الاثنين، 17 مارس 2014

فتوى.. إسقاط الخلافة العثمانية


فتوى.. إسقاط الخلافة العثمانية

يخفى على كثير من الناس أن من أهم عوامل إسقاط الخلافة الإسلامية العثمانيةاستخراج فتوى من مفتي السلطنة آنذاك بجواز خلع الخليفة عبدالحميد الثاني يرحمه الله تعالى، وهو أمر لافت للنظر، هل كان الانقلابيون على خلافة الإسلام بحاجة إلى فتوى حتى يجدوا مسوغاً لهم لتمرير عملهم الخبيث من إسقاط خليفة المسلمين وإنهاء الخلافة الإسلامية في بلاد المسلمين، فتتبدل بلاد المسلمين من كونها وحدة واحدة لخلافة واحدة إلى دويلات متشرذمة؟
والجواب: نعم، لأنهم يدركون أثر الدين والفتوى على عموم المسلمين، فلابد من وجود من يضلل الناس باسم الدين، ويخبرهم أن ما يُفعل لا يتعارض مع شريعة الله، وإن خرج علماء يفتون الناس بأن الانقلاب على الشرعية حرام شرعاً، فهناك من العلماء من يبيع دينه ويفتي الناس بأنه حلال، فيضل الناس بعلم، فيبوء بإثم الأمة جميعاً، وهو في الآخرة من الخاسرين.
نص الفتوى التي قالها مفتي الخلافة العثمانية محمد ضياء الدين أفندي بجواز خلع السلطان عبدالحميد الثاني، هي
إذا قام إمام المسلمين زيد فجعل ديدنه طي وإخراج المسائل الشرعية المهمة من الكتب الشرعية، وجمع الكتب المذكورة، والتبذير والإسراف من بيت المال، وإنفاقه خلاف المسوغات الشرعية، وقتل وحبس وتغريب الرعية بلا سبب شرعي، وسائر المظالم الأخرى، ثم أقسم على الرجوع عن غيه، ثم عاد فحنث وأصر على إحداث فتنة ليخل بها وضع المسلمين كافة، فورد من المسلمين من كافة الأقطار الإسلامية بالتكرار ما يشعر باعتبار زيد هذا مخلوعاً، فلوحظ أن في بقائه ضرراً محققاً وفي زواله صلاحاً، فهل يجب على أهل الحل والعقد وأولياء الأمور أن يعرضوا على زيد المذكور التنازل عن الخلافة والسلطنة أو خلعه من قبلهم؟! 
الجواب: نعم اجتماع مشترك وقد قرئت الفتوى في الاجتماع المشترك للمجلس (المجلس الملكي، مع مجلس حركة الاتحاد والترقي)، فصرخ النواب الاتحاديون: «نريد خلعه، نريد خلعه»، فقام سعيد باشا الصغير - الذي رباه السلطان عبدالحميد، وهو صغير، فخانه بعدما كبر - وهو على كرسي رئاسة المجلس، وقال: أيها السادة، هل توافقون على هذه الفتوى الشرعية التي تقضي بخلع السلطان عبدالحميد الثاني من الخلافة والسلطنة؟
ولما كثرت الهمهمات بينهم طلب من الموافقين الوقوف، فوافق المجلس على الخلع يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شهر أبريل 1909م.
ويلاحظ أولاً أن السؤال جاء طويلاً به مسوغات عديدة، والفتوى جاءت بكلمة واحدة هي: «نعم»، وهذا دليل على أنها فتوى موجهة؛ لأن من أدب الإفتاء أن يذكر المفتي أدلته على حكمه، ويشرح ما يبين صحة فتواه خاصة فيما يتعلق بالمسائل الكبرى التي تتعلق بالأمة وحياة المسلمين ومستقبلهم، لكن الفتوى كانت بكلمة واحدة «نعم».
مسوغات الخلع أما المسوغات التي ذكرت في السؤال، فهي لافتة للنظر، فقد جاء في السؤال اتهام خليفة المسلمين بأنه يهتم بطباعة كتب المسائل الشرعية وتبذير المال فيها، فهل طباعة الكتب الشرعية تبذير؟ ولماذا ذكرت طباعة الكتب وحدها دون غيرها؟ 
ومن الاتهامات الموجهة إعلامياً للخليفة أنه أحدث فتنة في الأمة، دون أن توضح تلك الفتنة، وما طبيعتها، لكنهم يقولون: إنه فرق بين الأمة، وأضر بمصلحتها، وعقد اتفاقات مخالفة للمصالح الوطنية، ثم من المسوغات المذكورة أنه جاء من بلاد الإسلام ما يشعر بخروجهم عن طاعته، ورفضهم لبقائه خليفة للمسلمين، وأن في بقائه ضرراً محققاً على الشعب، وأن في خلعه مصلحة للناس، فهل يجب على أهل الحل والعقد وأولياء الأمور أن يعرضوا على زيد المذكور التنازل عن الخلافة والسلطنة أو خلعه من قبلهم؟! ويلاحظ هنا أن الأمر جاء بأنه يجب على أهل الحل والعقد وأولياء الأمور، وليس يجوز بل يجب عليهم، إما أن يعرضوا عليه التنازل عن الحكم أو يخلعوه هم؟ 
فجاءت الفتوى بنعم، وصوَّت المجلس عليه، بعد أن قام النواب الاتحاديون، أصحاب الاتجاه العلماني بأنهم يريدون خلع الخليفة. التاريخ يعيد نفسه وكأن التاريخ يعيد نفسه، فقد قام شيخ الأزهر أحمد الطيب بالإفتاء بجواز خلع رئيس جمهورية مصر العربية المنتخب - د. محمد مرسي- استناداً إلى قاعدة أخف الضررين، وكانت المسوغات أن الرئيس يريد أن تكون مصر دولة إسلامية (وفي الفتوى العثمانية أنه يهتم بطباعة كتب الشريعة)، وأنه فرق الشعب المصري، وهو نفس المبرر، وأن في بقائه ضرراً محققاً، وهو مبرر مشترك، وأن في زواله صلاحاً، وهو نفس الأمر في الحالتين، وأنه يعرض عليه خلع نفسه أو يخلع، وهو نفس الشيء الذي حصل في الحالتين، وأن من قاد الحملة في خلع الخليفة هم الاتحاديون، وفي مصر العلمانيون والليبراليون، والأصول واحدة. فهل اطلع الليبراليون والعلمانيون على الفتوى، أم أن ما فعلوه هم وأسلافهم من الاتحاديين الأتراك يخرج من مكان واحد وفكر واحد، هو حرب الإسلام، ومحاولة صبغ بلاد المسلمين بالفكر العلماني كما صنعت تركيا الحديثة وما تبعه من تغيير كامل لمظاهر الحياة في الخلافة العثمانية؟
تغيير وجه مصر وهل يتنبأ أن ما قام به الاتحاديون الأتراك سيفعله الليبراليون والعلمانيون - بمساعدة المجلس العسكري والشرطة والقضاء والإعلام - من تغيير وجه مصر الإسلامي، إلى أن تكون مصر دولة ليبرالية، وإن كانوا لا يمانعون أن يكون دينها الإسلام، وأنه لا بأس بإقامة الصلوات في المساجد، والفرح بالأعياد، والسماح للناس بحج بيت الله الحرام، لكن سيحاربون بعض المظاهر الإسلامية، لأنها بفكرهم مظاهر متطرفة لا تمثل الإسلام، فهم يريدون مصر إسلامية على الطريقة الليبرالية التي يحبون أن يكون المسلمون عليها لا كما أراد الله تعالى، علماً بأن تركيا بعد إسقاط الخلافة العثمانية وتحويلها إلى دولة تركيا لم تسقط مكانة المفتي والمشيخة، بل ظلت كما هي، لأنهم دائماً في حاجة إليها، وهذا يفسر لنا أن بقاء الأزهر - من خلال قادته - ليقوم بدوره في خدمة سلطة الانقلاب أمر محتم، فلن يفكر الانقلابيون بتوجيه ضربة للأزهر مادام يقول لهم: «نعم» في كل ما يريدون، ولا بأس بالتوسع في المؤسسة من الناحية الإدارية حتى تملأ البطون وتسكت الأفواه، لكن الذي لم يكن يخطر ببال الاتحاديين الأتراك أنه سيجيء يوم وينتهي كل ما فعلوه، رغم القبضة الحديدية للجيش التركي على الدولة ودوره الرئيس في حماية علمانيتها.
ظروف مغايرة ثم إن من يخطط للانقلاب لم يدرك أن الزمن تغير، وأن ظروف مصر ليست كظروف تركيا، وإن تشابهتا في كثير من الأمور، لكنه من المهم أن نقرأ دور الدين المُسيَّس في حرب الإسلام، وإن حاول الانقلابيون تشويه صورة من يدافع عن الإسلام، ويحاولون - زوراً وبهتاناً - أن يقولوا للناس: هناك فرق بين الإسلام والإسلاميين، وهو حق أريد به باطل، لكن من المهم أن يدرك الناس أن الإسلام ليس مجرد شعارات ترفع، وأفكاراً تكتب، فلابد للإسلام من أناس يعيشون له وبه، ويدافعون عنه، والأمر - في النهاية - كما قال ربنا سبحانه: "إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ {20} كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ {21}" (المجادلة).
وهذا الدفاع هو دفاع عن الإسلام ومن يقوم به، فإن حادوا عن طريق الحق، وجب علينا جهادهم ومخالفتهم، لكن ما لم يثبت لنا ذلك، فالواجب علينا نصرتهم؛ لأن في نصرتهم نصرة للدين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق