الأحد، 16 مارس 2014

وداعاً للكتابة.. وليس وداعاً لـ «العرب»!



وداعاً للكتابة.. وليس وداعاً لـ «العرب»!


شريف عبدالغني

في 15 يونيو 2010، وفي عز جبروت نظام مبارك، نُشر أول مقال لي في «العرب»، وذلك بعد تولي الأستاذ أحمد الرميحي رئاسة تحرير الصحيفة، ضمن جهوده لتطويرها وضخ دماء جديدة فيها، أثمرت حاليا عن مكانة رفيعة لها بين الصحف الخليجية.
كان المقال بعنوان «الأهرام في العصر الحزين». الحمد لله أن لقي صدى طيبا، لتفتح هذه الجريدة المحترمة صفحاتها أمامي للكتابة بشكل دائم، وتشرفني بوضعي ضمن باقة كتابها وهم مجموعة من أهم الكتاب العرب.
خلال أول شهرين بدأت كتابة مقال أسبوعي، وبعدها زادني رئيس التحرير شرفا، بكتابة مقالين أسبوعيا.
لو تحدثت عن الأستاذ الرميحي فلن أوفيه حقه. لقد فتح لشخصي المتواضع إطلالة مهمة على القراء، بعدما سدت المنافذ لأمثالي في بلدي. كان دائما ما يشيد بي، ويصبغ علي من الصفات ما لا أستحقه.
في مصر كل الأبواب موصدة أمام من يحمل رأيا مخالفا. صحيفتي كانت تنشر لي بطلوع الروح. كنت أبذل الجهود وأتنقل بين مكاتب مديري التحرير لنشر مقال.
توقفت تماما عن السعي بعدما شطب رئيس التحرير الأسبق -الإعلامي الشهير- على مقال لي في البروفة النهائية لصفحة الرأي. سألت سكرتير التحرير عن السبب، فقال: «والله معرفش».
سألت مدير التحرير، فسألني المقال عن إيه.
قلت: عن رجل الأعمال فلان الفلاني. 
فمصمص شفتيه: «طيب خلاص اسكت ولا تسأل عن سبب شطب المقال.. كويس إن رئيس التحرير لم يشطبك أنت نفسك من سجل الصحافيين في الجريدة».
ثم عرفت حقيقة العلاقة والمصالح بين الرجلين، والتي توجت بعد ذلك بإنشاء مؤسسة إعلامية معروف دورها!
400 مقال إلا قليلا هي حصيلة الكتابة في «العرب» 4 سنوات إلا قليلا، تضمنت أفكاري وقناعاتي وما أؤمن به. ساندت ما أراه حقا، وانتقدت ما أعتقد أنه باطل. 
ما أكتبه يعكس أحلاما تراودني برؤية مصر في الصورة التي أتمناها ومكانتها التي تستحق: بلد ديمقراطي حقيقي يحتضن الجميع بلا إقصاء أو تهميش. نعيش فيه كلنا بكرامة. بلد تكون العدالة أساسه، وحرية التعبير شعاره.
خلال السنوات الأربع أكرمني الله بقاعدة قراء محترمين. أنتظر مع نشر كل مقال آراءهم. كثيرون منهم صاروا أصدقاء. بعضهم ينشر المقال على صفحاتهم في موقعي تويتر وفيس بوك. يقدمه بكلمات إطراء أتذكرها في أوقات الضيق فتعطيني ثقة في نفسي وما أكتب. ومن فضل الله أن كثيرا من المواقع الإلكترونية المعروفة تعيد نشر مقالاتي نقلا عن «العرب»، لتصلني على «الإيميل» رسائل من أناس أفاضل في دول مختلفة، بينهم شخصيات شهيرة.
لكن.. حان الوقت لأتوقف عن الكتابة. أودّعها وأستريح من همّها. لا أودّع «العرب» التي ستظل بيتي وصاحبة الفضل علي. لن أكتب في مكان آخر غيرها. 
الكتابة أصبحت من المحرّمات في «مصر الجديدة». المطلوب أن تكتب فقط مع القطيع. أن تكون «خروفا» فعلا وقولا. لو قلت رأيا مخالفا فأنت مارق وخارج عن الصف الوطني.
لن أعيد القول المعروف بأن قوة أي مجتمع في تعدد آرائه. في هذا الزمن القاعدة: «من ليس معي فهو ضدي»، ويا ويله يا سواد ليله من يغرد خارج السرب.
لا أعرف إلى متى يستمر هذا التوقف الإجباري. لكني لن أستطيع مواصلة الكتابة في ظل الضغوط والتهديدات التي أتعرض لها. عندي أطفال أبرياء لن يسعدهم -طبعا- أن يروا من يختطف والدهم أمامهم ليذهب في سكة «اللي يروح ما يرجعش».
أيضا أنا مصاب بمرض يتطلب أساسا أن تكون حالتي النفسية مستقرة.
أمضيت أصعب 8 أشهر في حياتي. توتر وقلق وعدم أمان لم أعشه في فترة حسني مبارك ويده الباطشة حبيب العادلي. كنت وقتها أهاجم النظام والرئيس وأولاده شخصيا وبالأسماء بمنتهى القسوة ولم يتعرض لي أحد أبدا.
أشهد أن حكمه رغم ما به من كوارث، تميز بمساحة كبيرة جدا من حرية التعبير. الآن الحرية الوحيدة والتعبير الوحيد مسموحان فقط في اتجاه واحد وبصوت واحد وفي نفس واحد.
كنت أقول إن الأمور ستتحسن تدريجيا وإن أسيادنا الذين في كراسي السلطة، لن يقتربوا من أصحاب الرأي خصوصا من يقول كلمته ويمضي إلى حال سبيله.
لكن لا بارقة ضوء تظهر. بل ظهر الأسوأ. مراقبة وتحريات وتنصت على التليفونات. أعرف أن هاتفي مراقب وأتصرف بتلقائية لأنه ليس لدي ما أخفيه. مؤكد أنهم يعرفون مما جمعوه من معلومات وما لمسوه من تنصتات أنني إنسان عادي لديه بعض المزايا وبعض العيوب مثل كل البشر. صحافي وكاتب مستقل لا أنتمي إلى أي حزب أو جماعة سياسية. لكني صاحب رأي أيا كان الاتفاق أو الاختلاف معه، وأكتب ما أراه -من وجهة نظري- صوابا لصالح بلدي.
أعيش لأولادي ومن البيت للشغل والعكس، باستثناء حينما أخرج مع الأسرة في نزهة أو شراء مستلزمات المنزل.
ما الضرر الذي يسببه إنسان مسالم كهذا للدولة؟!
ماذا فعلت حتى يعدّون أنفاسي؟!

ما الخطورة التي أمثلها على المجتمع حتى لا يكتفوا بمراقبتي في القاهرة، بل يرسلوا إلى قريتي مسقط رأسي من يتحرى عني، وتهديد كل من يسألونه في حالة تقديم معلومة خاطئة، والتفاخر أمامه بأنهم يعرفون كل شيء عن العبدلله، حتى الشقة التي أسكن فيها بالعاصمة وجيراني في العمارة؟! 
هل يستطيع أحد الحياة في ظل هذا الجو والتهديد والملاحقة وأن تسير تتلفت خلفك!
إذا كانت «الكتابة» ستكون سبب أن «يزعلوا» مني فلا داعي منها. كله إلا زعلهم. ها أنا أخبرهم علنا بتوقفي عن هذه «الجريمة»!! لن أعمل فيها بطلا وأناكف وأشاكس.
إذا كان «الفريق» سامي عنان رئيس أركان حرب القوات المسلحة السابق، بجلالة قدره، تراجع عن خوض الانتخابات، وإذا كان «الفريق» أحمد شفيق بطل الطيران، بعظمة مكانته، تراجع عن تصريحاته العنترية بعد تسريبها بدقائق.. فهل أكون أنا أقوى من «الفريقين»؟!!
أخبرهم أيضا أني أعيش في نفس الشقة التي يعرفونها، وأخرج كل يوم صباحا لأوصل أولادي الذين يعرفونهم إلى المدرسة التي يعرفونها.
وآخر اليوم أعود من نفس الطريق الذي يعرفونه إلى بيتي الذي يعرفونه، وأحيانا أقف في «البلكونة» التي يعرفونها. لكني أكشف لهم سرا لا يعرفونه، أن وقوفي سببه التحسر على ستارة البلكونة التي طارت بفعل الهواء في الشارع الذي يعرفونه، ولم تعد حتى الآن. وأسألهم: بما أنكم تعرفون ما تخبئه الصدور.. ينوبكم ثواب تقدروا تعرفوا ابن الحرام اللي سرق الستارة؟!
قبل أن أمضي، تحية عرفان وتقدير لهذه الجريدة المحترمة ولرئيس التحرير وكل الزملاء فيها.. ومحبة خالصة لكل قارئ شرفني بمتابعة كتاباتي.
وأخيرا: أستسمح أسيادنا اللي بيراقبوني ويعرفوني، أنني سأحضر أمي لتعيش معي في شقتي. ممكن أجيبها.. أم أن وجودها عندي خطر على الأمن القومي؟!
كان مقالي الأول عنوانه «الأهرام في العصر الحزين». الآن مصر كلها أصبحت في العصر الحزين!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق