطة به، وغالبا ما ينهزم طبع المرء ونزوعه الأصيل أمام التيار الجارف الذي يحيط به. (لمن أراد مناقشة ضافية لكلا هاتين النزعتين، أنصح بكتاب: علم النفس السياسي – ديفيد باتريك هوتون)

وهذه القاعدة هي التي عبر عنها الأقدمون بقولهم: الناس على دين ملوكهم، والناس أتباع من غلب.. ولها في ديننا تطبيقات عديدة، ومنها: نهي القرآن عن مجالسة الذين يخوضون في آيات الله، وأمره بالهجرة إلى دار الإسلام، ومنها أيضا: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإقامة في ديار الكفار، ونهيه عن العمل لدى الحكام الظالمين (لا سيما في الشرطة والعسكر وجباية المال)، ونهيه عن مصادقة أصحاب السوء… إلخ!

في هذا الكتاب نماذج عديدة عن الذين تولد فيهم الشجاعة إذا خاضوا القتال، وكيف ينقلب المرء من جبان إلى بطل، وكيف يصدر عنه في حال الشدة من المواهب والقدرات ما يندهش لها هو نفسه، وكيف يسترخص الإنسان نفسه وحياته لإنقاذ غيره، وكيف تشيع البطولة في الجمع الكبير إذا شعروا بالحاضنة الشعبية من ورائهم.. وغير هذا كثير.

يقول: «مع تصاعد الموقف يتزايد الرجال الشجعان وتشتد حماستهم للقتال».

ويقول أيضا: «إن المقاتل على الجبهة يثق بأن حل مشاكل الوطن الداخلية والصراع ضد الاستعمار هو بالمزيد من القتال».

وفي الكتاب مآسي يصعب أن تنساها، منها:

هذا الجندي الذي أمسك بالصحيفة فإذا فيها نعي للمقدم الفلاني، فتسائل الجنود المساكين المتكدسون في عربتهم: يموت منا كثيرون فلماذا لا يهتم أحد، فيجيب أحدهم: لا يهتمون إلا بالكبار، فلا يجد الجندي الذي يمسك بالجريدة ما يفعله إلا أن يمزق الصحيفة ويلقيها إلى الطريق!!

ومنها هذا الجندي الذي فقد منهم، فسجلوه هاربا، وكان عارا لنفسه ولكتيبته، ثم يكتشف بعد أسابيع أنه قد استشهد وهو ممسك بسلاحه.. كيف اكتشفوه؟.. رأوا كلبا يبحث في الأرض بإصرار .. ولولا هذا الكلب لظل الجندي عارا على نفسه وأهله وكتيبته!!

مشهد يجبرك على الخيال: ترى كم بطلا لم يجد كلبا ينقذ سيرته فصار مكتوبا في سجل الهاربين؟! وكم كلبا جبانا تسلطت عليه وسائل الإعلام حتى غسلت سمعته وصار من الأبطال الكبار؟!

ومنها هذا الجندي الذي جاءته برقية تقول: «عال فورا، مات أبوك»، فلم يكن معه ثمن تذكرة السفر، فتعلق بالقطار وربض على سطحه، وبينما هو متشبث بالقطار على هذه الحالة الخطرة، إذ مرق القطار من تحت كوبري القناطر، فصدمه الحديد فهشم رأسه، فمات من فوره!!

هذا الجندي أيضا لم يكن ليعرف أنه مات، لولا أن الله شاء له أن تسقط قطرات دمه على ذراع صاحبنا مؤلف اليوميات، والذي كان يحب الجلوس إلى جوار النافذة، فمن ها هنا انتبهوا إلى هذا المسكين القتيل الذي كان يحارب في سبيل الوطن!! الوطن الذي لم يوفر له ثمن تذكرة يرجع بها ليدفن أباه!!

ومنها هذه الكتيبة التي لم يكن يوجد لها إلا مدافع قريبة المدى، فكانوا مجبرين على البقاء قريبا من خطوط العدو، لتؤثر في العدو مدافعهم.. فلأجل هذا كانوا عرضة دائمة لغارات العدو وأسلحته العنيفة والمتقدمة، ولم يكن أمامهم غير الصمود.. أو بالأحرى: لم يكن أمامهم إلا أن يدفعوا من أرواحهم ثمن فساد الساسة والقادة وتقصيرهم في الحصول على السلاح! وهو ما كان!

هذا الكتاب ليس مجرد ذكريات.. إنه صفحة متكررة من حديث مستمر إلى يومنا هذا ..

إنه مجرد سطر في موسوعة الجنود الذين يضحون بأنفسهم تضحية لا ينتفعون بها هم ولا أهليهم.. لم تكن تلك قصة حرب أكتوبر فحسب، والتي أنجزها الأبطال وانتفع بأثمانها الخونة والفسدة والعملاء.. بل هي حتى الآن قصة أهل اليمن الذين اجتاحهم الحوثي ولا يزال الذين يقاتلونه يفعلون هذا بأيديهم بلا غطاء من رئيس ولا جيش، لقد كان رئيسهم عبد ربه منصور هادي!!!.. وهي قصة ليبيا التي كان ثوارها يقاتلون حفتر وكان غطاؤهم السياسي فايز السراج!!.. وهي قصة السودان التي يقاتل المتطوعون فيها قوات حميدتي بينما قرارهم السياسي والعسكري رهين بهذا الصنم المتهالك المسمى عبد الفتاح البرهان!!!

وقل مثل هذا في مواطن عديدة نعرفها جميعا..

لا تزال القصة مستمرة، ولا تزال المعضلة مستمرة.. متى يستطيع الأبطال أن ينجحوا في السياسة والقيادة كما نجحوا في القتال؟ ومتى يعرفون أن عدو الداخل ليس إلا صنيعة العدو الخارجي وواجهته ووكيله؟!

وحتى نجيب عن السؤال الإجابة الصحيحة.. فسنقرأ كثيرا من اليوميات على هذه الشاكلة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق