ماذا تحمل أمريكا لمصر؟
بعد عامين من ثورة 25 يناير، بدا هنالك عدم يقين إزاء التحول السياسي في مصر، الأمر الذي يضع مشكلات أمام الولايات المتحدة، التي كانت شراكتها مع مصر هي حجر الأساس في السياسة الإقليمية على مدى عقود، ونظرًا لعدم الثقة والشكوك المتبادلة، تعرضت العلاقات المصرية - الأمريكية لهزَّة منذ الثورة، ويقف على كلا الجانبين من يقول: إنه قد حان الوقت لقطع تلك العلاقات. ولكن لا يزال لدى البلدين مصالح أساسية مشتركة كثيرة، كما أثبتت أزمة غزة في نوفمبر 2012، ويمكن أن يعمل البلدان بشكل فاعل معًا لتعزيز هذه المصالح، بحسب الباحثة البارزة في معهد "بروكينجز" تمارا كوفمان.
وقالت كوفمان في تحليل نشرته مجلة "فورين بوليسي": إنه بالنسبة للولايات المتحدة، تقدم الثورة المصرية فرصة تأتي مرة واحدة في كل جيل لبناء شراكة إستراتيجية أكثر قوة وثقة من أي وقت مضى، على أساس المصالح المتبادلة مع حكومة تستند إلى اختيار الشعب المصري ومعبرة عنه. ولكن إدراك هذه الفرصة يتطلب تبني منهج حكيم طويل الأجل يتجنب المساومات مع أطراف مصرية معينة؛ من أجل الالتزام الثابت بدعم ظهور نظام سياسي مصري قائم على التعددية.
السياسة الأمريكية تجاه مصر بعد الثورة:
وبحسب الباحثة، فإن سياسة الولايات المتحدة تجاه مصر تركز منذ قيام الثورة على أمرين: الحفاظ على معاهدة السلام المصرية – "الإسرائيلية"، وأمن الحدود المشتركة بينهما، ومحاولة دعم واستقرار الاقتصاد المصري المتداعي. وقد أدى الأمر الأول بحكومة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر، والإبقاء على العلاقات الأمنية الأخرى دون تغيير، وأدى الأمر الثاني إلى بذل الولايات المتحدة جهودًا جادة - حتى ولو غير فاعلة - لتقديم المساعدة الاقتصادية (أسهم في تأزم فعاليتها القرارات المصرية السيئة، فضلاً عن التعثر السياسي والمالي الذي تعانيه واشنطن).
ولكن مثل كرسي بساقين فقط، تتسم هذه الإستراتيجية بكونها غير مكتملة، ولن تؤدي إلى أي استقرار في مصر، بحسب التحليل. وتحتاج الولايات المتحدة - التي لا تزال تتمسك بتحفظها الشديد تجاه الأوضاع السياسية المتدهورة في مصر - إلى التفكير مليًّا فيما يدور على الساحة، والضغط على الرئيس محمد مرسي وحزبه الحرية والعدالة - وكذلك الأطراف الأخرى ذات الصلة – لتهيئة التربة اللازمة لوضع مصر على طريق العودة إلى انتقال ديمقراطي مستقر.
يجادل البعض بأن الولايات المتحدة ليس لديها تأثير في التطورات السياسية في مصر اليوم، لكن واشنطن لا يزال لديها الكثير لتقدمه لقادة مصر الطموحين، ولا يتعلق الأمر في معظمه بالمساعدات المالية. علاوة على ذلك، لا يزال المصريون داخل وخارج الحكومة يهتمون برأي الحكومة الأمريكية، وما يمكن أن تقدمه لمصر. يناشد الساسة الفائزون والخاسرون واشنطن للحصول على دعمها، ويدينون - في الوقت نفسه أحيانًا – أي تدخل أمريكي. إذا كانوا لا يهتمون بموقف واشنطن، فلن ينفقوا الكثير من وقتهم في محاولة توريط الولايات المتحدة في صراعاتهم الداخلية.
ينطبق ذلك على العديد من السياسيين المصريين، وأولهم الإخوان المسلمون ومرسي، فعلى الرغم من أنهم يعلنون أن كل انتصاراتهم الانتخابية التي جاءت بفارق ضئيل عن منافسيهم تخوِّل لهم الشرعية التي يحتاجون إليها للحكم، فهم لا يتصرفون على هذا الأساس، إذ يسعون سرًّا للحصول على اعتراف دولي بشدة، وبخاصة اعتراف الحكومات الغربية الذي من شأنه أن يجلب المساعدات الاقتصادية، فضلاً عن كونه بمثابة إشارة اطمئنان للمستثمرين، وشركاء الأعمال، والسياح، وغيرهم من الذين يُعد تعاملهم مع مصر الجديدة أمرًا ضروريًّا للغاية لنجاحها.
ويلعب الاعتراف الدولي دورًا في السياسة الداخلية أيضًا - وفقًا للباحثة - قد يستاء المصريون من الولايات المتحدة، ولكن الأغلبية من شباب مصر يريدون فرصًا أفضل من تلك التي حُرِم منها آباؤهم، وهم يعرفون أن هذا الأمر في القرن الـ21 يتطلب من مصر أن ترتبط بالعالم ارتباطًا وثيقًا عبر الالتزام بقواعد وقيم الديمقراطية، والمجتمع المفتوح، والتجارة الحرة.
ونظرًا لأنه لا يزال المصريون (خاصةً الإخوان) يهتمون بما تراه الولايات المتحدة، فمن الأفضل أن يتم التعبير عن نفوذ واشنطن كحوافز، وليس كتهديدات أو لي ذراع. وتتلخص الأمور المهمة في الاعتراف الدولي، والاستثمارات، والدعم في المنظمات الدولية، والتعبير عن الشراكة، جنبًا إلى جنب المساعدات المالية.
النهج الأمريكي قصير الأجل في مصر:
ووفقًا للتحليل، فإنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تتخذ منهجًا قصير الأجل تجاه التحولات السياسية في مصر. ولا يمكن معرفة من سيخرج على رأس تلك التحولات المُشبَّعة بالفوضى، ولا يمكن لحكومة الولايات المتحدة أن تكرر أخطاء ما قبل الثورة بالاعتماد على زعيم قوي لإعطاء واشنطن ما تحتاج إليه، مع التكتم على كل ما يدور في داخل البيت.
فيجب على واشنطن - بدلاً من ذلك - أن تركز على هدفين متشابكين على المدى الطويل، برأي كوفمان:
- الهدف الأول هو بناء استقرار دائم في مصر، والدرس المستفاد من الصحوة العربية هو أن الاستقرار لن يتحقق إلا من خلال التغيير السياسي. ومهما تكن صعوبة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها المصريون، فقد أعلنوا صراحةً أنه يريدون حل هذه المشاكل، من خلال القرارات التي تتخذها حكومة ديمقراطية تعاملهم بكرامة.
يجب على الحكومة الأمريكية - والكلام للباحثة - أن تدعم هذا الهدف باستمرار، وتساعد المواطنين المصريين في بناء المؤسسات القانونية والسياسية والبنية التحتية الاجتماعية التي من شأنها أن تساعد على ظهور الديمقراطية، وازدهارها، وتحقيق نتائجها.
- الهدف الثاني هو بناء تحالف واسع النطاق في مصر لدعم علاقات التعاون مع الولايات المتحدة. وسوف تتأثر السياسة الخارجية لمصر في المستقبل للأفضل أو الأسوأ، بسياستها الداخلية. لهذا السبب؛ من المهم - على وجه الخصوص - ألا تعوِّل الولايات المتحدة كثيرًا على فصيل مصري واحد، وأن تتجنب التحيز لأي جانب في البيئة السياسة المصرية المنقسمة. وبدلاً من ذلك، يجب أن يتواصل المسئولون الأمريكيون مع جميع التيارات السياسية، والمشاركة على نطاق واسع مع المجتمع المصري، لشرح مَنْ هم، وماذا يريدون، وما يمكن أن يقدموه، وبالتالي توضيح موقفهم – جنبًا إلى جنب المصريين الذين يشعرون برغبة مماثلة – لتحقيق شراكة قوية بين الولايات المتحدة ومصر.
وبحسب التحليل، فإن الدستور الذي صاغه ممثلو الإخوان والسلفيين، ومرره موسى من خلال استفتاء، يجعل حقوق الأفراد تابعة لسلطة الدولة، ويتسم بالضعف بالنسبة لحقوق النساء والفتيات، ويفرِّق بين الأديان، فيمنح بعضها الاعتراف والحماية الكاملين، بينما يعد أديانًا أخرى لا تستحق ذلك. الأكثر إثارة للقلق - برأي الباحثة - هو أن الإخوان برهنوا على استعدادهم لاستخدام تكتيكات العنف وغيرها، وهي نفسها الأساليب التي استخدمها مبارك ضد الإخوان وغيرهم من معارضي النظام القديم.
وبرغم كل عيوبها، فاز الإخوان المسلمون في أكثر انتخابات حرة ونزيهة في تاريخ مصر الحديث، وربما يفوزون في الانتخابات المقبلة أيضًا، لكن الانتصار الانتخابي لا يعفي من واجب الالتزام بقواعد الديمقراطية ومعاييرها، إذا سعت إلى الاعتراف بها، وهي ترغب في ذلك بكل تأكيد، كلاعب ديمقراطي شرعي في مصر، وعلى الساحة العالمية. هنا، يكمن نفوذ واشنطن الحقيقي، حيث تريد الحكومة التي يقودها الإخوان أن تعترف الولايات المتحدة بها، وتسعى لدعم شراكة مع الولايات المتحدة وتعزيزها. وسواء كرهت ذلك أو أحببته، لا يوجد بديل عن التقاط الصور في المكتب البيضاوي لتقول للعالم: إنك حصلت على هذا الاعتراف، على حد قول الباحثة.
لذا، بينما يتوجب على إدارة أوباما أن تستمر في التعامل مع قادة مصر المنتخبين، يجب ألا تخشى من توضيح خلافها العميق معهم حول بعض المسائل. في الواقع، تمكنت الولايات المتحدة من العمل مع قادة تختلف معهم في جميع أنحاء العالم، سعيًا وراء تحقيق مصالحها، بحسب الباحثة. ولكن ينبغي أن يوضح المسئولون الأمريكيون أيضًا أن المشاركة لا تعني التفويض. في الوقت نفسه، يجب على واشنطن أن تدعم بكل السبل كل من يعمل في مصر على وضع الحكومة المنتخبة موضع المحاسبة والتساؤل ودعم المدافعين عن حقوق الإنسان، وأولئك الذين يعملون على بناء مؤسسات قوية، ومجتمع مدني نابض بالحياة، ونظام سياسي قائم على التعددية، وهو ما يضمن وجود منافسة حقيقية للإخوان من الأصوات الأخرى. وهذا يعني أن تستأنف الولايات المتحدة دعمها الدبلوماسي والمالي للمجتمع المدني المقيَّد في مصر على الفور.
الحلول الوسط للخروج من المأزق المصري:
وأوضح التحليل أن المجتمع المدني والرقابة الدولية هما الوسيلتان الوحيدتان لمحاسبة حكومة الإخوان على التزامها بالقواعد الديمقراطية الأساسية، ووعودها السياسية، حتى تتمكن أحزاب قوية من الظهور، وتحدي هيمنة الإخوان في الانتخابات، وتستطيع مؤسسات قوية مراقبة سلطة مرسي التنفيذية. ويجب على إدارة أوباما ألا تتخلى عن مسئوليتها للعب هذا الدور الأساسي، أو تقلل من أهميته.
وهناك دروس يجب أن تستفيد منها المعارضة أيضًا؛ فيدعو البعض إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانية، والبعض الآخر لتظاهرات في الشوارع لإجبار مرسي على التنحي عن منصبه، وآخرون لعمل انقلاب عسكري؛ كل هذه الدعوات - برأي الباحثة - تؤدي إلى تفاقم الاستقطاب، وعدم الاستقرار، وتأخذ مصر بعيدًا عن مستقبل آمن وديمقراطي.
وحذرت كوفمان من أنه إذا واصل كلا الجانبين منافسته السياسية للآخر على أنها "لعبة محصلتها صفر"، فسيخسر الجانبان، وسيأخذان مصر معهما إلى حافة الهاوية. ومع اقتراب ظهور أزمة في ميزان المدفوعات، وتصاعد حدة أزمة نقص الوقود، والدقيق، وتنامي الاستياء الشعبي في الشوارع، تتضخم المخاوف من تأثير هذا التعنت المتبادل في الاستقرار الأساسي في مصر.
وتتطلب الأزمة التي تلوح في الأفق - برأي كوفمان - الحوار والحلول الوسط، ويجب على الولايات المتحدة أن تضغط على جميع الجهات الفاعلة في مصر نحو حل قائم على التعددية، دون الانخراط في الأمنيات حول حلول الأزمة، ودون توفير غطاء لمن يجلس في المقعد الساخن ويتجنب اتخاذ قرارات صعبة. تريد الولايات المتحدة أن تكون صديقة لمصر، وهذا يعني أنه يجب أن تحظى بقدر كافٍ من الاحترام والأمل لتصرح لقادة مصر بالحقيقة.
ويحتاج الرئيس مرسي إلى دعم المعارضة السياسية للإصلاحات الاقتصادية الصعبة اللازمة لإنقاذ الاقتصاد المتداعي، وتأمين المساعدات الدولية المطلوبة بشدة. إنه بحاجة إلى مشاركة المعارضة والجمهور في الانتخابات البرلمانية، لكي يعمل الكيان المنتخَب الجديد بفعالية، ويتعاون مع السلطة لتمرير القوانين اللازمة. وباعتبار هذه الحقائق الواضحة، يجب عليه أن يقوم بتعديل القوانين الانتخابية، وإصدار إجراءات تعمل على تحسين الثقة والمشاركة في هذه العملية. وينبغي عليه إيقاف عمليات ملاحقة السياسيين والصحافيين وغيرهم في إطار قوانين "السب والقذف" المصرية القديمة.
وعلى المعارضة أن تُنَحِّي مخاوفها جانبًا، وتفاوض للحصول على ضمانات مناسبة لتحقيق العدالة، وتشارك في الانتخابات البرلمانية المصرية لتقديم خيار حقيقي للشعب المصري. وبرغم الشوائب التي تحيط بنيات الإخوان، لا يمكن لمجموعات المعارضة أن تتوقع أنها ستكون المستفيدة من فشل الإخوان، خاصة إذا حادوا عن خريطة التنظيم السياسي لصالح الاحتجاجات والتظاهرات في الشوارع.
كما يجب على الجيش - من جانبه - أن يتفهم أن الانقلاب سيكون وبالاً على مصر، وعلى الاستقرار، وعلى الديمقراطية، وعلى الجيش نفسه، وعلى التعاون المصري - الأمريكي الاستراتيجي. فمن شبه المؤكد أن يؤدي أي انقلاب إلى نسف حزمة المساعدات العسكرية الأمريكية الكبيرة طويلة الأجل، والتي تخضع لتهديد من صقور الميزانية في واشنطن بالفعل، والذين يشككون في توقعات التعاون مع مصر.
ووفقًا للتحليل، فإن التحوُّل السياسي المصري لا يزال في مرحلة مبكرة وغير مؤكد. وتُعد المرحلة الانتقالية هذه مهمة جدًّا بالنسبة للولايات المتحدة التي لا تزال قادرةً بشكل كبير على التأثير في مسار هذا التحوُّل. ويرغب المصريون في إقامة علاقة مع الولايات المتحدة، ولكنها علاقة تقوم على أساس المساواة، وتضرب بجذورها في المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. يريد المصريون حكومةً تحترم حقوقهم وكرامتهم، وتستجيب لأولوياتها، وتلبي احتياجاتهم، يريدون حدودًا آمنةً، وأمانًا في الشوارع، وجيرانًا متوافقين، وسلامًا في المنطقة، يريدون لبلدهم أن تقود المنطقة، وتصل إلى العالم. وينبغي على حكومة الولايات المتحدة أن تمارس نفوذها – مرتكزةً على مبادئ ومصالح واضحة، وبالتعاون مع الآخرين - لدعم بناء ديمقراطية مستديمة في مصر وشراكة مثمرة مع واشنطن.
اسم الكاتب: تمارا كوفمان.
دار النشر: مجلة "فورين بوليسي".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق