عسكرة الشرطة
ما يحدث في قطاع الشرطة المصرية أصبح أمرا عبثيا وسورياليا! فليست مفهومة حكاية الاضرابات ولا دوافعها، حتى وإن كانت في عدد محدود من الاقسام، فنحن إذا فهمنا الدعوة الى اضراب في مصنع أو مرفق أو بين الطلاب في جامعة أو معهد، فمن الغريب أن يحدث ذلك في أوساط مؤسسة عسكرية مثل الشرطة أو الجيش، وإذ نحمد الله على أن الجيش ما يزال محتفظا بتقاليده، كما نشكر سبحانه وتعالى لأن رسوخ تلك التقاليد حصنة في مواجهة دعوات المحرضين والفوضويين، إلا اننا لابد أن نستغرب ذلك التفلت الذي اهدر التقاليد العسكرية في اوساط الشرطة؛ الأمر الذي يدعونا الى التفكير بشكل جاد في مسألة عسكرة الشرطة، واخضاعها من جديد لتقاليد المهنة التي تجعل الشرطي أيا كانت رتبته عسكريا في داخل مؤسسته؛ بمعنى أن يكون محكوما بقواعد واعراف الانضباط المقررة، ومدنيا في تعامله مع المواطنين؛ بمعنى التزامه بالقانون ومقتضيات احترام حقوق الإنسان.
إن ما أفهمه والمعمول به في انحاء الدنيا، أن للشرطة الحق فى الاحتجاج السلمي من خلال المؤسسات التي تمثلها، لكن ذلك لا ينبغي أن يؤدى الى تعطيل مصالح المواطنين، وهو ما يسمح مثلا للعاملين بالإضراب بنسبة 25٪، أما 75٪ من طاقة العمل فينبغي أن تستمر في أداء وظيفتها المعتادة، والمخالفة في هذه الحالة لابد أن تواجه بمنتهى الحزم والشدة، أما أن يمتنع العاملون في القسم عن العمل، ويغلقون أبوابه بالجنازير فتلك بدعة جديدة تعد جريمة لا تمر بغير حساب، وحين يقوم جنود أو أمناء شرطة باحتجاز ضابط في مكتبه، أو حين يقوم ضابط بالاعتداء بالضرب على مجند أدنى منه رتبة، فتلك بدورها من الجرائم التي تستوجب الحساب والعقاب.
لقد تراوحت الأرقام التي تحدثت عن اضرابات في اقسام الشرطة، فالتصريح الرسمي الذي ورد على لسان مستشار رئيس الجمهورية انها 15 فقط من بين 365 قسما في انحاء مصر، في حين أن صحف المعارضة تتحدث عن 24 أو 30 قسما.
وإذ لابد أن تلفت انظارنا حفاوة أبواق المعارضة بفكرة الاضراب، ربما بمظنة انها تمثل استجابة لدعوة العصيان المدنى، إلا أن العدد ليس مهماً كثيرا امام اهدار قيم الانضباط العسكري في محيط الشرطة، الامر الذي من شأنه أن يفتح بابا جديدا للتفلت والفوضى نحن في غنى عنه.
الذي لا يقل سوءاً عن ظاهرة الاضرابات، هو تلك الدعوة التي اطلقها بعض قادة الجماعات الاسلامية، وتحدثوا فيها عن تنظيم لجان شعبية من عناصرها للحفاظ على الأمن؛ لسد الفراغ الذي ينشأ جراء اضراب الضباط والامناء عن العمل، وهي دعوة خطرة تفتح بابا اضافيا للفوضى وتأسيس ميليشيات جديدة يعلم الله وحده حدود الدور الذي يمكن أن تقوم به، ناهيك عن انه قد يشجع آخرين على اتباع ذات النهج؛ الأمر الذي يعنى أن من أراد ان يخرجنا من مشكلة، فإنه ورطنا في كارثة ودفع بنا الى مشارف الحرب الأهلية، وبدلا من الدعوة الى عسكرة الشرطة ومطالبتها بأن تتحمل مسؤوليتها، فإننا ننزلق إلى عسكرة المجتمع وتهيئته للاقتتال بما يهدد السلم الأهلى.
سمعنا فى بداية الثورة عن ائتلاف ضباط الشرطة، وقد تراجعت تلك الخطوة فيما يبدو، وظهرت بعدها فكرة إقامة نقابة للشرطة، وبعدها سمعنا عن تأسيس نادٍ لضباط الشرطة، وإلى جانب هؤلاء سمعنا عن ضباط ضد الأخونة، وعن تجمع الضباط الملتحين.
ولم نعرف بالضبط ما هي المطالب المشروعة لهؤلاء، وهل هي مطالب تتعلق بالتأمين والتسليح أم تتعلق بمكافحة الفساد أم بتحسين الأوضاع.
وما حدث مع الضباط تكرر بصورة أو أخرى مع أمناء الشرطة والأفراد. لكن الذي لم أفهمه هو ذلك المطلب الذي أبرزته الصحف خاصة بمنع اقحام الشرطة في السياسة أو الاشتباك مع الجماهير؛ لأن المجتمع يريد منها أن تنفذ القانون وتحترم كرامة المواطن بصرف النظر عن هويته، ثم إن أحدا لا يستطيع أن يعفيها من التصدى للمظاهرات أو حماية المنشآت العامة؛ لأن ذلك يعنى اعفاءها من مسؤولياتها الأساسية؛ لأن التحدى الحقيقى هو كيف يمكن أن تؤدي تلك الوظائف بأسلوب متحضر لا يهين المواطن، ولا ينتهك حقه في الاحتجاج والتظاهر السلمي.
إن أحدا لا يستطيع أن يعترض على أهمية الاستجابة للمطالب المشروعة لرجال الشرطة باختلاف مراتبهم، لكنني أخشى أن يكون الضجيج المثار حول تلك المطالب هدفه صرف الانتباه عن محاسبة رجال الشرطة المسؤولين عن قتل المتظاهرين، أو التعتيم على الدور الذي قام به القناصة في أثناء الثورة، خصوصا ان ثمة جهدا بذل أخيرا لتسليط الضوء على شهداء الشرطة الذين يستحقون منا كل الاحترام، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون مبررا لإغلاق ملف الأولين، واستبعاد فكرة القصاص منهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق