كانت الأباتشي قد بدأت في مداعبة أطفال غزة بالقنابل في العدوان الصهيوني الجديد أمس، بينما كانت الصحف والمواقع المصرية غارقة في متابعة أخبار الحلقة المقبلة من "شو" الإعلامي المهرّج.
لم تفاجئني المفارقة، ذلك أن مراسلاً صحافياً في غزة كان قد أرسل إليّ بأن الاستخبارات المصرية رفضت طلباً فلسطينياً بالتدخل للجم العدوان الصهيوني وإلزام "إسرائيل" بالتهدئة، تلك التهدئة التي لطالما اقتات على إدارة ملفها النظام المصري في زمن حسني مبارك الذي عاد الآن بعد فاصل قومي وطني إنساني قصير.
إنها اللحظة التي قررت فيها إسرائيل أن تختبر "معزّتها" و"غلاوتها" عند سلطة الانقلاب في مصر، تلك السلطة التي تتغذى على حليب صناعي منذ تسعة أشهر، أُنتج في إسرائيل، وعُبّئ في أبو ظبي والرياض، ولا تزال خطوط الإنتاج تعمل بكامل طاقتها للاحتفاظ بالمولود، سفاحاً، حياً. هي أيضاً لحظة وضع المشاعر العربية والرجولة العربية في أول اختبار حقيقي، بعدما اجتمعت إرادة مَن يُسمّون "عرب الاعتدال" مع إرادة الجنرالات والحاخامات الصهاينة لاستعادة "الكنز الاستراتيجي المشترك"، وإنْ كان في هيئة جنرال آخر يافعٍ ومنتشٍ بكاريزماه المزيّفة. وللتذكير، فإن عدواناً، مثل هذا، وقع في مثل هذه الأوقات من العام الماضي إبان تولي محمد مرسي حكم مصر، فكان مبنى "المخابرات المصرية" مقر غرفة عمليات التصدي للعربدة الإسرائيلية بحضور الرئيس المصري ورئيس الوزراء التركي وأمير قطر السابق ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس المقاومة، وكان أن سحبت مصر سفيرها من الكيان الصهيوني، فتوقف عن عربدته فوراً..
وأغلب الظن أن هذا الموقف كان واحداً من الأسباب التي دعت الكيان الصهيوني لدعم معسكر الانقلاب منذ ما قبل جريمة 30 يونيو/ حزيران القومية.
وللتذكير أيضاً، فإن مقدمات الانقلاب كانت تلك العملية الإعلامية الوحشية في صحف الانقلاب لتمشيط الوجدان المصري، ورقياً وتلفزيونياً، لمحو كل ما من شأنه أن يُبقي قضية فلسطين حية فيه.. و أذكر أني كتبت مقالاً في تلك الأثناء تحت عنوان: "قُل خرفان والْعن حماس وصفّق لإسرائيل، تكن وطنياً"، تناولتُ فيه معايير الوطنية المصرية الجديدة، وقلت نصّاً: "إننا نعيش الآن زمن المسخ، حيث تنشط ماكينة جبّارة في الحفر عميقاً داخل ذاكرة المصريين ووجدانهم لتثبيت معايير جديدة لوطنية جديدة (فاسدة) تقوم على جهل بالتاريخ وتحلّلٍ من القيم واستغراقٍ في البذاءة والابتزاز.
ومن معايير الوطنية الجديدة الفاسدة أن تكون عنصراً نشطاً في "مشتمة" مفتوحة على مدى 24 ساعة يومياً.
فالوطني النموذجي، وفقاً لمعايير هذه الأيام التعيسة، أن يلعن القضية الفلسطينية، ويعادي مقاومتها (حماس)، ويتمنى لو أن "إسرائيل" صبّت جام إرهابها ووحشيتها على الفلسطينيين في غزة.
أما الثوري النموذجي، بالمعايير ذاتها، فهو مَن يشتم رئيس الجمهورية قبل الأكل وبعده بفاحش العبارات، ويتّهم كل مَن يؤيّد الحوار بالكلمات وليس اللكمات بـ"التأخون" و"الأخونة"، ويعتبر كل المعترضين على المحرقة السياسية والأخلاقية المنصوبة قطيعاً من "الخرفان".. ويحرّض الجيش على الانقلاب.
وإذا رفضت المؤسسة العسكرية هذه الدعوات المجنونة لإشعال الجحيم، فإنها تصبح في دائرة الاتهام، وتأخذ نصيبها من "السخائم" والشتائم.
ومن عجب أن هذا النَزَق الثوري الجديد لم يعد مقتصراً على مجموعات شبابية غاضبة تشبّعت بمنتجات آلة الدعاية السوداء حتى النخاع، بل دخلت حلبة الابتزاز شخصيات عامة من أكاديميين وقانونيين ومثقفين وإعلاميين كنّا نظنهم كباراً، لكنهم نافسوا بقوة في هذا المضمار، حتى تناهوا في الصِغَر وهبطوا إلى قاع الإسفاف في الممارسة السياسية والخطاب الإعلامي.
وطبيعي، والأمر على هذا النحو المخجل، أن تقرأ تعليقاً على ما سمّيته، في ذلك الوقت، فضيحة "المقلاع" الذي أسقط نظام مبارك، قادماً من غزة، حسب صحيفة ثورية (بمعايير الثورية المضادة المستحدثة) يقول فيه نصّاً: "نفسي إسرائيل تقوم تدكّ غزة بالصواريخ علشان يكونوا عبرة عاللي عملوه في مصر بمعاونة الخرفان".
هذا التعليق الكارثي أصاب مصرياً يعيش في ألمانيا، هو الصديق مجدي الجوهري، بصدمة أقرب إلى الصعقة، فأرسل إليّ يقول: "أتتبّع بدقة وتمعّن ما يحدث من تغيّرات جذرية في الشارع وفي العقل المصري ومن تخريفات ومراهقات سياسية ومن انهيار للقيم وبالذات في ما يعتقد البعض أنه نوع من الصراع السياسي. كل هذا كوم وأن أفاجأ (بل أُصعق) اليوم بـ"مواطن" يطالب، في تعليق على مقالة في "المصري اليوم"، إسرائيل بأن "تدك غزة بالصواريخ علشان يكونوا عبرة عاللي عملوه في مصر بمعاونة الخرفان" ده كوم تاني.
هذا ما كان في الأيام السابقة على الانقلاب، وهو ما فتئت الآلة الإعلامية للسلطة ـ السفاح تعمل عليه بدأب شديد حتى الآن، بعدما سقطت مصر في مستنقع "دحلان/ خلفان"، لتجري أبشع عملية إخصاء لكل معاني الرجولة والكرامة داخل الشخصية المصرية التي صارت تتحكم في تشكيلها كتيبة هائلة من "الخدم" يهتفون ويرقصون بكل تهتّك و"رقاعة" وخلاعة: "البطاطين وصلت يا رجالة".
عفواً غزة: مصر الآن مشغولة بتسوّل البطاطين والملابس المستعملة.. ليس لديها ما يُصلح سقفاً يحميكِ من هذا العدوان البربري.
مقالات وائل قنديل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق