الأحد، 30 مارس 2014

أعود إلى الكتابة والقرّاء الذين خذلوني!



أعود إلى الكتابة والقرّاء الذين خذلوني!
شريف عبدالغني

«اكتب على ضمانتي»..
تلك كانت العبارة التي خرجت بها من لقائي مع مسؤول إعلامي كبير، عرف بأمر توقفي عن الكتابة بعد الضغوط التي تعرضت لها، والتحريات والمراقبة والتنصت على هاتفي. الفعل في بداية الجملة فعل أمر، والضامن هو المسؤول، وكل من يقرأ لي الآن شاهد، ولو حصل لي حاجة ذنبي في رقبة الجميع!
الرجل صاحب تاريخ معروف في مساندة الحريات، وأكون قليل الذوق والتاريخ لو لم أثق في كلامه. 
قال إن مصر ستظل دولة قانون، ولن يلاحق فيها كاتب على رأيه أو صحافي على عمله المهني.
سألته: طيب ماذا عن إغلاق القنوات المعارضة للسلطة الجديدة من أول لحظة.. وعن اعتقال وملاحقة عدد كبير من الصحافيين؟
قال: هات لي اسم أي صحافي أو كاتب معتقل لسبب مهني، وسنجري الاتصالات اللازمة للإفراج عنه.
عددت له بعض الأسماء، فقال إن هؤلاء ألقي القبض عليهم لأسباب ليست خاصة بالمهنة، وإنما لأسباب تخالف القانون، فمثلا صحافية تظاهرت من دون ترخيص، وأخرى ضربت ضابط شرطة بـ «القلم»!
قلت إن السلطة تزج أسماء الصحافيين في قضايا جنائية، لتبرر أمام الرأي العام العالمي اعتقالهم، وحتى لا يقال إنها ضد حرية التعبير.
قال: ليس الأمر هكذا.. نحن في دولة قانون، ونمر بظروف استثنائية ستنتهي فور استقرار الأوضاع وانتخاب رئيس جديد للبلاد..
قلت: يعني أكتب عادي بلا خوف؟
أجاب: طبعا.. ولماذا تخاف ما دمت لا تمارس عملا مخالفا للقانون. الكتابة عمل لا عقوبة عليه، والنقد محل احترام من جميع المسؤولين، طالما لا يدخل في نطاق السب والقذف.
إذن.. بعد «نفحة الحرية» هذه، وذاك الوعد، ها أنا ذا أعود للكتابة في «العرب» صاحبة الفضل عليّ.
15 يوما كاملة لم أكتب خلالها حرفا. أشعر أن يدي ثقيلة على الكتابة، أو كأني مثل لاعب الكرة الذي يغيب عن الملاعب لفترة، وبالتالي يجب أن يأخذ فترة تأهيل قبل استئناف نشاطه، وإهدار الفرص أمام المرمى ليهتف ضده الجمهور، ويطالب المدرب بإبعاده!
هل يكون مصيري مثل هذا اللاعب؟!
الحقيقة لا أخفيكم القول يا قراء إني زعلان جدا وواخد على خاطري جامد منكم.
أسبوعين أغيب فيهم لا حس ولا خبر ولا واحد فيكم سأل عني.
كأنكم قلتم بركة يا جامع. لا أنكر أنه في أول يومين أو ثلاثة كتب كثيرون على «تويتر» كلمات رفعت رأسي إلى عنان السما.. سما المصري. كلمات إشادة وإطراء وإعجاب كثير منه لا أستحقه. قارئ واضح أنه من هواة الخيل كتب عن «الفارس» الذي ترجل، وقارئة يبدو أنها من عشاق الفضاء تحدثت عن «الشمس التي لن يطفئوها»، وثالث وصفني بـ «شريف الإعلام المصري»، ثم أخ فاضل من محبي «كلاي» و «تايسون» قال «المهندس البطل الملاكم يعيد سيفه إلى غمده»، رغم أني أكره الهندسة طوال عمري، وبالطبع لست بطلا، ومؤكد أن علاقتي بالملاكمة مثل علاقة ملامح تهاني الجبالي بوجه أنجلينا جولي.
كل هذا كلام جميل وكلام معقول مقدرش أقول حاجة عنه. لكني بصراحة توقعت أكثر. البحر يحب الزيادة مثلما تحب لميس وتابعها عمرو أديب الريادة.
لقد سرح خيالي أنه بمجرد إعلاني طلاق الكتابة مؤقتا أن تنهمر عليّ الإيميلات والاتصالات والمناشدات: «لا.. لا.. يا ابن عبدالغني يا حبيبنا إوعى تمشي وتسيبنا».
انتظرت أن يحوم الحمام الزاجل حول بيتنا بمجرد غياب أول مقال يوم الجمعة يحمل رسائل القراء من موريتانيا غربا مرورا بجيبوتي جنوبا وانتهاء بالبحرين شرقا، وكلها تتضمن عبارة واحدة ومعها «سي دي» بصوت شادية المتفجر أنوثة: «والنبي وحشتنا.. وحشتنا وحشتنا.. في غيابك عننا وحشتنا وحشتنا.. ده احنا من غيرك ولا حاجة.. وناقصنا كام مليون حاجة».
مر اليوم، وغابت شادية وغاب معها القمر الذي حلمت بطلته: «شوفت القمر على طلعتك بالي انشرح.. وقولت امتى في رجعتك ييجي الفرح.. أنا قلبي طااااااار من الشوق إليك.. راح للنجووووووم يسأل عليك.. ولما مالاقيتش لعينيك في الليل أثر بوست الهوا.. وبعت بوستي للقمر.. شوفت القمر آآآآآآه بوست القمر.. على طلعتك شوفت القمر.. إحساسي قال إن انت أجمل من القمر ومن الجمال».
من حزني هاجمني القولون العصبي ليلا. مغص وتلبك معوي يستحقه خيري رمضان وأشباهه.
 يوم يمر ويوم يأتي والحال لا يتغير. إيه الحكاية. منظري بقى محرج جدا أمام حرمنا المصون والأولاد. لقد أكدت لهم أن القراء سيحتشدون أمام البيت لحثي على التراجع عن قراري. كلما رحت وجئت وجدت نظرات الشماتة في العيون. أبلعها وأصمت. 
لكن «مصطفى» الصغير كان أكثرهم سعادة بعدم الكتابة، وتمنى ألا أعود إليها أبدا. هو يصادر تليفوني بمجرد عودتي للمنزل. يستمتع بألعابه. كلما أخذته منه بالقوة مضطرا أبرر «بأني هكتب مقال في التليفون»، فيرد غاضبا بطريقته المميزة في الكلام، حيث ما زال ينطق الكاف والقاف «تاء»: «تل شوية تتب متال.. تتب متال.. ده اللي فالح فيه».
الآن لا مقالات ولا يحزنون، ولا رغبة في أي شيء.
أتساءل بيني وبين نفسي: هل تكون لعنة جيراننا السوريين قد حلت علي؟ هل تتكرر معي مأساة دريد لحام في فيلمه «التقرير»؟ فقد استقال احتجاجا على الفساد في البلاد، وأخبر أسرته أن الدنيا ستقوم ولن تقعد بسبب موقفه، وأن الصحف ستصدر غدا تتصدرها صورته وخبر استقالة الشريف الذي يحتاجه المجتمع، وتطالبه بالتراجع. ولما نزلت ابنته لتشتري الصحيفة ولم تجد صورته فيها ولا أي خبر عنه، اضطرت أن تلصق هي الصورة على ورق الجريدة حتى لا تحرجه!
كلما رمقتني زوجتي بنظرة من إياهم، قلت لها وأنا أصبّر نفسي: أكيد وحتما ولا بد من كل بد القراء هييجوا البيت هنا من كل الدول.. لكن انتي عارفة البلد وظروفها وحال الطيران.. بس لما ييجوا اتشطري انتي وارفعي راسي قدامهم.. واعملي لهم نسكافيه وعصير جوافة.. ولاّ أقولك خليه «عصير كفتة» عشان نكون مع الصف الوطني.
راحت تضحك ضحكات شفقة على ما وصل إليه عقلي، وإذا وهي على هذا الحال سمعنا صوت ضجيج حشود في الشارع.. 
قلت لها: الحمد لله.. مش هتيجي الفرصة انك تشمتي فيا.. شوفتي الجماهير حضرت وأكيد بيهتفوا عشاني وبيتزاحموا على اللي يدخل الأول إلى البيت..
خرجت للشرفة حتى أحييهم مثلما يفعل بهي الطلة باراك أوباما في البيت الأبيض، وأرمي عليهم القبلات على طريقة خالد الذكر تامر حسني مع معجباته، لكني شعرت بدوخة في رأسي وعاد القولون ليهاجمني والمغص يتلاعب ببطني.
لقد كان التزاحم على فرن «العيش» والحشود على طوابير مستودع أنابيب الغاز!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق