السبت، 29 مارس 2014

الشعوب الإسلامية تمرض....لكنها لا تموت

الشعوب الإسلامية تمرض....لكنها لا تموت

الشيخ الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين

إن هذه الأمة تَمْرض لكنها لا تموت...تغفو لكنها لا تنام...تخبو لكنها لا تنطفئ

أمتنا تضعف...ولكن لا تنتهي...أمتنا شروق لا غروب

محاولة القضاء على هذه الأمة عبر العصور، والهجوم عليها دليل حياتها - خلود الإسلام والقرآن بخلود الأرض والبشرية

ماذا أفعل إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟!

لماذا هذه الأمة لا تموت؟!!!!

إننا بإزاء أمة لا تموت، وحضارة كتب لها البقاء، لماذا؟

لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة

الدين وهذه الشعوب الإسلامية باقية لما للأسر المسلمة والحركات الإصلاحية من تأثير في المجتمع الإسلامي

الأسرة من المنظور الإسلامي أعظم بناءٍ يشيّده الإنسان في حياته، وأفضل عملٍ يقوم به خلال مسيرته الحياتيّة

أوجدت حركاتُ الإصلاح الدينيّ آثارها الملحوظة في الحياة بمُختلف ميادينها الفكرية والاجتماعية والسياسية، وفي الفكر الدينيّ في شتى ميادينه ومُحاولة رد أصوله إلى الإسلام

تمثّل غزوة الأحزاب أول محاولة لاستئصال المسلمين والقضاء نهائيا على دولتهم

وفي العصر الحديث ابتليت الأمة بالاحتلال الأجنبي لأراضيها وذهاب سيادتها وطمس هويتها وشخصيتها

يقول بات بوكانان، وهو جمهوري أمريكي محافظ: «الحقيقة هي أن ثبات الإسلام وقدرة الاحتمال لديه شيء مبهر حقاً.فقد تمكن الإسلام من البقاء على الرغم من قرنين من الهزائم والإذلال

من رحم البلاء يولد الفرج والمؤمن يطمئن لنصر الله أن المستقبل لهذا الدين بلا منازع، لكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية، وانما هو بالعمل والبذل والدعوة الى الله من مُنْطَلقات صحيحة على منهج أهل السنة والجماعة

إن هذه الشعوب الإسلامية فيها من الخير والأصالة ما يجعلها تراجع سيرها وتقيم ذاتها وتعاود انطلاقتها من رؤية حضارية ودينية إسلامية أصيلة



الحمد لله الجاعل بعد العسر يسرا، الواعد المؤمنين خلافة في الأرض ونصرا، والصلاة والسلام على المبشر النذير، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وبعد…
تمر الأمم والشعوب خلال تاريخها الطويل بمراحل متباينة ومختلفة، فتارة تكون في عنفوانها وقوتها، وتارة أخرى يصيبها الفتور ويعتريها الضعف والانهزام، وهذا كله خاضع لسنة الله تعالى في كونه وقضائه، فقد قضى ربنا سبحانه وتعالى بحكمته ان تعصف بهذه الأمة المحن والفتن، التي تضعفها أحيانا وتوهنها، قال تعالى مقررا ذلك: {أَحَسِبَ النَّاسُ ان يُتْرَكُوا ان يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ*}(1)، وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}(2)، وقال تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}(3)، ان هذه الدنيا دار الْتِواء لا دار اسْتِواء، ومنزِل تَرَحٍ لا منزل فرح، فَمَن عرفَها لم يفْرَح لِرَخاء، ولم يحْزن لِشَقاء، وجعلها الله دار بلْوى، وجعل الآخرة دار عُقبى فجَعَلَ بلاء الدنيا لِعَطاء الآخرة سببًا، وجعل عطاء الآخرة من بلْوى الدنيا عِوَضًا، فيأخُذ لِيُعْطي ويبْتلي ليُجْزي.
وان أمتنا تمرض ولكن لا تموت، وأمتنا تضعف ولكن لا تنتهي ولا تنهزم..أمتنا شروق لا غروب..أمتنا أمة الخير والخيرية، والقرآن محفوظ من الله، والسنة المطهرة محفوظة، والإسلام قادم لا محالة، وعند اللحظة الفارقة الكبرى لن تختار البشرية الا الإسلام.

لماذا هذه الأمة لا تموت؟!
اننا بازاء أمة لا تموت، وحضارة كتب لها البقاء، لماذا؟
أولاً: لأن خلود الإسلام والقرآن بخلود الأرض والبشرية...قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}(4)، وورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- ان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ان مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله الا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون ويقولون: هلا وضعت اللبنة.قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)(5)، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء ودينه خاتم الشرائع، ومكمّل الرّسالات، فهو الدين الخالد، وخلود رسالة الإسلام هو استمرار بقائها وامتدادها ما دامت البشرية تواصل حياتها على سطح هذا الكوكب.
وقد تكفل الله تعالى بحفظه وحمايته من الزوال، وبقاء هذا الدين محفوظا في كل زمان، تكفل بذلك رب العزة سبحانه حتى تبقى حجته قائمة على العباد، قال الله تعالى: {انَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَانَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(6)، وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}(7)، وهذا الظهور ليس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فحسب بل في كل الأزمان، وعن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)(8)، وقال تعالى: {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(9)، وقال صلى الله عليه وسلم: (انَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)(10)، وهذا من الأدلة الواضحة على ان الدين محفوظ فمهما اندرست معالم الحق وانمحت رسوم السنة، فان الله تعالى يغرس غرسًا يستعملهم في طاعته، من العلماء والأمراء والمجاهدين والعباد وغيرهم من يجدد لها أمر دينها.
ومهما سعى أعداء الإسلام جاهدين في محاربته، وطمس معالمه، وأذية أهله ومطاردتهم، فلن يقف مدده، وسوف يظهر نوره، ويمتد أثره، ويبقى ما بقي الليل والنهار، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة)(11).
ثانيا: لأن الإسلام دين الفطرة...صالح لكل زمان ومكان: خلق الله الإنسان على الفطرة السليمة النقية بحيث لو ترك وشأنه متجردا من الهوى، وبدون مؤثرات خارجية تبعده عن هذه الفطرة السوية لهُدي الى الإسلام لأن الإسلام هو دين الفطرة السليمة التي لم تتدنس بعد. قال تعالي: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(12)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود الا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )(13)، ولقد اختار الله لهذه الأمة الفطرة النقية، وجعلها أخص خصائص دينها، وهدى نبيها صلى الله عليه وسلم الى الفطرة، ففي حديث الاسراء، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتيت باناءين أحدهما لبن والآخر خمر فقيل لي خذ أيهما شئت فأخذت اللبن فشربته فقيل لي هديت للفطرة أو أصبت الفطرة أما انك لو أخذت الخمر غوت أمتك)(14)، فدين الإسلام جاء ليخرج الناس من عبادة العباد الى عبادة ربّ العباد، ومن ضيق الدنيا الى سعة الآخرة، ومن ظلمات الشرك الى نور التوحيد، ومن شقاء الكفر الى سعادة الايمان، دين صالح لكل زمان ومكان، دين وسط جاء بالعلم النافع والعمل الصالح، فجاء هذا الدين بتحريم الكذب في الأقوال والزور في الشهادة، والظلم في الأحكام، والجور في الولاية، والتصفيف في المكيال والميزان، والبغي على الناس والاعتداء على الغير والاضرار بالنفس والناس، فحفظ القلب بالايمان، والجسم بأسباب الصحة، والمال من التلف، والعرض من الانتهاك، والدم من السفك، والعقل من اذهابه وتغييره.
ثالثا: هذا الدين وهذه الشعوب الإسلامية باقية لما للأسر المسلمة والحركات الإصلاحية من تأثير في المجتمع الإسلامي: فلا شك ان أهم أهداف التربية قديماً وحديثاً، هو ايجاد الفرد الصالح النافع لنفسه وأمته، ولاشك ان الأسرة أهم المؤسسات التربوية وأولها، حيث تبدأ مشوار التربية بحياة الفرد، وهي المسؤول الأول عن استقامته أو انحرافه...
ولا يخفى على أحدٍ ان الأسرة تؤدي دوراً مهما جدا في حياة الإنسان الفرديّة والاجتماعية، وعلى الصعيدين: الديني والدنيوي، ولها الأثر الأكبر في توجيهه نحو الخير أو الشر.والأخذ بيده الى حيث السعادة أو الشقاء.
يقول العقّاد: «فمن عادى الأسرة فهو عدوّ للنوع الإنساني في ماضيه ومستقبله ولا يُعادي الأُسرةَ أحدٌ الاّ تبيَنتْ عداوته للنوع الإنساني من نظرته الى تاريخ الأجيال الماضية.كأنه ينظر الى عدوٍّ يُضمر له البغضاء.ويهدم كل ما أقامه من بناء.وما من سيئةٍ تحسب على الأسرة بالغة ما بلغت سيئاتها من الكثرة والضرر مسوّغة لمحب بني الإنسان ان يهدم الأسرة من أجلها.ويعفى على آثارها»..حتى يقول بعد: «لا أُمّة حيث لا أُسرة..بل لا آدميّة حيث لا أسرة»(15).
والأسر المسلمة مازالت تربي على هذا الدين الحنيف حيث يربي الآباء الأبناء على الوعي السليم، والقدوة الرشيدة، ومن الثابت في الأدبيات الاجتماعية ان الأسرة المسلمة منذ بداياتها الأولى وحتى اليوم كانت لها آثار دينية وخلقية وتربوية فهي التي كانت تضع النظم الخلقية وقواعدها السلوكية وتفصل أحكامها وتوضح مناهجها وتقوم بحراستها، وهي التي كانت تميز الخير من الشر والفضيلة من الرذيلة وترسم مقاييس الأخلاق.
فالأسرة مهمة جدا في الحياة، بل لا نُغالي ولا نعدو الحقيقة اذا قلنا: أنه لا يُوجد في حياة الإنسان ما هو أهمّ منها على الاطلاق.
والأسرة من المنظور الإسلامي أعظم بناءٍ يشيّده الإنسان في حياته، وأفضل عملٍ يقوم به خلال مسيرته الحياتيّة.
وهكذا نرى ان الأسرة هي المدرسة الأُولى للتربية والتعليم، كما أنها حجرُ الأساس في اعداد أطفال اليوم ليكونوا شبابَ الغد ورجالَ المستقبل.
كما ان تأثير حركات الإصلاح الديني لها الدور الأكبر في المحافظة على هذا الدين، وقد أوجدت حركاتُ الإصلاح الدينيّ آثارها الملحوظة في الحياة بمُختلف ميادينها الفكرية والاجتماعية والسياسية، وفي الفكر الدينيّ في شتى ميادينه ومُحاولة رد أصوله الى الإسلام.

محاولة القضاء على هذه الأمة عبر العصور
إن الأمة الإسلامية على مدى تاريخها الطويل مرت بمراحل عصيبة كادت ان تعصف بها وتقتلعها من جذورها، ولكنها بمدد من الله وعون تجاوزت كل تلك الصعوبات وتغلبت عليها، وأثبتت أنها بركونها الى باريها تكون قد آوت الى ركن شديد.
وأمّتنا لن تموت على الرغم من ما يثخن جسمها من جراحات وما يعتري طريقها من عقبات حسام لأنّها تحمل في داخلها عوامل البقاء، ولنكتف في التدليل على ذلك بشهادة التاريخ، ونستعرض للتاريخ لنرى كم مرة كبا جواد هذه الأمة، ثم بعد هذا قام وتابع مسيره، فهذه الأمة قد تضعف...قد تمرض، لكنها أبدًا لا تموت.
وتمثّل غزوة الأحزاب أول محاولة لاستئصال المسلمين والقضاء نهائيا على دولتهم الوليدة المتمثلة في المدينة المنورة، فقد تكوّن حلف يضمّ كل القبائل العربية مع اليهود والمنافقين المناوئين للإسلام وأعلنوا نيّتهم في التخلّص من هذه «الأمة» لكن هذه «الأمة» تحمّلت الحصار والخيانة وتصدّت للعدوان بكل ما تملك فاندحر العدوان بتأييد من الله تعالى.
وبعد وفاة الرسول _صلى الله عليه وسلّم_ واجهت الأمة محطّة خطيرة ثانية تستهدف كيانها هي ارتداد بعض القبائل العربية بشكل يهدّد بقاء الأمة ككيان لكن الصحابة بقيادة أبي بكر _رضي الله عنه_ تصدّوا لهذه الظاهرة بكل حزم كخيار وحيد للحفاظ على وجود الأمة، وانتصروا.
وبعد قرون من ذلك وجدت الأمة نفسها أمام امتحان عسير لمحاولة القضاء عليها نهائيا، حيث هجم الصليبيون من الغرب واجتاح التتار بلاد الإسلام من الشرق، وارتكبت أبشع جرائم حرب طوال فترة من الزمن ليست بالقليلة، وكان لهم من القوة أمام الأمة الضعيفة المنهكة ما جعل الناس يرفعون شعار «من قال لك ان التتار انهزموا فلا تصدقه» مما يدل على انهيار نفسي، وفي الحملات الصليبية التي استمرت قرابة (200) عام في موجات لم تهمد أو تهدأ الا على يد صمود إسلامي، عبّرت عنه الأمة بكامل قوتها وطاقتها شعوباً وقادة، فهبّت الأمة وتحرّكت وأعدّت العدة وخاضت المعارك الكثيرة وطردت الغزاة واسترجعت المسجد الأقصى وباقي البلاد في الشام وغيرها.
وفي العصر الحديث ابتليت الأمة بالاحتلال الأجنبي لأراضيها وذهاب سيادتها وطمس هويتها وشخصيتها حتى ان بلاداً كالجزائر مثلاً غدت جزءً من «الوطن الأم» أي فرنسا التي تحتلها ولم تعد العربية لغتها وحاول الاحتلال طرد الإسلام منها، وقد ظنّ الكثير ان الاحتلال الغربي قضى على الأمة نهائياً لكن الحياة دبّت فيها بعدما اعتقد أعداؤها أنّها ماتت وقامت الثورات وحروب التحرير وعمّ الجهاد أرجاءها وسقط الشهداء بالملايين وأخرجت المحتلّ واستعادت استقلالها السياسي، وخير مثال على ذلك مشهد تلك الفتيات الجزائريات خلال فترة الاستعمار الفرنسي البغيض للجزائر، فبعد ان قتل الفرنسيون أهليهن في الجزائر وأخذوهن الى فرنسا وهن طفلات صغيرات، وتم ايداعهن في مؤسسات تعليمية فرنسية، بهدف اجراء عملية غسل دماغ لهن وغرس المفاهيم والسلوكيات المتحررة والعلمانية، حتى اذا كبرن عدن الى الجزائر ليكن هناك سفيرات للفكر والقيم الفرنسية في مواجهة الفكر والقيم الإسلامية والوطنية الجزائرية، ولما بلغن الثامنة عشرة وتم الاعداد لاحتفال كبير في باريس يحضره وزير المستعمرات الفرنسي، فيه يتم تخريج تلك الفتيات الجزائريات المتفرنسات، وكانت المفاجأة المذهلة، حيث انه ولما كانت القاعة تغصّ بالحضور الرسمي الفرنسي، استعدادا لكشف الستار عن مجموعة الفتيات المتفرنسات باللباس الفاضح، واذا بهؤلاء الفتيات فعلا يخرجن ولكن باللباس الجزائري التقليدي الوطني، الذي تلبسه النساء الجزائريات، وبدل التصفيق الحار فقد سيطر على القاعة الوجوم والذهول.
وفي اليوم التالي راحت الصحف الفرنسية تشنّ حملة على الوزير وفشله في بثّ الفكر العلماني التحرري في أوساط الجزائريين، أما هو فقد ردّ عليهم بجملته المشهورة (ماذا أفعل اذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟!) 
يقول بات بوكانان، وهو جمهوري أمريكي محافظ: «الحقيقة هي ان ثبات الإسلام وقدرة الاحتمال لديه شيء مبهر حقاً.فقد تمكن الإسلام من البقاء على الرغم من قرنين من الهزائم والاذلال...لقد تحمل الإسلام أجيالاً تعاقبت على الحكم، واقتبست النمط الغربي، برغم ذلك صمد الإسلام أمام الملوك والحكام التابعين للغرب، بل وتصدى الإسلام بسهولة للشيوعية...وبرهن على قدرته على التحمل أكثر من الوطنيات التي سادت في العالم العربي.وما نراه الآن هو ان الإسلام يقاوم الولايات المتحدة آخر قوة عالمية كبرى...وطالما تمكنت فكرة الحكم الإسلامي من السيطرة على الشعوب الإسلامية، فلن يتسنى آنذاك لأضخم جيوش الأرض الحيلولة دون ذلك».
بكل هذا أثبتت الأمّة أنها تحمل عوامل البقاء، وانما تصيبها الآلام وتنزل بها النكبات فتدفع العرق والدم، بل قد تتراجع وتسقط وتخلد الى القعود وتغيب عن ميادين العطاء الإنساني والشهود الحضاري، وقد تأتي عليها فترات يكثر فيها عدوها ويقل نصيرها حتى يتراءى للنظر السطحي أنها آيلة الى البوار والفناء لكنّها تحيى دائماً بعد موات كما يشهد التاريخ، وهذه المعاني يجب علينا استحضارها ونحن نعيش هذا الظرف العصيب الذي استأسد فيه اليهود يسندهم الاستكبار العالمي ويشجّعهم المنافقون الّذين يعيشون بيننا بل ويتولّون أمورنا ويتكلّمون باسم أمّتنا.

من رحم البلاء يولد الفرج والمؤمن يطمئن لنصر الله
روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة أو الرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب» وفي رواية عن البيهقي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بشر هذه الأمة بالتيسير بالسناء والدين، والتمكين في البلاد والنصر، فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب»(16).
لقد جعل الله في كلِّ محنة منحة، ومن رحم البلاء يُولد الفرج، وبعد الغروب شروق، ولكل ليل نهاية، فالأمة حية ولن تموت وها هم أبناؤها في كل زمن يخرجون من بطن الحوت ومن بين أنياب الطاغوت ومخالب الجبروت، يخرجون معلنين للعالم ألا سكوت على الظلم ولا صبر على الظالمين، ولابد من التغيير.
واذا كان هذا الوقت هو وقت اشتداد الأزمة، فان الأزمات مصنع الرجال، والرخاوة والرفاهية لا توجِد الا أشباه الرجال وطغام الأحلام.
والمؤمن لا يعرف اليأس، ولا يفقد الرجاء، اذ هو واثق بربه، ثم هو واثق بحق نفسه، ثم واثق بوعد الله له، ان مرت به مِحْنة اعتبرها دليل حياة وحركة، فان الميت الهامد لا يُضرب ولا يُؤذى، وانَّما يُضْرب ويُؤْذى المتحرك الحي، المُقَاوم كالحديد، يدخل النار فيستفيد، اذ يذهب خبثه، ويبقى طيبه.
انَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حصل في أحد ما حصل، شُجَّ وجهه، وكُسِرت رباعيته، وانْخَذل عنه من انخذل، واذا به يزيل الآثار النفسية من قلوب المؤمنين بنقلهم الى مواجهة جديدة في حمراء الأسد لملاحقة المشركين الذين لو كانوا حقاً منتصرين لما ولوا الأدبار قافلين، ولقضوا على البقية الباقية من المسلمين، وهذا يدل على حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأبو بكر رضي الله عنه يأتي من بعده وقد تربى على سنته، بعد ان كادت نواة الإسلام تضيع في طوفان الردة، فاذا به ينقل الأمة نقلة فذة من واقع الى واقع، في تأبٍّ على اليأس، وترفعٍ على الهزيمة ان المستقبل لهذا الدين بلا منازع، لكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية، وانما هو بالعمل والبذل والدعوة الى الله من مُنْطَلقات صحيحة على منهج أهل السنة والجماعة، ووعد الله لن يتخلف، ولكنه لن يتحقق أبداً على أيدي أقوام لا يستحقونه، ولا يفهمون سننه، ولا يضحون من أجله، فالله تعالى يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(17).
الهجوم عليها دليل حياتها، ان هذا الهجوم الكبير على الإسلام والمسلمين في الشرق والغرب يؤكد ان الأمة الإسلامية حية، ولو ان الأمة ميتة، ما ضربها أحد أو هاجمها أحد.وان هجوم الغرب علينا وعلى ديننا دليل على صحوتنا، كما ان العداء والهجوم على الإسلام وتشويه صورته هو أمر طبيعي منذ نزول «اقرأ»، وحتى تقوم الساعة، ولنعلم أنه اذا لم يحدث عداء أو هجوم فهذا يدل على ان الأمة ميتة وكل ما يحدث من هجوم ومحاربة هذا أكبر دليل على صحوتها.

عوامل استيقاظ الأمة
واذا كنا قد قررنا بأن هذه الأمة لا تموت، وأنها محفوظة من الله تعالى، فان هذا لا يعني أننا في معزل عن المسؤولية في حفظها، فربنا سبحانه وتعالى سوف يحفظ هذا الدين بنا أو بدوننا، ولكن يجب ان يكون لنا فضل وثواب الذب عن دينه والحفاظ على شرعه، وان المتبصر يدرك ان العاملين الهامين في استيقاظ الأمة وصحوتها يتمثلان في:
-1 عامل داخلي بين ظهراني الأمة: وهو عمل أبنائها الدؤوب والظاهر والصادق من أجل نهضتها، وعودتها خير أمة أخرجت للناس...هؤلاء الدعاة المستنيرون الواعون على قضايا الإسلام، والعارفون بما يجب على الأمة ان تسير فيه ان هي أرادت الانبعاث من جديد.فهؤلاء الدعاة السياسيون من أبناء الأمة كلها يحققون اليوم نجاحاً عظيماً في استنهاض الأمة، والسير بها لما يريد الإسلام من وحدة سياسية، وتحكيم لأنظمته بعد التخلص من دويلات الذل والهزيمة.
-2 عامل خارجي: وهو التعامل الحكيم والحصيف والواعي مع الهجمات الغربية وغيرها للإسلام والعاملين له.وهذا عامل كشف للأمة أعداءها أكثر، وجعلها تعرف ما الذي يعزها ويرفعها، وجعلها تعرف طريق الخلاص وأسباب نهضتها.
إن هذه الشعوب الإسلامية فيها من الخير والأصالة ما يجعلها تراجع سيرها وتقيم ذاتها وتعاود انطلاقتها من رؤية حضارية ودينية إسلامية أصيلة.



الهوامش:
ـ سورة العنكبوت (1ـ2).
2 ـ الشورى: 30
3 ـ الأحزاب: آية 11
4 ـ الأحزاب: الآية 40
5 ـ رواه البخاري ومسلم.
6 ـ الحجر/9
7 ـ الفتح/28
8 ـ متفق عليه.
9ـ يوسف: 21
10 ـ رواه أبو داود (برقم/4291) عن أبي هريرة رضي الله عنه, وصححه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (149)، والألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم/599).
11 ـ رواه مسلم برقم (1922).
12 ـ الروم : 30
13 ـ رواه البخاري ومسلم
14 ـ صحيح الترغيب والترهيب 7/130,انظر حديث رقم : 5468 في صحيح الجامع.
15 ـ حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: ص147-148.
16 ـ رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه والبيهقي ، ورجال أحمد رجال الصحيح.
17 ـ النور: 55

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق