تأميم الدين من أتاتورك إلى السيسي
أثارت القوانين الأخيرة التي أصدرها الرئيس المؤقت عدلي منصور قبل رحيله ،والخاصة بالدعوة الإسلامية ، الكثير من المخاوف داخل أوساط التيار الإسلامي بمختلف تياراته ، فالقانون الذي يحكم على مَن يزاول مهنة الدعوة الإسلامية دون ترخيص من الحكومة بالسجن المشدد لمدة عام ، والغرامة الكبيرة ، جاء ليؤجج مخاوف التيار الإسلامي من التوجهات العلمانية الفجة لرئيس البلاد الجديد، ويؤكد على ما يروج عن أن الصراع الدائر على أرض مصر منذ وقوع الانقلاب العسكري حتى الآن هو صراع على الهوية الإسلامية للبلاد ، وإن تسربل هذا الصراع بمسوح سياسية متنوعة إلا أن تداعياته في النهاية تصب في خانة العداء للإسلام والتضييق على دعاته ، في حين تفتح الأبواب مشرعة للأفكار العلمانية والليبرالية بغير نكير.
والحقيقة أن الخطوات التي يقدم عليها السيسي اليوم في مصر ما هي إلا تأكيدٌ لأفكاره الرئيسية التي أبداها في لقاءاته التليفزيونية القليلة ، ومن أهم هذه الأفكار "تأميم الدين"؛ ففي لقائه مع شاشة العربية الفضائية ذات التوجه المعادي للإسلام قال بالنص الواحد: "لن يكون في مصر قيادات دينية ولن أسمح بذلك ، فأنا المسئول عن الأخلاق والقيم والمبادئ"
ثم أردف قائلا : "والدين أيضا"، وهنا قاطعته المذيعة التي كانت تجري معه الحوار متعجبة من قوله قائلة: "والدين أيضا؟!"، فأكد السيسي فكرته: "وعن الدين أيضا".
السيسي في فكرة تأميم الدين وإخضاعه لسلطانه ليس بمبتدع ، إنما هو ينسخ من كتاب سطره من قبل الهالك مصطفى كمال أتاتورك ، فهو أول من قام بتأميم الدين وأخضعه لسلطان الاستبداد .
ولو قرأنا ما فعله أتاتورك مع الدين في تركيا لعلمنا أن السيسي يسير على نهجه ويقتفي أثره حذو القذة بالقذة ، وأن السيسي يتشبه بأتاتورك وليس عبد الناصر كما يعتقد البعض ، فليس فقط في كون الرجلين عسكرييْن ، انقلب هذا على خليفته ، والآخر انقلب على رئيسه ، ولكن الأهم من ذلك التشابه في الفكر المتعلق بدور الدين في الحياة العامة والسياسية .
فأتاتورك الذي تصفه أدبيات الإسلاميين بأنه أكبر أعداء الدين ، ومُسقِط الخلافة ، وإمام العلمانيين ، وصنم القومية ، كما يوصف بالمجدد والمنقذ والغازي والبطل وباني نهضة تركيا الحديثة في أدبيات القوميين والعلمانيين، لم يكن علمانيا من الطراز الغربي أو الكلاسيكي ، بل علمانيا من نوع خاص ، علمانيا أراد إخضاع الدين لسيطرته وهيمنته واستبداده بحيث يكون خادما لأغراضه وتدعيم سلطانه.
فنموذج أتاتورك القديم ، وبنسخته السيساوية المعدلة ،لم يقدم العلمانية بمفهوم العلمانية الأمريكية أو الفرنسية بل وضع المجال الديني تحت إشرافه ولخدمة أغراضه
مثال ذلك : أتاتورك ألغى منصب شيخ الإسلام و أغلق الإخوانيات و المدارس الدينية وأحل محل تلك المؤسسات مؤسسة "ديانت" أي هيئة الشئون الدينية التي كان من مهامها نشر الإسلام الأتاتوركي ، ليخضع التعليم الديني تحت إشرافه وهيمنته خدمة لاستبداده وتمكينا لطغيانه ، وعلى خطى تتريك الدين قام أتاتورك بإستبدال الأذان باللغة التركية ، وكتب القرآن بالحرف التركي ، ومنع تدريس اللغة العربية ، وأغلق الجوامع القديمة التي تذكر الناس بأمجاد الخلافة وأيام السؤدد مثل جامع آيا صوفيا وجامع محمد الفاتح ، بل إنه قام بنقل العاصمة من إسطنبول إلى أنقرة ، حتى يقطع علائق الأتراك بأي أثر بدولة الخلافة العثمانية ، وقام بتخصيص مسجد واحد كل 500 متر ، ومنع البناء لما دون ذلك ، فأغلق بهذا القانون آلاف المساجد وحولها إلى مخازن ومستودعات ، وقام بتقليص عدد الدعاة الذين تنفق عليهم الدولة إلى 300 داعية فقط ، وقام بإلزامهم بمواضيع معينة في خطبة الجمعة أغلبها مواضيع تتكلم على الإنتاج والزراعة وطاعة المسئولين ، كما قام بإلغاء الحجاب ومنع لبس الطربوش ، ونقل عطلة البلاد من يوم الجمعة ليوم الأحد ، في تذويب متعمد للنسخة الأصلية من الإسلام لصالح نسخته الجديدة المعدلة على النموذج التركي ، للتأكيد على فكرة الإسلام القومي التركي ، لتساعد أتاتورك على الهيمنة على الأوضاع و تمهيدها له كلياً.
وبالجملة، أتاتورك كان يؤسس لنموذج نمطي من الدين يكرس به السيطرة والهيمنة على البلاد ، ويقمع أي صوت معارض له من خلاله ، فكان التمييز لصالح هذا النموذج النمطي الذي تبنته الدولة وعبّر عنه بعض المثقفين بمصطلح «لاهاصوموت» وهي الأحرف الأولى للكلمات التركية المكافئة لـ (علماني) (حنفي) (سني) (مسلم) (تركي)، وكان التمييز فقط لصالح كل المواطنين الذين يتحلون بهذه الصفات ، ما دون ذلك فكانت الدولة تقمعه بأشد السبل ، ففي عام 1925م سن قانونا جديدا أسماه بقانون الخيانة الوطنية , وهو قانون يحكم بالإعدام على كل من تسوّل له نفسه أن يتظاهر ضد أتاتورك أو الحكومة , أو من يكتب مقالا ضده أو من يلقي خطبة أو يؤسس جمعية أو مؤسسة مناهضة لحكومته. وباسم هذا القانون الجائر وبمطرقة القضاء التركي الشامخ أعدم أتاتورك آلاف الأتراك الرافضين لهذا النموذج النمطي الجديد عن الدين ، وزج بأضعافهم في غياهب السجون .
والسيسي اليوم في مصر يسير على خطى أتاتورك في تأميم الدين وخلق النموذج المصري للدين والذي يكون في خدمة الاستبداد والقهر المجتمعي والسياسي ، الإسلام الوسطي أو المستنير ، أو الإسلام المصري الجميل على حد وصف إعلام السيسي ، الإسلام الذي لا يمنع من كون المرأة محجبة أن ترقص وتهز أجزاء جسدها في الطريق العام ، أمام اللجان الانتخابية فرحا بنجاح السيسي ، وكأنّا بالسيسي ينسخ نسخا من كتاب أستاذه أتاتورك في تأميم الدين وإخضاعه لسلطانه ونفوذه ، بإعلانه قبل تولية للرئاسة بأنه المسئول الأوحد عن الدين ، وأنه لن يسمح بقيادات دينية أخرى ، في الوقت الذي يصرح لقناة فوكس نيوز الأمريكية المتطرفة بأن لا مكان للدين في الحياة السياسية في عهده بمصر ، ثم شروعه فعليا في تنفيذ خطوات تأميم الدين من ليلة الانقلاب بإغلاقه القنوات الإسلامية التي تدعو للنسخة الأصلية للإسلام ، في الوقت الذي سمح فيه لدعاة التصوف والتشيع مثل كريمة والجفري وجمعة بالظهور المكثف في كل القنوات ، ثم استهل عهده بقانون الدعوة والخطابة الذي تسبب في إغلاق أكثر من عشرين ألف مسجد في يوم الجمعة الماضية ، ولم يجد رواد هذه المساجد إلا الشوارع والطرقات ليفترشوها تحت لهيب شمس الصيف الحارقة لحضور صلاة الجمعة ، كما قام أيضا ويا للعجب والمصادفة ! بتحديد مسافة 500 متر بين كل مسجد وآخر ، كما قام بتوحيد خطبة الجمعة ومعاقبة من يخرج عن الموضوع المحدد بالتحقيق والعزل من الوظيفة ، وكل مواضيع الخطبة لا تتماس أو تتقاطع مع الوضع السياسي ، في تكريس متعمد لفصل الدين عن الدولة ، كما قام بإلغاء صلاة التراويح في المساجد الكبرى في مصر مثل جامع القائد إبراهيم الذي يؤمه في التراويح قرابة المليون مصلٍّ ، ومسجد النور أكبر مساجد القاهرة ، وجامع الفتح أعرق مساجد العاصمة ، وغيرهم من المساجد المشهورة في مصر ، ومنع الاعتكاف إلا بشروط مشددة .
كل هذه الخطوات المثيرة تم اتخاذها ولم يمض على ولايته سوى عدة أسابيع ، فكيف سيكون شكل الدين في مصر بعد مرور عدة سنوات من هذا الحكم الفاشي الاستبدادي ؟
الإسلام يواجه اليوم حملة شديدة الضراوة من سلطات الانقلاب من أجل تمصيره وتأميمه وتطويره ، وإخراج نسخة نمطية مكررة مما قام به أتاتورك من قبل من أجل إحكام السيطرة على البلاد ، فالسيسي يعلم يقينا أن أكبر معارض لسياساته وتوجهاته هو التيار الإسلامي ، وهو الوحيد القادر على حشد الشارع وتوجيه الرأي العام ضد سياساته وطموحاته ، والتيار الإسلامي له ثأر مع السيسي يجعل من المستحيل تحقيق مصالحة سياسية في مصر ، كما كان أنصار الخلافة العثمانية من قبل أكبر معارضي سياسات أتاتورك . فالأمر جد خطير ، والمعادلة صفرية قد وصلت لنقطة الكسر ، وللأسف الشديد الضحية الأولى لهذا الطموح والهوس بالسلطة هو الدين الذي ستندرس كثير من معالمه ، وتُنسى كثير من رسومه ، ما لم يقيض الله عز وجل لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ توقف به كل هذه المقامرات والمهاترات المحمومة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق