هلاوس ليلة الفض
وائل قنديل
فى البداية استصغروا حجم الاعتصام واستخفوا المعتصمين بالقول إنها فقط إشارة مرور صغيرة (رابعة العدوية) فى مواجهة مصر كلها، وبمرور الوقت نجحت هذه «الإشارة الصغيرة» فى فرض واقع سياسى على جميع الأطراف، وأثبتت أن مغامرة الثلاثين من يونيو لم ولن تمر كنزهة أو نزوة عابرة من قبل المتعطشين للقفز على السلطة واختطافها.
غير أن النجاح الأهم لهذه «الإشارة» أنها استطاعت أن تنقر على زجاج الضمير فتستدعى شرائح وفئات متنوعة من كل مكان، جاءت إليها مختارة معلنة التضامن ومعبرة عن حالة إنسانية لا تزال تحتفظ ببهائها على الرغم من كل الملوثات الإعلامية والفزاعات الأمنية والخزعبلات السياسية التى تسكب فى أدمغة الناس كل يوم.
وقد تحولت عملية إطلاق الأكاذيب إلى نوع من الهلاوس ليلة أمس مع التسريبات الخاصة بتحرك القوات لافتتاح الحرب ضد الاعتصام، إذ استدعت جوقة الانقلاب كل احتياطيها من الهلاوس القديمة والجديدة والمجددة، وراحت تردد ما ثبت كذبه وزيفه قبل ذلك من عينة أخبار وحواديت الجثث الطافية فوق مياه محيط رابعة الأطلسى ،أو المدفونة تحت الكرة الأرضية، إلى آخر هذه المحفوظات الكاذبة عن جهاد النكاح وحد الحرابة وأسلحة الدمار الشامل، ما يكشف عن حالة من الإفلاس الفكرى والأخلاقى داخل معسكر الانقلاب.
لقد تصوروا أنهم بمقدورهم أن يجعلوا من اعتصامات رابعة العدوية والنهضة مجرد صورة فولكلورية يجرى تسويقها إعلاميا على أنها حالة دروشة سياسية ستأخذ وقتها وتمضى، وأن كتلة المعتصمين سوف تتآكل بمرور الوقت حتى تذبل وتختفى تلقائيا، غير أن ما جرى أن الاعتصام يثبت أقدامه كل يوم ويجتذب مشاركين ومؤيدين ومتعاطفين، يتقاطرون عليه كلما تصاعدت تحرشات السلطة الجديدة به، وتمادت فى اطلاع قنابل التفزيع والترويع والتهديد بالاقتحام المسلح.
إن مجزرتين كبيرتين وعددا من العمليات الإجرامية الخاطفة لم تنجح فى إرهاب المعتصمين، الذين كانوا يشيعون شهداءهم ويعودون إلى الميادين فورا، كما لم تنجح حرب التجويع والترويع والتشويه فى منع انضمام أعداد جديدة لميادين الغضب والرفض لعسكرة الحياة فى مصر مرة أخرى.
والحاصل أن صناع الانقلاب راهنوا على أنهم نجحوا فى السيطرة على وعى المصريين وتطويعه للتسليم بما تمليه عليهم ماكينات عملاقة للدعاية السوداء، لكن المفاجآة كانت فى هذا التمسك بما هو فطرى ونقى وإنسانى، الذى أوجد معادلة شديدة التعقيد والتناقض، إذ كلما ارتفعت وتيرة تشويه الاعتصام وترهيب المنضمين له، ارتفعت معها أعداد المعتصمين على نحو أذهل العالم، وأعاد تشكيل المواقف الدولية والإقليمية، وأسقط الخرافة التى روجها إعلام متعسكر بأن ٣٠ يونيو ثورة وليس انقلابا، ناهيك عن تهافت أكذوبة الثلاثة وثلاثين مليونا بالأدلة والقرائن العلمية.
إن تاريخا نضاليا يكتبه معتصمو ميادين مصر الآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق