الطريق إلى الفوضى يبدأ من واشنطن
كثير من الملابسات أحاط بالمشهد الكئيب الذي خيّم على مصر في الأيام الثلاثة الأولى من شهر يوليو، والتي شهدت تغييراً في السلطة المدنية المنتخبة بإرادة شعبية أفرزتها ثورة يناير، فقد مثل ذلك قمة جبل الجليد الذي ظهر على الساحة المصرية، فيما بقيت قاعدته التي تشكلت داخلياً وإقليمياً وخارجياً خافية عن الأنظار، رغم أنها كانت آخذة في التشكّل لأشهر عديدة، وعلى مسارات متنوعة، من أجل وأد التجربة السياسية المصرية الوليدة، لأهداف سنحاول توضيحها في الأسطر القادمة.
فقد بدأ ذلك المشهد يتشكّل منذ أن أعلن الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي نيته تحرير الإرادة المصرية، وبدأ ذلك مبكراً من الأيام الأولى لحكمه الذي تولاه في الثلاثين من يونيو 2012، حيث بدأ جولات خارجية إلى كل من الصين وإثيوبيا وأوغندا وإيران وباكستان والهند وروسيا، إضافة إلى البرازيل وجنوب إفريقيا، وكل تلك الزيارات كانت تشكّل أعمدة سياسته الخارجية، والتي اتضح بجلاء بعد أيام قلائل أنها تبتعد كثيراً عن مسار الولايات المتحدة الأمريكية، بل بدأت بتهديد مصالحها الاقتصادية والسياسية في المنطقة.
ذلك الابتعاد وصل إلى ذروته عندما حطت طائرة الرئيس المصري في طهران لحضور قمة عدم الانحياز في 30 أغسطس، وهي الزيارة التي مثلت تاريخاً فاصلاً للولايات المتحدة في علاقتها مع نظام مرسي، حيث بدأت منذ ذلك الحين تخرج الرسائل من أوباما بأن مصر في عهد مرسي "ليست حليفاً ولا عدواً"، وهو التصريح الأكثر حدة الذي يخرج من رئيس أمريكي بعد عقود من العلاقات الاستراتيجية بين الدولتين.
فقد سبقت زيارة مرسي ضغوط أمريكية لعدم كسر العزلة التي فرضتها واشنطن على النظام الإيراني، الذي أراد أن يُظهر للعالم بعقده لقمة عدم الانحياز، أنه قادر على الحشد والالتفاف حول العقوبات والعزلة الأمريكية، وكانت الضغوط الأمريكية متمثلة في عدم زيارة الرئيس بنفسه القمة، لكن إيفاد وزير خارجيته أو أي مسؤول آخر أقل حجماً، إلا أن الرئيس أصر على الحضور بنفسه، وكانت تلك أولى العلامات الفارقة على طريق الشقاق بين القاهرة وواشنطن في عهد مرسي.
وفي ذلك الوقت كتب توماس فريدمان في «نيويورك تايمز» مقالاً بعنوان "انعطافة مرسي الخاطئة"[1] قال فيه إن تلك الخطوة من مرسي خاطئة ومزعجة للجانب الأمريكي.
ويعدّ توماس فريدمان واحداً من المقربين من دوائر صنع القرار الأمريكي، وقال إن الإزعاج في زيارة مرسي أيضاً لأنها واحدة من أولى زياراته خارج مصر، ولقمة عدم الانحياز (المعارضة للإمبريالية الأمريكية بالأساس).
ووجه فريدمان خطابه إلى مرسي قائلاً: "إن زيارتك تعني أنك تدعم النظام الديني الإيراني، وهي رسالة إلى شعب إيران أيضاً أنه نظام شرعي ولا حاجة للخروج عليه بتظاهرات منادية بالديمقراطية مثل تلك التي جلبتك إلى سدة الحكم في مصر".
وتركز الانزعاج الأمريكي حينئذ من تلك الزيارة على ثلاثة منغصات، الأول: كسره العزلة الدولية على إيران، الثاني: دعمه قمة عدم الانحياز المعادية للولايات المتحدة، والثالث: أن الزيارة تمثل دعماً للنظام الإيراني غير الديمقراطي من وجهة النظر الأمريكية؛ لذلك فإنها تقوض جهود واشنطن لتغيير النظام هناك، وتقوض مصالحها طويلة الأمد، وكل تلك مثلت نقاطاً مبكرة على طريق الصدام مع واشنطن.
أما على الجانب الإسرائيلي، فقد انتقدت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية زيارة الرئيس مرسي لإيران، زاعمة أن هذه الخطوة تمثل جرس إنذار يجب الحذر منه، خاصة في ظل ما أسمته الصحيفة رغبة الإخوان المسلمين في تحسين العلاقات بقوة مع طهران، وخشيت الصحيفة من أن يكون هذا التحسن على حساب (إسرائيل) في النهاية.
ووصفت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية زيارة مرسي لطهران بأنها مغامرة يجب الحذر منها، خاصة في ظل التهديدات التي تمثلها إيران، سواء للعالم أو للمنطقة[2].
لذا كان واضحاً منذ بداية عهد مرسي أنه يريد أن ينتهج سياسة خارجية تعتمد على التنوع وعلى الاستقلالية وعلى تحرير الإرادة المصرية، وظهر ذلك جلياً أيضاً في محاولاته لتنويع مصادر السلاح بعدما عقد صفقات عسكرية مع كل من الصين وروسيا، وهي الصفقات التي أزعجت واشنطن التي توفر لمصر معونة سنوية قدرها 2.1 مليار دولار، منها 1.3 مليار دولار معونة عسكرية، طبقاً لاتفاقية كامب ديفيد، وهو ما مثل سبباً جديداً لانزعاج الولايات المتحدة؛ فتنويع السلاح المصري سيمثل كسراً لحلقة جديدة من تبعية مصر للولايات المتحدة، التي تضمن التفوق النوعي لصالح إسرائيل دائماً، لكن استيراد صواريخ من روسيا مثل S300 على سبيل المثال، يمكنه أن يغير قواعد اللعبة ويمثل تهديداً للطائرات الإسرائيلية.
كما سعى مرسي أيضاً إلى تحرير إرادة بلاده عن طريق تقليل الاعتماد على استيراد القمح، الذي تعد مصر أكبر دولة مستوردة له في العالم، وحاولت حكومة مرسي أن تخفض استيرادها من القمح بنسبة 35% من أجل تقليل عجز الموازنة، واستوردت 3.4 مليون طن فقط في عام 2012م[3]، في حين تستورد مصر من الولايات المتحدة فقط ما قيمته 17.7 مليار دولار سنوياً من القمح[4]، وهو ما يمثل أضعاف قيمة المعونة الاقتصادية والعسكرية التي تعطيها الولايات المتحدة لمصر، ويمثل ذلك المبلغ دعماً للفلاح الأمريكي ولاقتصاد بلاده؛ لذا فإن مشروعات مرسي للاكتفاء الذاتي من القمح تدريجياً مثلت جرس إنذار جديد لواشنطن.
كما بدأت مصر ترسم لها سياسة خارجية مستقلة بعد ثورة يناير، وبدأت التعامل مع قضايا المنطقة بحسم كما ظهر جلياً في أزمة غزة الأخيرة في نوفمبر 2012، بعدما استطاعت الجهود المصرية أن تسهم في وقف إطلاق النار وتحقن دماء الفلسطينيين، وأجرى رئيس الوزراء المصري - آنذاك - هشام قنديل زيارة لغزة لكسر الحصار عليها، وزار الجرحى في مستشفيات غزة، وبدا أن مصر بدأت تخط لها دوراً واضحاً في السياسات الإقليمية، وتلاحم ذلك الدور مع الدور التركي المتصاعد في المنطقة، ما مثل بداية تشكيل محور جديد في السياسات الإقليمية لم يكن حتماً لصالح الكيان الصهيوني، الذي وجد نفسه لأول مرة عاجزاً عن إطلاق يده وحرق الفلسطينيين بالفسفور الأبيض كما فعل إبان عدوانه الغاشم على غزة أواخر عام 2008.
كما مثلت زيارات الرئيس مرسي إلى أعماق القارة الإفريقية حيث منابع النيل، بعداً آخر لقوة مصر الإقليمية التي طالما تقزَّمت في عهد الرئيس السابق حسني مبارك، وكذلك أدى ذلك إلى تقويض أمن مصر القومي فيما يتعلق بملف المياه، والذي عملت إسرائيل فيه من كثب من أجل خنق مصر ومنع مصادر المياه عنها من الجنوب، فقام مرسي بزيارات إلى كل من إثيوبيا في 15 يوليو 2012 لحضور القمة الإفريقية التي طالما غاب عنها سلفه مبارك، ثم عاد إلى أوغندا ثانية في التاسع من أكتوبر من العام ذاته للاحتفال بعيد استقلالها، وهي مناسبة لم يكن ليلتفت إليها مبارك أيضاً، وتأتي أهمية أوغندا من أنها من إحدى دول منابع النيل، وفي 27 مارس 2013 زار مرسي أيضاً جنوب إفريقيا، في زيارات مكوكية لمختلف الدول حول العالم بمسافة بلغت 70200 كم، أي بمعدل الدوران حول الكرة الأرضية خمس مرات[5].
ومن خلال تحليل سلوك الإدارة المصرية في عهد الرئيس مرسي من كل المعطيات السابقة، بدا واضحاً للولايات المتحدة أن مصر تبتعد عن الفلك الأمريكي، وأنها بدأت تستعيد دورها الإقليمي وبات نفوذها يمتد حتى إيران وتركيا وإثيوبيا وأوغندا، واستعادت مصر دورها في دوائر نفوذها الإقليمي ومجالها الحيوي مرة ثانية، وكل ذلك كان يمثل تهديداً مباشراً لأمن إسرائيل وبالتبعية لأمن الولايات المتحدة، لذا بات من الضرورة أن تقوم الولايات المتحدة بكسر ذلك الاتجاه المتنامي لتحرير الإرادة المصرية.
حيث كشفت «الجزيرة» القطرية عن وثائق تؤكد حصول ناشطين معارضين لمرسي على ملايين الدولارات من أجل زعزعة استقرار البلاد وتقويض حكم مرسي.
وكشف الموقع عن مبالغ مالية استلمها كل من العقيد عمر عفيفي، الشرطي السابق والهارب في الولايات المتحدة، وإسراء عبد الفتاح، الناشطة بحركة 6 أبريل، ومايكل منير، أحد نشطاء أقباط المهجر ورئيس حزب الحياة المصري، وكذلك محمد عصمت السادات؛ وكلهم تلقوا ملايين الدولارات تحت غطاء مساعدات للمنظمات الأهلية والمدنية ولدعم الديمقراطية في مصر.
وأشار موقع الجزيرة إلى أن برنامج وزارة الخارجية الأمريكية، الذي يطلق عليه مسؤولون أمريكيون أنه مبادرة "مساعدة الديمقراطية"؛ هو جزء من جهد إدارة أوباما التي تعمل على نطاق واسع في محاولة لوقف تراجع العلمانيين الموالين لواشنطن، والسعي إلى استعادة النفوذ في بلدان الربيع العربي التي شهدت صعوداً من الإسلاميين الذين يعارضون إلى حد كبير مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وتابع أن المعلومات التي تم الحصول عليها تحت قانون حرية المعلومات، والمقابلات، والسجلات العامة، تكشف عن أن "المساعدة من أجل الديمقراطية" المقدمة من واشنطن ربما تكون قد انتهكت القانون المصري الذي يحظر التمويل السياسي الأجنبي، كما قاموا بانتهاك لوائح حكومة الولايات المتحدة التي تحظر استخدام أموال دافعي الضرائب لتمويل السياسيين الأجانب، أو تمويل أنشطة تخريبية تستهدف الحكومات المنتخبة ديمقراطياً، كما تلقى بعض أعضاء جبهة الإنقاذ، وهي الكتلة المعارضة الرئيسية للرئيس مرسي، تمويلاً من الولايات المتحدة، حيث قاموا بدعم حملات الاحتجاجات في الشوارع التي تحولت إلى العنف ضد الحكومة المنتخبة، في تناقض شديد مع المبادئ التوجيهية الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية[6].
مما سبق يتضح جلياً المصلحة العليا للولايات المتحدة لإسقاط الرئيس مرسي، وكذلك تكشف الوثائق تمويل واشنطن مختلف الجماعات المناهضة لمرسي التي عملت على إذكاء العنف وحرق الأرض من تحت قدميه طوال فترة حكمه، وبالتحديد بعد الإعلان الدستوري الصادر في نوفمبر 2012، والذي مثل انطلاق شرارة الهجوم على الرئيس المنتخب وتقويض دعائم حكمه لصالح مختلف الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، وبات واضحاً من خلال فصول تلك المسرحية التي لم يسدل الستار عنها بعد، أن الولايات المتحدة شريك أساسي في الإطاحة بمرسي، لكن رغم كل تلك المؤامرات، فلا يزال هناك فصل لم يكتمل، حيث لا تزال الجماهير المحتشدة في ميادين مصر تحاول أن تكتب مشهد النهاية، بأن ترفض الانقلاب العسكري، وأن تعيد الشرعية مرة ثانية إلى الشعب المصري، وأن ترفض التدخلات الإقليمية والدولية في إرادة شعب سطرها بدمائه في ثورة يناير 2011.
[1]Morsi’s Wrong Turn, THOMAS L. FRIEDMAN, August 28, 2012: http://www.nytimes.com/2012/08/29/opinion/friedman-morsis-wrong-turn.html?_r=0.
[2] جريدة الوفد المصرية، عدد الجمعة , 31 أغسطس 2012م، بعنوان: «انزعاج أمريكي وصهيوني من زيارة مرسي لطهران».
[3] Bloomberg, «Egypt Seen Buying More Russian, U.S. Wheat on Financial Woes», By Maria Kolesnikova - Apr 17, 2013.
[4] Egypt Independent, «US to export wheat to Egypt», 13/03/2013: http://www.egyptindependent.com/news/us-export-wheat-egypt.
[5] جريدة «الوطن» المصرية: جولات «مرسي» الخارجية تليق بـ «رحالة» أكثر من رئيس جمهورية، 02-07-2013، على الرابط التالي:
[6] Aljazeera, Exclusive: US bankrolled anti-Morsi activists, 10 Jul 2013 :http://www.aljazeera.com/indepth/features/2013/07/2013710113522489801.html.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق