د. سلمان بن فهد العودة
تتشابه الأيام كأنها التوائم، وتمر أمام ناظريه كطابور يحمل ذات الملامح والشيات واللباس!
كما تتشابه مواسم القرية البسيطة دون تغيير يذكر؛ ما دامت تعيش عزلة عن العالم، ولم تتعرّف بعدْ على منجزاته الجديدة.
رمضان وحده يختلف!
قبل حضوره تسبق الهيبة والجلال والوجل، فإذا أقبل تراءاه الناس بحرص واهتمام.. الكبار يصعدون إلى (النفود) الغربي بعد صلاة العصر، ويتحدّثون باهتمام، ويختلفون، ثم يُنصتون لحديث الإمام؛ الذي يؤكد لهم مكان بزوغه.. ويُلقّنهم ماذا يقولون:
اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالإِيمَانِ وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلاَمِ، هِلاَلُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ.
لا مذياع لمعرفة الخبر.. المذياع نفسه غير مقبول الرواية، ولا يوجد إلا خفية، وعند الفسَّاق وحدهم!
الصغار يفرحون بطريقتهم الخاصة، ولأسبابهم الخاصة أيضاً!
صامه طفلاً، وأقنعته أمه منذ اليوم الأول أن صياماً (كصيام الدجاجة والديك!) يكفيه.. فليُمسك إذاً إلى نصف النهار، ثم يُفطر على وجبة الغداء المبارك!
يتسلل وقت السَّحُور وقد أيقظته الحركة غير المعتادة في المنزل، وينضم إلى ركب المُتَسَحِّرِين.. أما القهوة فلا تصلح له؛ لأنه لا يشربها إلا البالغون.. وبهذا تصبح أُمنية عزيزة ينتظر متى يتأهّل لها ويُصنَّف ضمن قائمة الكبار!
يود أنه كان أكبر من عمره، ويتساءل في سرِّه: متى يأتي اليوم الذي يصبح فيه كهؤلاء؟
لعل عالم الطفولة لا يحظى آنذاك بكثير من الخصوصية والاهتمام، ولا يجد ما يلائمه من المتعة واللهو واللعب، فليس أمامه إلا أن يحلم بالرجولة!
حتى الصوم نفسه أصبح محاطاً بشروط إضافية، فحين يغلبك النوم عن السَّحُور فلن يُسمح لك بالصيام.
لا فوانيس رمضانية.. فالفوانيس هي هي مصدر النور الوحيد في القرية، وخاصة الصغير الذي يسمونه بـ(الفنر).
لا حلويات ولا أطعمة خاصة لرمضان.
التوت وحده كان مشروباً رمضانياً يسهل عليهم تحصيله، فهو في دكانهم، وهم يشربونه بكثير من الماء وبعض السكر.
التمر في القرية متوفر في الحقل وفي المنزل؛ الذي تتوسط فنائه نخلة سامقة، بدت وكأنها أحد أفراد الأسرة.
اللبن مشروب شعبي يتهاداه الجيران كتحفة ثمينة، ويتصرَّفون في صياغاته؛ ما بين مخيض، وزبد، وحليب، وبقل (أقط)..
وربما طبخوا التمر بالزُّبد، وحصلوا على طعم لذيذ يسمى (القشدة).
حين نستذكر الأشياء القديمة تبدو وكأنها كانت أكبر وأضخم وأجمل مما هي عليه في الواقع.. هل لأننا صغار كنا نراها كبيرة؟ أم لأننا لم نر غيرها؟
الغرفة الضيقة كانت كمجلس فسيح، والفناء كان كملعب كرة، والجدار القصير كان كَسَدٍّ شاهق.
وحتى البشر.. لا يتخيل أباه رجلاً في الخامسة والثلاثين، ولا أمه فتاة في الثامنة والعشرين.. رمضان كان يزيدهم قرباً والتصاقاً، ويمنح حركة متجددة لا تتوفر دائماً.
لم يعرف الأب (المرمضن)؛ الذي يغضب ويزمجر ويصرخ بحجة الصوم، لا يذكر إلا ذاك السمح السَّهل الطيب؛ الذي يتكلَّف الحزم ليُربِّي صغاره على الصدق، والمحافظة على الصلاة، ومكارم الأخلاق.
صلاة التراويح في المسجد الجامع يحضرونها في اليوم الأول، ثم يكتفون ببعضها، إذ لا طاقة لهم بمتابعة الإمام في تسليماته العشر التي يقرأ فيها جزءاً من القرآن.
التنافس في ختم المصحف على أشُدِّه.. والرغبة في السَّبق تحمل بعضهم على اللجوء لطرق ملتوية مثل (النط)، وتعني قفز بعض السّور أو بعض الصفحات أو الآيات؛ وهي تُهمٌ تشبه تُهم تزوير الانتخابات.. إذ كيف يمكن لفلان أن يصل إلى سورة يونس في وقت وجيز؟!
ويلجا آخر إلى الهَذِّ؛ وهو الإسراع في القراءة حتى لا يكاد يُبِين؛ ليتفاخر أمام نظرائه بأنه سبقهم.
وبعد أيام تبدأ أخبار الختمات تتوالى، ومعها الاتهامات والتشكيك والسخرية.. ودفاع الأب منقطع النظير عن ولده؛ الذي قرأ القرآن حرفاً حرفاً.
فضائح الإفطار السِّري همسٌ يتعالى ويطال بعض المتجرئين؛ ممن هم في بداية المراهقة، ليصبح مادة للحديث والاستنكار ثم العقوبة؛ التي تتراوح بين الضرب، والهجر، والتوبيخ والتحذير من كلام الناس؛ الذي يؤذي الأسرة جميعاً، وعادة ما يتحول إلى عَرْضٍ لتاريخها وسوابقها، وغمز لرقة دينها، وضعف أخلاقها.. ولا غرابة أن يربط بأصلها ثم يعمم الحكم على نظرائها.
أما حين يقع اللوم على ذاك المراهق المتمرِّد من تلك الأسرة العريقة، وذلك الأب الصالح الذي يوصف بهذه المناسبة بأنه (يطهر الأرض التي يطأ عليها)؛ فهنا يسكت الجميع عن التعليق مكتفين بترديد: الهداية بيد الله!
أهل القرية صادقون، ولا يشكّون في نزاهة أحكامهم، ولا في ازدواجية معاييرهم!
من ينسى فيأكل أو يشرب فإنما أطعمه الله وسقاه، ولذا يرون أن عليك ألا تنبهه إلى أنه صائم، فأنت بذلك تقطع رزق الله عنه.
الصغير ينسى، وإذا لم ينس فهو يتناسى؛ ليُقدِّم عذراً جاهزاً حينما يتم الظَّفر به مُتلبِّساً بما يقطع صومه!
روح البساطة والتواضع والعفوية كانت تطبع الحياة بميسمها الجميل.. وكثير من الجمال لا نراه إلا حين يدركه المغيب ويصبح شيئاً من الذكرى.
رحمة الله على تلك الأيام.. وسقى عظام أناسها صوب الغمام!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق