الأحد، 12 يناير 2014

"فرحة الإنجيل" بمعايير متغايرة

"فرحة الإنجيل" بمعايير متغايرة
الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية

فى أول رسالة لاهوتية خاصة (165 صفحة)، تعبّر عن رأى البابا فرنسيس بعنوان "فرحة الإنجيل" (Evangelii Gaudium) ، تم الإعلان عنها والتعليق عليها والتهليل والتمجيد لها بإصرار وإبتهاج شديد ، مثلما يتم مع كل تصرف أو حركة أو فعل من أفعاله.
 فلم يخلو موقع أو جريدة مسيحية أو علمانية لم تمتدح هذا النص أو تلك الشجاعة التى لا مثيل لها للبابا، الذى راح يؤنب المجتمع وينهره ويتهمه لكى يضع حدا للتفاوت الإجتماعى والعنف والإقتصاد التمييزى ، وإقتصاد السوق الذى جعل من النقود الإله الأول ! بل والأكثر من هذا، يواصل البابا فى المطالبة بأنه على الكنيسة أن تعود إلى أصولها، وأن تخضع لإصلاح دائم، لكى تبعد الأسباب الأساسية للفقر. وفى الواقع، إن كل هذه الموضوعات تقع على مسئولية كافة قيادات الدولة والمؤسسات ورجال السياسة.
ومع ذلك، فما من شخص من كل هؤلاء الذين هرولوا للتصفيق والتهليل والإغداق بالمديح على البابا قد تجرأ لأن يسأله كيف يجهل أن مجمع الفاتيكان الثانى (1965) هو الذى قرر الإقتلاع الأهوج للإشتراكية، وهى النظام الوحيد الذى كان يمكنه الوقوف أمام توحش إقتصاد السوق الذى يشكو منه البابا أو أن يهزمه تماما ؟.
 إن مجمع الفاتيكان الثانى قد قرر الإقتلاع الشرس لليسار كمنهج إجتماعى وسياسى. ولم يجروء أحدهم أن يقول لذلك البابا الذى يتغنون به أنه بسبب جهود كلٍ من راتزنجر وكارول فيتيلا (البابوان السابقان) وهما من المعادون لليسار حتى النخاع، قد ساهما فى الإعداد لذلك المجمع الفاتيكانى الثانى، وتفننا لتفكيك أى شكل من أشكال المعارضة داخل الكنيسة، وأديا إلى هدم كل ما هو تقدمى فى لاهوت التحرر. وما من واحد قد تجرأ على قول أنه بسبب ذلك الثالوث المسمى ريجان/يوحنا بولس الثانى/ جورباتشوف قد تم إقتلاع اليسار تماما.
 بل حتى الأموال الطائلة التى تم إنفاقها لتنفيذ ذلك المخطط قد تم الإعلان عنها.
فما من إنسان يجهل كيف قاموا بحرب صليبية كاسحة ضد اليسار أو كيف أن مجمع الفاتيكان الثانى قد أدخل العديد من التعديلات الهيكلية والقانونية والعبادية، لكى لا نقول شيئا عن تبرأة اليهود من دم المسيح، التى أطاحت بحوالى ألفى عام من التاريخ واللاهوت والإجبار. وكلها أحداث معاشة...
ومع ذلك، فإن الملاحظة الأكثر وضوحا فى هذا النص الذى لم يقم أى شخص من أولئك المتحمسين، من كل هؤلاء الذين جرفهم شغف التسابق فى رص العبارات الحارة، لم يجرؤ على التعرض من قريب أو بعيد لتناول جزئية صغيرة من التقسيمة الرابعة للفصل الرابع بهذه الوثيقة، وهى تحت عنوان : "العلاقات مع اليهودية". 
لأن ذلك النص القصير المكون من ثلاثة فقرات تقع فى سبعة عشر سطرا، تهين أساساً كلا من الكنيسة والمسيحية. وأذكر منها تحديدا : 
بند (247) : ـ "لم يتم فسخ العهد مع الرب (...) ، ولا يمكننا اعتبار اليهودية كديانة أنها غريبة عنا ولا وضع اليهود بين الذين مطلوب منهم ترك الوثنيات ليتوبوا إلى الإله الحقيقى" ؛
بند (249) : ـ "(...) وحتى وإن كانت بعض العقائد المسيحية غير مقبولة بالنسبة لليهودية، فإن الكنيسة لا يمكنها التوقف عن إعلان أن يسوع هو الرب وهو المسيح، إذ يوجد تكامل ثرى يسمح لنا بأن نقرأ معا نصوص الكتاب المقدس العبرى وأن نتعاون معا لتعميق ثراء الكلمة وأن نتقاسم الكثير من القناعات الأخلاقية وأيضا الإهتمام المشترك من أجل العدالة وتنمية الشعوب".

فيما يتعلق بالبند 247 :

أولا : من المذهل أن نقرأ بقلم البابا فيما يتعلق باليهود : "أن العهد مع الرب لم يتم فسخه أبدا" ! لأن ذلك "الرب" لم يلعنهم من أجل عصيانهم المتكرر فحسب، لكن هناك خطا فاصلا بين العهدين، عهد قديم وعهد جديد ـ كما تقول النصوص. وطقوس مختلفة، وأشكال متنوعة، ونبؤات بعينها. والعهد القديم قائم على الشرع والأعمال، أما العهد الجديد فهو يعتمد على الإيمان بأعمال المسيح. ولا يمكن الخلط بين الإثنين.
إن الشرع المكتوب، الذى يتضمن الوصايا العشر، تم إستكماله بالشرع الشفهى الذى يتضمن 603 وصية، أصدرتها الملائكة ـ على حد قولهم، وأن اليهود "لم يلتزموا بها" (أع 7 : 53)، والعهد الجديد هو الذى ينص على ذلك. وحتى التلمود ، الذى يتضمن الجومورا والميشناه، كان سببا للخلافات بين الفاريسيين ويسوع. وقد أضاف الكتبة 1500 قانونا لتقنين يوم السبت، وحوالى 1000 قانونا آخرا لتقنين الستمائة وثلاثة عشر وصية (إلهية/ملائكية). وكان الفاريسسون يريدون أن يحترم يسوع التراث القديم (مرقس 7)، بينما هذا التراث لم يمليه الرب ـ كما تقول النصوص الكنسية !
والشرع الجديد اُعطى "بسبب تعديات اليهود وعدم طاعتهم المتكررة" على حد قول يوحنا الحوارى، وقد أضاف بولس موضحا : "لقد تحررنا من الشرع" !! وهو ما تمسكت به الكنيسة حتى مجمع الفاتيكان الثانى... 
إن العهد الجديد يضع حدا واضحا بين وصايا الشرع ووصايا يسوع، ومنذ أن دخل العهد الجديد حيز التنفيذ، فإن العهد القديم قد أصبح لاغيا (إلى العبرانيين 8 : 13). ومع وفاة المسيح ـ كما تقول النصوص ، فإن الشرع القديم قد إختفى ولم يعد له أى سلطة على المسيحيين الذين باتوا يخضعون منذ ذلك الوقت إلى العهد الجديد ، شرع المسيح ، كما كانت تردد الكنيسة.
كما أنه أيام شرع موسى كان بعض الطعام غير طاهر (اللاويين 11)، وتحت العهد الجديد كل الأطعمة باتت طاهرة. أى بعبارة واحدة : لقد اُبطل تطبيق الشرع اليهودى على الذين يؤمنون بيسوع. وإن كان الشرع القديم لا يزال باقيا لكان لزاما على الكنيسة الإلتزام بكهنوت اللاويين !!

ثانيا : إن باقى تلك الفقرة يقول : "ولا وضع اليهود بين اللذين مطلوب منهم ترك الوثنيات ليتوبوا إلى الإله الحقيقى" ، تستحق وحدها ردا يتعدى حجمه حيز المقال بكثير ، لأنها تشير بوضوح إلى كل من اليهود وإلى المسلمين. فمن ناحية ، ذلك يعنى بوضوح : أن اليهود معفون أو مستثنون من التنصير ، وأنه لا يتعيّن عليهم الخضوع لتلك المهانة التى تجبرهم على تغيير دينهم ومعتقداتهم. وهو ما يمس ويلغى تماما الأبواق الصاخبة الرامية إلى تنصير العالم ، والتى يحاولون بها طمس معالم أو التعتيم على المعارك الطاحنة التى تعرضت لها الكنيسة فى مسيرتها ، ولا نذكر هنا سوى آخر أو أهم أكبر تلك المعارك المسماة : "الأصولية والحداثة" التى هزت أركان تلك المؤسسة العاتية. ومن ناحية أخرى فإن العبارة تشير فى نفس الوقت إلى المسلمين الذين هم فى نظر الكنيسة لا يعبدون الإله الحقيقى ويجب عليهم الخضوع لعملية التنصير بأى ثمن ..
ثالثا : تبقى عبارة لافتة فى هذا النص ، ألا وهى : "الكتاب المقدس العبرى" ، على حد قول البابا. فهل يمثل ذلك تنازلا جديدا لصالح اليهود ؟ من المعروف أنه منذ أن تم اختيار عبارة "الكتاب المقدس" لاهوتيا كانت دوما للدلالة على "العهد القديم والعهد الجديد". فالكتب اليهودية لها مسمياتها المحددة. وعندما يتم إضافة كلمة "العبرى" إلى "الكتاب المقدس" فذلك يعنى أن العهد الجديد قد تهوّد فى صمت. وهذه البدعة الجديدة كان من الواجب أن يعلنها البابا صراحة على أتباعه بدلا من تسريبها فى صمت !!

فيما يتعلق بالبند 249 : 
يؤسفنى التعليق على هذه الفقرة لكل ما بها من خدع وتنازلات فجة ، وأن أحدا من تلك الجوقة المادحة لم يتناولها للتعليق عليها. فإن كان البابا أو الكنيسة قد قررا ، ولا ندرى لأى سبب ، عدم تنصير اليهود ، فما معنى كل تلك الشعارات الطنانة المنادية "أن يسوع هو الطريق" ، و "هو الإله الحقيقى" ، و "سبيل الخلاص الوحيد" ، و" النبأ السعيد" ، أو "أنه السلام بعينه" الخ ، الخ ؟! فلأى سبب يتم إعفاء اليهود من التنصير أو من التنصير الجديد ـ كما يطلقون عليه ، ومن كل ذلك الضجيج الذى جيّشت له الكنيسة كل أتباعها ووسائل إعلامها وكل إمكاناتها السياسية والإجتماعية والمالية لتنصير العالم ؟؟ وهنا لا بد من طرح سؤال واضح :
بصفتهم من الآدميين ، هل هؤلاء اليهود الصهاينة لهم قيمة أكبر، فى نظر البابا ، من الفلسطينيين أصحاب الأرض الحقيقيين، الذين يحتضرون فى سجن مفتوح ويخضعون لعملية قتل عرقى عنيد ومتعمّد ، تحديدا بسبب هؤلاء الذين استولوا على أرض فلسطين والذين لا تكف الكنيسة حيالهم عن تقديم الإنحناءات والتنازلات ؟ كيف يمكن للبابا التحدث عن الأخلاقيات والعدالة أو تنمية الشعوب حينما لا يكف عن استخدام التحريف والخدع والتنازلات ؟!
وإذا ما استعرضنا مواقف البابا فرنسيس حيال اليهود أو الصهاينة ، منذ اليوم الأول لإنتخابه ، مرورا بكل تصرفاته وتعبيراته وخطبه ، لا يمكننا إلا أن نتوقع كارثة حقيقية عند زيارته لإسرائيل وبيت لحم والأردن، من 24 الى 26 مايو المقبل ، وفقا لما أعلنه هو شخصيا يوم الأحد 5 يناير 2014، من أجل "حوار بين الديانات التوحيدية الثلاثة"...
ألا تقتضى الأمانة والعدالة أن يذهب البابا أيضا لزيارة قطاع غزة، ليشاهد بنفسه نتيجة أفعال ما قام به أصدقائه الصهاينة ؟

6 يناير 2014
"La Joie de l’Évangile" à Géométrie Variable…

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق