الثلاثاء، 19 سبتمبر 2023

قضايا وأحداث …. ثورة القبائل في دير الزور نهاية مخططات إعادة التشكيل الديموغرافي

قضايا وأحداث …. ثورة القبائل في دير الزور نهاية مخططات إعادة التشكيل الديموغرافي
د. ياسين أقطاي
أكاديمي وسياسي وكاتب تركي

@yaktay

إنَّ الاشتباكاتِ الأخيرةَ التي دارت بين القبائل العربيَّة في دير الزور وتنظيم «قسد»، وتطوّراتها السريعة قد كشفت لجميع الأطراف ضعفَ قوَّات هذا التنظيم وهشاشة وجوده على الأرض؛ حيث تمكّنت القبائل من طرد التنظيم من مناطق مهمة كان يسيطر عليها، ولم يبقَ له أي أثر في المناطق التي كان يظنُّ امتلاكه قاعدةً شعبيةً فيها.

والحقيقة أنَّ هذه الأحداث الأخيرة ليست مجرد نزاع، بل إنّها ثورة القبائل العربية ضد سلطة تنظيم «قسد». وذلك في ردّ فعل واضح على دور الخضوع الذي أرادته أمريكا من القبائل لهذا التنظيم في دعوى تأسيس تحالف مُكافحة الإرهاب في المِنطقة. فتشكيل تحالف لمواجهة تنظيم داعش الإرهابي يستحيل أن يكون واقعيًّا تحتَ سيطرة منظمة هي بالفعل امتدادٌ لتنظيم «بي كي كي»؛ لأنَّ العرب يشكلون غالبية السكان بنسبة تقارب 90٪ في المناطق التي تسيطر عليها أمريكا، ورغم ذلك فقد صارت السيطرة بالكامل بيد تنظيم «قسد». وهنا يبدو كما لو أنَّ أمريكا تستهدف إعادة تنظيم التوازن الديموغرافيّ في السلطة والتمثيل الشعبي الذي كان قائمًا بين القبائل، وهذا التنظيم في ظلّ نظام البعث السوري الذي حكم البلاد لمدة 60 عامًا.

والمعلوم أيضًا أنَّ نظام البعث السوري لا يعدو سيطرة أقلية من نصيرية لا تشكل سوى 10% فقط من السكان في مقابل أغلبية سُنِّية تشكل 80% من الشعب السوري. وكذلك فإنَّ هذا النظام الذي استمر بالقمع الدموي في الحكم طيلة 50 عامًا مع غياب كامل لأي جانب ديمقراطي. ولهذا فإن أمريكا باستخدام التحالف الذي شكلته في سوريا لمحاربة تنظيم داعش تسعى لإقامة توازن ديموغرافي مماثل في المناطق التي تسيطر عليها، وليس أمامها أي فرصة ديمقراطية حقيقية لإنشاء هذا التوازن، لذلك لا يمكنها الحفاظ على ما قدمته من امتيازات لتنظيم «قسد» إلا من خلال دعمه بالسلاح. ورغم هذه الحقيقة الواقعية فإنَّ أمريكا قد قدمت وعودًا للقبائل العربية والرأي العام العالمي بشأن المشاركة الديمقراطية والتمثيل الشعبي في المنطقة. وهي لا شكَّ وعود لا مجال لتنفيذها من قبل أمريكا.

فعلى أرض الواقع نجد أن تنظيم «قسد» الذي يعتبر الشريك المدلل في هذا التحالف قد شغل جميع المناصب وسيطر على المؤسَّسات العسكرية، كما أنّه يقوم دائمًا بانتهاكات مثيرة للجدل من السياسات الإقصائية للقبائل العربية والممارسات السيئة النيّة والاعتقالات التعسفية للسكان المحليين والانتهاكات الاقتصادية وعدم توفير الحماية الكافية للسكان ضد تنظيم داعش الإرهابي. ولم تخلُ المنطقة من هذه الاضطرابات ولكن السبب الذي أدَّى للانتفاضة التي شهدتها الأيام الأخيرة هو اعتقال تنظيم «قسد» ل «رشيد أبو حوالة» أحد ممثلي القبائل العربية ورئيس المجلس العسكري بعد اجتماع في الحسكة، كما قُتل أحد رجال «أبو حوالة» خلال عملية الاعتقال على يد قوات التنظيم.

وهكذا كان اعتقال «أبو حوالة» هو القشة التي قصمت ظهر البعير، ومن الجدير بالذكر أيضًا أن هذا التحالف الذي لم تجد أمريكا ذريعة لإنشائه سوى محاربة داعش قد فَقَدَ دواعي وجوده من الأساس. ولكنهم لا يتوقفون عن الحديث عن تهديد داعش المستمر ذريعةً لمنح امتيازات زائدة لتنظيم «قسد» الحليف المفضل لهم، في خطوات عملية لإقامة نظام ديموغرافي يتمحور حول الأكراد على غرار نظام البعث الذي سئم منه الشعب السوري، لكن من غير الممكن ضمان استمرار ذلك.

والحقيقة أنَّ ما يثير القلق في هذه الأحداث ليس هو مشاركة الأكراد في أي نظام بفاعليَّة وحرية وتوازن وَفقًا للحالة الديموغرافية، بل إن الأمر الأكثر غموضًا وإثارة للقلق هو منح الأكراد امتيازًا ونفوذًا وتمثيلًا أكبر بكثير من تعدادهم السكاني، وكذلك منحهم ولو في مناطق معينة دورَ النصيريين البعثيين.

واليوم صار غموض الدور الذي تلعبه أمريكا في سوريا والمهمة التي تقوم بها هو في الواقع موضع تساؤل خطير في الأوساط الأمريكية. فقد كان هناك حديث حول أن تنظيم «قسد» والتشكيل أو التحالف الذي وُضع فيه ليس إلا تقريبًا وتدليلًا للإرهاب. وقد صاحب ذلك الحديث تكهنات حول تفكك هذا التشكيل وانفجاره في تلك الأجواء المناهضة لنظام الأسد. فالحقيقة أنه تشكيل لا أساس له وأنه سرعان ما سيتهاوى مع انسحاب أمريكا من المنطقة. ولذلك يمثل تمرد القبائل العربية تحذيرًا خطيرًا للسياسات الأمريكية هذه المرة وفرصة لمراجعتها.

وهذا يعني ضرورةَ الاستجابة للتحذيرات التي أطلقتها تركيا منذ البداية بشأن هذه القضية الشائكة. فقد لفتت تركيا مبكرًا الانتباه إلى مخاطر العمليات التي ستستهدف البنية الديموغرافية لسكان المنطقة. ولم تتخلَّ عن موقفها تجاه معاملة الأكراد في سوريا كمواطنين من الدرجة الثانية منذ عهد حافظ الأسد.

وبعبارة أخرى، فإن معارضة إنشاء نظام بعثي جديد باستخدام وحدات حماية الشعب هي فكرة لا علاقة لها بالأكراد. والقول بأن إدارة المنطقة يجب أن تأخذ في الاعتبار التوازنات الديموغرافية كذلك لا يعني الحديث عن إهمال الأكراد، بل على العكس من ذلك، فإن الأكراد جزء لا يتجزأ من الشعب السوري، تمامًا كما أنهم جزء لا يتجزأ من تركيا.

لكن ما تفعله الولايات المتحدة هنا ليس حماية الأكراد بل رميهم في مواجهة النار، مع إعطائهم دورًا في السيطرة على غالبية السكان في الأماكن التي هم فيها أقلية لن يفيد الأكراد على المدى الطويل، بل سيؤدي فقط إلى إفساد الروابط التي تضمن التعايش السلمي بينهم وبين شعوب المنطقة.

مع ثورة القبائل العربية تم تطهير قوات تنظيم «قسد» من الأراضي التي كانت تسيطر عليها في وقت قصير، ولم يبقَ لها أي أثر، يجب أن يكون هذا تحذيرًا واضحًا للولايات المتحدة وجميع من يخطط لمستقبل المِنطقة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق