عتبات مصر المقدسة
شريف عبد العزيز الزهيري
تحتل المراقد أو القبور مكانة سامقة في الدين الشيعي، تصل إلى مرحلة القداسة والعبادة المشروعة عندهم، وأكثر المراقد قدسية في دينهم هي مراقد الأئمة الأحد عشر، وهي موزعة على ثلاث دول؛ العراق وإيران والسعودية، ثم تلي هذه المراقد في القدسية، مراقد آل البيت من نسل هؤلاء الأئمة، وتعتبر زيارة المراقد من أهم الشعائر التعبدية في الدين الشيعي، ويطلق عليها اسم "حج العتبات المقدسة"، فعامة الشيعة لا يحرصون على الصوم والصلاة حرصهم على حج العتبات المقدسة، ويتفاخر الشيعة بذلك ويتباهون بحماقة؛ أن حجاج كربلاء أو مشهد أو النجف أكثر من حجاج بيت الله الحرام.
الشيعة دائمًا ما يحاولون استغلال هذه المراسم والمناسك الشركية استغلالاً سياسيًّا في توطيد نفوذهم، ونشر دينهم، في المناطق التي توجد فيها هذه المراقد والعتبات المقدسة، فهذه المناطق مع الوقت وكثرة الحجيج الشيعي إليها يحدث فيها تغير نفسي واقتصادي وعقائدي خطير بين سكانها، وما حدث مع كربلاء والنجف وسامرا في العراق عبر التاريخ خير شاهد على هذه التحولات الجوهرية والتي قادت هذه المناطق في النهاية لأن تكون دويلات مستقلة داخل الدول الأم، والشيعة يمتازون عن غيرهم بالصبر الطويل من أجل تحقيق أهدافهم، فهم كما قال خبراء الشأن الشيعي: صانعو سجاد، يصبرون شهورًا طويلة من أجل إنجاز سجادة واحدة، ولكنها في النهاية تكون ثروة باقية لعشرات السنين، وهذا ما يفعله الشيعة الإيرانيون الآن مع مصر.
التقارب المصري الإيراني يتطور يومًا بعد يوم، فلكل طرف دوافعه وأهدافه ورؤيته من هذا التقارب، ومخاطر هذا التقارب تكمن في أن كل طرف يدير هذه العلاقة من وجهة نظر مغايرة عن الطرف الآخر، ففي حين أن مصر بنظامها الجديد الذي يسيطر عليه الإخوان المسلمون يراها علاقة سياسية إستراتيجية قصيرة المدى، ولأسباب إقليمية واقتصادية معروفة، نجد أن إيران تخطط لعلاقة إستراتيجية طويلة المدى ذات أبعاد سياسية ثورية دينية، تحضر لها منذ زمن بعيد، بصبر وتؤدة صانعي السجاد.
وبعيدًا عن المحاولات التاريخية المتكررة لاستعادة ملك آل علي - الدولة الفاطمية العبيدية - في مصر وحتى لا نتهم باجترار أحداث تاريخية لها ظروفها وأجواؤها وملابساتها التي تعتبر بعيدة عن الواقع الحالي، سوف نرصد المحاولات الإيرانية في السنوات الأخيرة لاقتحام الجدار المصري المتين.
فالتحرك الشيعي نحو مصر تطور بشدة في العشر سنوات الأخيرة، وما قام به وزير السياحة المصري هشام زعزوع منذ أيام بتوقيع اتفاقيات سياحة متبادلة بين مصر وإيران، لم يكن سوى تتويج لجهد السنوات العشر الماضية لشرعنة دخول الحاج الشيعي إلى عتبات مصر المقدسة! ووضع حجر الأساس للسيطرة الداخل المصري في استنساخ متكرر للتجربة العراقية.
ففي سنة 2002 تقدم المجلس الأعلى لرعاية آل البيت "عضو تجمع البتول"، بمشروع إلى وزارة السياحة في عهد الوزير الأسبق ممدوح البلتاجي، يعرض فيه على الحكومة المصرية الإشراف على المساجد التاريخية والأثرية المدفون بها بعض أئمة وآل البيت، مثل مسجد الحسين، والسيدة نفسية والسيدة عائشة والسيدة زينب، وغيرها من المساجد القديمة التي أنشئت في الأساس أيام حكم الفاطميين، مع العلم بأنه لم يثبت تاريخيًّا صحة دفن أحد من آل البيت في هذه المساجد، كما تضمن المشروع الطموح تشجير الطريق الممتد بطول سيناء إلى القاهرة، بدعوى تشجير طريق رحلة آل البيت إلى مصر هربًا من الاضطهاد الأموي، وأضيف للمشروع لفظة و"الأسرة المقدسة"، لضمان تأييد النصارى، وللمقاربة التاريخية بين ما فعله اليهود بعيسى وأمه عليهما السلام، وبين بني أمية وآل البيت، هذا التشجير كان سيمكِّن الشيعة من وضع أيديهم على مئات الآلاف من الأفدنة في سيناء وغيرها، ويبدو أن سحر المال الإيراني قد أتى مفعوله سريعًا جدًّا، فبعد أيام من عرض الفكرة خاطبت الوزارة محمد الدريني "رئيس تجمع آل بيت" كي يقوم بسرعة إرسال فكرة المشروع إلى شركات السياحة لعمل التعاون اللازم، ولكن كثرة الضغوط الداخلية والخارجية والشعبية أدت لتوقف المشروع، ولم يقف الدريني مكتوف الأيدي عند هذا الحد، فقد عاود الكرة سنة 2004، وقام بإنشاء شركة سياحية لتنفيذ المشروع الخبيث، وحصل على ترخيص من الوزارة بعد تقديم تصور عام عن المشروع، واحتفل في ذلك الوقت بمهرجان كبير دعا إليه العديد من الرموز الاجتماعية والسياسية والدينية أسماه مهرجان "العتبات المقدسة" في شهر مارس، وأعلن في هذا المهرجان أن هذا المشروع سيدر على مصر 150 مليار دولار!، ولكن خطته فشلت مرة أخرى بسبب رفض الأمن القومي، وبعد ذلك تم اعتقاله بسبب أنشطته في نشر التشيع بين المصريين، وتورطه في علاقات مشبوهة مع السفاح الشيعي العراقي "أبو درع" قائد مليشيات التيار الصدري في العراق.
إيران بنت على هذه الجهود التي قام بها الشيعة المصريون، وأخذت في منهجية ثابتة وهادئة، وبحرفية صانعي السجاد وصبرهم، في توجيه الطلبة الشيعة العرب القادمين للدراسة في مصر للسكنى في مدينة 6 أكتوبر المصرية الراقية، وهي مدينة بعيدة نوعًا ما عن ضوضاء القاهرة، كما أنها مدينة راقية يسكنها الأثرياء أصحاب الوعي الديني المنخفض، وهو ما يجعل النشاط الشيعي أيسر في الحركة والانتشار، وفي هدوء أيضًا بدأ ظهور الحسينيات الشيعية في أنحاء متفرقة في مصر، في إيذان بتحول الشيعة من السرية إلى العلن، وكادت أن تحدث مصادمات بين المصريين الرافضين لظهور مثل هذه الممارسات البدعية في بلادها، وبين الشيعة المصريين، وكادت أن تحدث مجزرة للطلبة العرب الشيعة في مدينة 6 أكتوبر سنة 2010 بعد أن قام بعضهم برفع الآذان بحي على خير العمل، ولكن القيادة المصرية وقتها كانت في طور الاحتضار، ومشغولة بما هي أهم وهو الحفاظ على بقائها وقضايا التوريث، وبعد ثورة 25 يناير عاود محمد الدريني عرض مشروعه على عصام شرف، ذاهبًا لما هو أكبر من ذلك، وهو عمل شركات سياحية تحت تكتل "تجمع آل البيت"، ودخل في مفاوضات مع كثير من الشركات في هذا الشأن، حتى تم تتويج ذلك مؤخرًا في شكل الاتفاقيات السياحية المتبادلة التي وقعها الوزير المصري.
هذا السياق الذي وقع خلال العشر سنوات الماضية، إذا ما تم مقاربته بالتجربة الشيعية العريقة في السيطرة والاختراق والتغلغل في المجتمعات السنية، وما حدث مع دولة العراق التي كانت جدار الدول العربية السنية، يضعنا أمام حقيقة واضحة وخطيرة، وهي أن المخاوف من التغلغل الشيعي هي مخاوف مشروعة وحقيقية لا مبالغة فيها كما يروج الإخوان، وأن الاعتماد على المناعة الشعبية من قبول التشيع هي مناعة وقتية، فضلاً عن كونها مناعة هشة وانتقائية، لا يصلح مع أقوام اعتادوا واحترفوا استغلال الجهلاء والبسطاء والفقراء، فالمال الإيراني لن يتدفق على الخزينة المصرية إلا ومثله وزيادة سيتدفق على اجتذاب الفقراء واصطناع العملاء، خاصة وأن لإيران علاقات وثيقة مع التيار الناصري وزعمائه في مصر، كما لإيران حلفاء وعملاء في أماكن حساسة ومؤثرة في الصحافة والإعلام والاقتصاد والثقافة، فنحن أمام عدو قد تجهز طويلاً لهذه اللحظة، وما يقوم به الإخوان اليوم في مصر خطيئة كبرى لا تعدلها خطيئة، فهم في سبيل مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية، وفي سبيل إجبار دول الخليج على عدم معارضة النظام الجديد، وإعادة المساعدات الاقتصادية، في سبيل ذلك يقوم بخطوة انتحارية لن يسامحهم عليها المصريون أبدًا مهما كان المقابل، كما أنهم سيفتحون الباب على مصراعيه لصدامات وفتن وتوترات لن تنتهي؛ لأن المصريين لن يقبلوا أبدًا مهما كان العائد والفائدة ظهور الشركيات الشيعية في بلادهم، ولن يصبروا على رؤية السائحين الإيرانيين وهم يحجون إلى المراقد والقبور، ويسمعون منهم بآذانهم سب الصحابة ولعن الراشدين، فلن يصبر على ذلك أبدًا المصريون، ومصر لن تكون أبدًا موطنًا للعتبات المقدسة، ولا موطئًا للقدم الإيراني والشيعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق