الاثنين، 4 مارس 2013

صناعة الوهم الإعلامي

صناعة الوهم الإعلامي
محمد يوسف عدس
أعكف الآن على دراسة ظاهرة عجيبة فى بثِّ الأخبار.. ليست ظاهرة جديدة ولكنها الآن تستخدم على نطاق واسع الانتشار؛ كأن هناك مؤسسة محترفة تنظِّمها وتصوغها فى أُطُرٍ موحَّدة.. يلتقطها الصحفيون، الذين يستعذبون التهويل والأكاذيب والإشاعات.. يسقط فيها الجميع: السذّج وأصحاب الهوى وحسنو النيّة أيضًا من الناس.. أكثر ما لفت نظرى -خصوصًا- فى الأخبار المصحوبة بفيديو أنه لا توجد صلة حقيقية بين عنوان الخبر، وبين النص المكتوب تحته، ولا بينهما معًا وبين الكلام المسجل في الفيديو، اللهم إلا علاقة هامشية.. ويبدو لى من دراسة تعليقات القراء أنهم لم يفهموا اللعبة، فسقطوا فى مصيدة التشويش.
 أمامي الآن عشرات النماذج تحتاج في تحليلها لبعض الوقت.. يصنّفها الإنجليز تحت مصطلح (Disinformation) ولكن ما يحدث فى مصر شيء أبشع؛ فسيف القانون هناك يعاقب على الكذب عقوبات مغلّظة، أما هنا فالكذب كلأٌ مباح وصناعة رائجة؛ لذلك أطلق عليها "صناعة الوهم الإعلاميّ".
بعض أساليب الإفساد الخفية اليوم، تستهدف تشويش العقول والتلاعب بها عن طريق صياغة الأخبار صياغة تؤدى إلى طمس الحقائق وتزييفها، وعن طريق تكرار الأكاذيب صباح مساء؛ ولأن الناس لم يتلقّوا -فى عهد المخلوع- تعليمًا صحيحًا فى مدارسهم أو فى جامعاتهم، فَقَدَ أكثرهم  "ولا أقول كلّهم": فقد القدرة على الفهم والاستيعاب، وفقد القدرة على النقد، والقدرة على مناقشة ما يُلقى عليه من افتراءات وأكاذيب.. حصيلة هؤلاء من الأفكار مشوشة ومعلوماتهم مسطّحة، وهم على قدر كبير من القابلية للاستهواء..
أردت بهذه المقدمة أن أمهِّدَ لدراسة متأنِّية لنماذج إخبارية من الصحف المصرية.. 
لفت نظر بشدة إلى هذه الحقيقة خبرٌ نشرته على نطاق واسع عدة صحف ومواقع إلكترونية.. نظرت فيه بإمعان وضربت كفًّا على كفِّ مذهولًا من هبوط مستوى بعض الصحف المصرية التى كنت أعتبرها جادة، فإذا بها تهبط إلى أدنى من مستوى الصحف الصفراء التى يُضرب بها المثل فى السوقية والانحطاط.. وتساءلت مذهولًا: ما قيمة مثل هذا الخبر وأهميته حتى يُفرد له حيز فى أي صحيفة..؟
وسؤالى منبثق من رؤيتى للمهنية الصحفية..؟ هل هو نكتة..؟
وإذا كانت نكتة سخيفة فهل تجوز فى وقت الجد والشدة والاضطراب.. أم أنها دليل على السفاهة والعبث.. والاستهانة بعقول الناس.. بل المشاركة فى خلط الأمور والتشويش والتلبيس الّلَامهنيّ والّلاأخلاقي؟!
الخبر منشور تحت عنوان "منصة بور سعيد تعلن السيسى رئيسًا للجمهورية".. يتألف الخبر من: عنوان رئيسي، وخمسة أسطر فقط، وصورة بارزة للفريق المشهور، وعلى صدره وكتفيه النياشين الذهبية الملوَّنة، لتضفى على الخبر مهابة السلطنة المقترحة..
 العنوان يوحى أو بالأحرى [يوهم] القارئ بشيئين:
أولًا- أن الجهة التى تكلِّف رجلًا فى مركز وزير الدفاع لا بد أن تكون سلطة سيادية أعلى منه، ومن ثم يتوقع القارئ أن تكون هذه الشخصية التى على المنصة إما رئيس جمهورية أو رئيس وزراء..وإذا ذهب الخيال بعيدًا ربما يفكر فى أن من على المنصة هو زعيم شعبي كبيرٍ أكثر تأثيرًا: مثل سعد زغلول باشا أو أحمد عرابى..
ثانيًا- أن التكليف –بنص العنوان- يوهم بأنه خاص برئاسة جمهورية مصر.. فإذا نزلت إلى الخبر رأيت شيئًا آخر تمامًا؛ فالتكليف متعلِّق برئاسة جمهورية أخرى، ليست موجودة على خريطة العالم.. "إسمها جمهورية بور سعيد".. ولكن لكي يضفى الخبر مهابة على المنصة التى صدر منها التكليف يصفها: بأنها مقامة فى ميدان الشهداء وأنها أمام ديوان عام محافظة بورسعيد؛ وهذا الجزء من الخبر يجمع بين أحداث تاريخية لها قداسة فى ذاكرة الناس: "ميدان الشهداء"، ومهابة السلطة "ديوان عام المحافظة".. 
الخبر يترك القارئ هنا وقد تشوّش تمامًا فلا يقول له من هو الصبي أو المراهق السياسي الذى صعد المنصة وأطلق هذه الصيحة العبثية ثم اختفى فى الزحام.. وبذلك لا يكون خبرًا على الإطلاق، ولا يجوز فى أي عرف صحفيّ أو أخلاقي نشر هذا الهراء، لأن فيه استهانة مروّعة بعقول الناس وتضييع لأوقاتهم فى تصفّح أخبار عبثية.. 
ولكن لكي يمنح الخبر بعض الواقعية المفتقدة يضيف السطر الأخير: "وتشهد بورسعيد عصيانا مدنيًا منذ إعلان حكم إعدام المتهمين بقتل 72 من مشجعي ألتراس أهلاوي وما تبعه من مقتل وإصابة العشرات في اشتباكات مع الأمن"، علمًا بأنه لا جديد فيه؛  فالعصيان المدنى معروف، وحكم الإعدام وما ثار حوله من شغب معروف، ومهزلة قتل أفراد من ألتراس أهلاوي معروفة، ولو صدر الحكم بالبراءة لاحتج ألتراس أهلاوى ولرأينا نفس المشهد العبثي كله ينتقل إلى القاهرة وربما على نطاق أوسع..
والقضية كلها عبث وتهريج وانعدام شعور بالمسئولية، وهى أمور تقع خارج إطار ومسئولية الحكومة الحالية التى لم تكن موجودة من منشأ الأمر كله.. والقضاء هو المسئول عن أحكامه وتحقيقاته..
 ولا يمكن أن يؤخذ رئيس الجمهورية الحالي (ليكن هو من يكون) بجريرة آخرين لا سلطان له عليهم.. ولا يجب أن ننسى أن مجزرة استاد بورسعيد وقعت فى أول فبراير٢٠١٢ يعنى قبل وصول محمد مرسى إلى المسئولية بخمسة أشهر كاملة..
 ولأن الخبر لم يتطرق إلى هذه التفاصيل فإنه يترك القارئ مشحونًا بمشاعر غضبٍ وإثارةٍ متفجِّرة، وبعقل مشوَّش غارق فى تصوّرات وهمية غامضة لا علاقة لها بالواقع.. وهذا هو المقصود بالرسالة الإعلامية المضللة من هذا النوع المصمم بعناية، لتلتقطه الصحف ذات الهوى فتضعه على صفحاتها فخاخًا لتضليل القراء.. ولو كانت الصحيفة غير ذات هوى وملتزمة بأصول المهنة وأخلاقياتها ما روّجت للخبر ولألقت به فى صندوق النفايات؛  ففيه إهانة واضحة للقارئ، وإهانة للجنرال المحترم الذى تعلّق مصيره بتكليفات صبيان مراهقين على منصة خشبية فى بورسعيد، وتشكيك فى رئيس الجمهورية وإساءة إلى سمعته بدون وجه حق..
 تتفاقم المشكلة أكثر لو نظرنا إليها من زاوية أخرى: فكثير من القراء يكتفى فى تصفّح الجرائد بقراءة العناوين فقط؛ إذ يقرأ عنوان هذا الخبر ثم ينتقل إلى صحيفة أخرى فيقرأ عنوانًا آخر عن أناس فى المعارضة يجمعون توقيعات لإسقاط الرئيس.. ثم يخرج بانطباع عن وجود استياء شعبي عام وأن الرئيس معرض للسقوط فى أي لحظة.. وهى كلها انطباعات وهمية يشارك الإعلام المضلل فى ترويجها.. مثل هذا الإعلام يقوم بدور الشيطان ولكن على نطاق الأمة بأسْرها.. ثم أن المفروض أن يأتى الخبر ليصوِّر حدثًا وقع بالفعل ولكن إذا لم يكن هناك حدث أصلًا فعلى أي أساس أقيم الخبر، إن لم يكن المقصود به صناعة الوهم للناس..؟!
النموذج الثانى فى هذا الخبر: "مشاهد مؤسفة من التحرير.. لتر بنزين مقابل عبور الموتوسيكل.. ولو هتعدِّي بالعربية هتتحرق.. صبية لاتتعدى أعمارهم الـ13 عامًا، تظهر على وجوههم ملامح "طفولة الشوارع، يرتدون ملابس مهلهلة... وعندما حاول أحد سائقي أتوبيسات النقل العام أن يمر من وسطهم أوقفوه بالقوة.. ألقوا زجاجات المولوتوف الحارقة أمام الأتوبيس، وهدّدوه بالحرق، إذا تحرك خطوة واحدة... المؤسف أكثر أن يمارس هؤلاء الصبية فرض الإتاوات على السائقين حيث يستوقفونهم بالقوة، ويأخذون منهم نحو لتر من البنزين، لاستخدامه في زجاجات المولوتوف الحارقة.."
 لا يمكن أن تكون هذه أعمال تلقائية من صبية لا يكادون يفقهون شيئًا؛ إنهم مخلَّفات وضحايا عقود من حكم الأبالسة واللصوص لمصر، هؤلاء هم بعض أدوات المؤامرة يُسلّطهم المتآمرون على حكومة تريد الإصلاح، منتخبة لأول مرة انتخابًا حرًا..؟ فمن ضلَّلهم ومن استأجرهم..؟ ومن قام بتدريبهم وتنظيمهم..؟ ومن جرَّأهم على هذه الأعمال التخريبية.. وأكَّد لهم أنهم لن يعاقبوا على جرائمهم..؟! ومن المستفيد من هذه الفوضى والعنف..؟ اقرأ هذا الخبر لتفهم:"
"أشار البرادعى عبر موقع التواصل الاجتماعي تويتر إلى أن نظام الدكتور محمد مرسى أصبح عاجزًا عن إدارة الدولة... مصر تعيش [وضعًا مأساويًّا]... وأوصال الدولة تتفكك والعنف في ازدياد"
نذير الشؤم هذا، والجبهة التى يمثلها، هم المستفيدون بهذه الفوضى والعنف، وهم الذين يساعدون فى تأجيج الغضب، ويمنحونه غطاءً سياسيًا باسم إنقاذ الثورة.. وهم يعرفون مصادر تمويل هذه المؤامرات التخريبية ويسكتون عنها.. إنهم -مع الإعلام المسعور- يصنعون الأحداث ثم يعلّقون عليها.. وتلك بعض تجليات "صناعة الوهم الإعلاميّ"...
myades34@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق