انقلاب مصر وإسرائيل.. تحالف الغرقَى؟
نبيل الفولي
كاتب وباحث مصري
عميل أم ماذا؟!
تلاقي الغرقَى
تلاقي الغرقَى
تروج ثقافة التحليل السياسي لما يجري من أحداث في أوساط الشعوب ذات القضايا المشتعلة، أو التي تعيش أوضاعا سياسية حرجة تمس حياة الخاصة والعامة، ويشارك في هذه التحليلات عادة من يصلح لها ومن لا يصلح من عامة وخاصة، وإن كان بعض البسطاء -كما سمعنا وشاهدنا بالفعل- قد يفاجئوننا بآراء وتحليلات دقيقة وعميقة.
ويمكن لمن يراقب أحداث الربيع العربي وتطوراته أن يلاحظ أن شرائح كبيرة من مواطني بلاده قد قدمت آراءها وتحليلاتها لكثير من الأحداث والوقائع، بل تجاسر كثيرون على أن يقدموا رؤى وتوقعات مستقبلية للأحداث خلال وسائل الإعلام، أو في المجالس واللقاءات العائلية، أو المناسبات الاجتماعية المختلفة.
ولأن علاقة الأنظمة والدول العربية بإسرائيل مثار جدل دائم، وذات حساسية خاصة منذ قامت الدولة العبرية، فإن كثيرا من التحليلات العربية للأحداث الكبيرة أو المفاجئة التي تجري في أوطاننا تعطي نصيبا لدور إسرائيلي هنا أو هناك، وهي تحاول كشف غامض أو إيضاح خفيّ.
عميل أم ماذا؟!
وقد تجلى ذلك واضحا في محاولة تفسير علاقة إسرائيل بالانقلاب العسكري المصري الذي ألقى الجنرال عبد الفتاح السيسي بيانه الأول في الثالث من يوليو/تموز عام 2013، محاطا برموز وقيادات دينية وسياسية وعسكرية، فقد آمن بعض "المحللين" بنظرية المؤامرة إلى أقصى حد، ورأوا أن السيسي هو إيلي كوهين جديد زرعته إسرائيل في صفوف الجيش المصري؛ ليقوم بما قام به ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي، أو يعمل عموما على حراسة مصالح إسرائيل إن استدعى الأمر.
عميل أم ماذا؟!
وقد تجلى ذلك واضحا في محاولة تفسير علاقة إسرائيل بالانقلاب العسكري المصري الذي ألقى الجنرال عبد الفتاح السيسي بيانه الأول في الثالث من يوليو/تموز عام 2013، محاطا برموز وقيادات دينية وسياسية وعسكرية، فقد آمن بعض "المحللين" بنظرية المؤامرة إلى أقصى حد، ورأوا أن السيسي هو إيلي كوهين جديد زرعته إسرائيل في صفوف الجيش المصري؛ ليقوم بما قام به ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي، أو يعمل عموما على حراسة مصالح إسرائيل إن استدعى الأمر.
"إشكالية اختصار المسألة بهذه الصورة هو أنه يدفع إلى تصورات خاطئة تجر وراءها عواقب خطيرة، كأنْ تشيع فكرة أن الإشكالية كلها تتمثل -خلافا للواقع- في وجود شخص السيسي، وأن استبعاده من المشهد يحل المشكلة"
ومع أن هذا ليس مستحيلا في العقل -على حد تعبير القدامى- إلا أنه مهرب سهل وضار في فهم الحوادث وتفسيرها، فهو يختصر الانقلاب في رجل واحد، ويعيد إلينا مأساة تفسير شريحة كبيرة وخطيرة من تاريخنا بشخصية عبد الله بن سبأ وحده، مما أظهر الرجل في صورة أكبر من حجمه الحقيقي، وأبقى قلم التحليل عاجزا عن فهم مصادر أخرى خطيرة لتعجيز المجتمع، ومنعه من الاستمرار في حراكه واتساعه الحضاري، أو حماية نفسه من مضار وأخطار أخرى تترصده.
وبالمثل فإن التفسير السابق لعلاقة تل أبيب بانقلاب القاهرة يعطي الجنرال السيسي أولا أكبر من حجمه في السيطرة على الدولة وتسييرها في الاتجاه الذي اختاره، ويعمي العين عن ماكينة الانقلاب الكبيرة المتمثلة في تحالف الجنرالات ورجال الأعمال وأصحاب المصلحة -في الداخل والخارج- في بقاء الدولة المصرية في قبضة العسكر.
وإشكالية اختصار المسألة بهذه الصورة هو أنه يدفع إلى تصورات خاطئة تجر وراءها عواقب خطيرة، كأنْ تشيع فكرة أن الإشكالية كلها تتمثل -خلافا للواقع- في وجود شخص السيسي، وأن استبعاده من المشهد يحل المشكلة، ومن هنا فيمكن أن يرضى كثيرون بانقلاب عسكري عكسي على السيسي يقيم مجموعة من المحاكمات له وحده أو مع أركان نظامه، فيزول شخص أو بعض الأشخاص من المشهد، ويمر المشروع الانقلابي نفسه على ظهور الغفلة والفهم الخاطئ.
كما أن فحصًا نفسيًا، ولو متسرعا، لشخصية قائد الانقلاب يكشف بسهولة عن تعلقه الجارف وشبه الجنوني بكرسي الرئاسة، مما استطاع أن يغطيه بغلاف من العاطفية قبل حصوله عليه، وبالعنف والرفض التام لكل من يعارضه بعد حلوله في منصب الرئاسة بمصر.
وهذا التعلق والسلوك المصاحب له ينم عن شخصية مستعدة لفعل أي شيء للوصول إلى حلمه الذي طارده في النوم واليقظة على السواء، دون اشتراط عمالة أو غيرها.
تلاقي الغرقَى
وما دمنا قد ضربنا صفحا عن "كوهنة" السيسي -وإن كان وفريقه أكثر إضرارا منه بالمصالح العربية، بل والسورية في المدى القريب والبعيد على السواء- واستبعدنا هذا التبسيط للحدث الكبير، فما الذي يمكن أن نفسر به العلاقة بين الانقلاب المصري وإسرائيل؟
وما دمنا قد ضربنا صفحا عن "كوهنة" السيسي -وإن كان وفريقه أكثر إضرارا منه بالمصالح العربية، بل والسورية في المدى القريب والبعيد على السواء- واستبعدنا هذا التبسيط للحدث الكبير، فما الذي يمكن أن نفسر به العلاقة بين الانقلاب المصري وإسرائيل؟
إن الاندفاع في المواقف، وقلب موازين العلاقات، ومناقضة الثوابت الوطنية والدينية في صلة الانقلاب "بالجارة الشرقية" قد أثار الريبة في نفوس الواعين ممن يتابعون الموقف المصري، وهو ما يمكن أن نفهم به لجوء بعض الآراء إلى التفسير السابق للعلاقة المشار إليها، فلم يكن أحد يتوقع أن يأتي في مصر يوما نظامٌ حاكم ينصر إسرائيل أو إسرائيليين على فلسطين أو فلسطينيين، ولا أن يحكم أرض "الكنانة" من يخرب عمقه الإستراتيجي الأدنى في سيناء بصورة لا تخدم أحدا إلا إسرائيل، ولا أن يتولى شؤون "المحروسة" من يتردد الثناء الحار عليه عشرات المرات في الإعلام الإسرائيلي من عتاة اليمينيين ومن دونهم، إلخ.
إن الانحدار إلى هذا المستوى من السلوك السياسي، لا يعني إلا أن النظام الانقلابي يشعر بأزمة حادة تهدد وجوده نفسه، بسبب فشله العام في تسيير الدولة، وتحقيق الاعتراف الصريح والكامل به دوليا، والتظاهرات العارمة التي تملأ العاصمة والمحافظات المصرية وتطارد رموز الانقلاب في الخارج منذ حوالي 18 شهرا، ومن هنا اعتمد النظام في تأجيل هذا المصير على ثلاث إستراتيجيات رئيسة:
الأولى: توريط أكبر عدد من مواطنيه في الأزمة الخطيرة التي صنعها للدولة المصرية، سواء من العسكريين أو السياسيين أو قيادات الشرطة وأفرادها أو الإعلاميين أو النقابيين أو البيروقراطيين أو المواطنين العاديين. وهذا التوريط لا يجعل من هؤلاء مجرد مخدوعين، بل يربط مصير كثير منهم ووجودهم بمصير الانقلاب ووجوده فشلا ونجاحا.
وأما الإستراتيجية الثانية، فهي قمع الخصوم والمخالفين بشدة، مهما كانت وسائلهم وطرقهم في التعبير عن رفض الانقلاب أو مخالفته في بعض تصرفاته، ودون مراعاة للفرق بين خصم كامل صريح وبين موافق يعترض على سلوكيات سياسية معينة.
"حكومة نتنياهو تسعى من خلال هذا التحالف إلى المحافظة على الدولة نفسها، ودرء المخاطر عنها، في حين أن الانقلاب المصري لا يهمه إلا بقاؤه هو، واستمرار قادته في سدة الحكم، ولو ماتت القضية الفلسطينية، وتحولت مصر كلها إلى جنازات وشواهد قبور!"
وأما الإستراتيجية الثالثة، وهي المهمة هنا، فتعتمد على الاستعانة بالأطراف الإقليمية المؤثرة سياسيا واقتصاديا، والمتبرعة بالمعونة من تلقاء نفسها، وفي مقدمتهم "الجارة القريبة" ذات الفعالية المخابراتية والدبلوماسية والعسكرية العالية، إسرائيل.
هذا عن الجانب المصري، فماذا عن الضفة الأخرى في "تل أبيب"؛ هل تبرعت بالمساندة والمساعدة ذات الأنواع المختلفة سرا وعلنا حبا في الخير، وسعيا إلى الرشد؟!
الحقيقة هي أن إسرائيل نفسها تعيش أزمة تاريخية، فخيار المقاومة لأجل التحرير هو الذي يسيطر على الحالة الفلسطينية الآن سيطرة كاسحة، ويثبت نجاحه بصورة متصاعدة على الرغم من مرارته. والذي يقارن تحولات الساحة الفلسطينية -منذ اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987 وإلى الآن- بعضها ببعض، يتجلى له هذا الأمر بوضوح تام.
إنه تلاقي الغرقى إذن، وكما قالوا: الغريق يتعلق بقشة، فما بالنا حين يصادف وهو يصارع الموج جذع شجرة أو سفينة كاملة؟!
ولا نريد أن نهوِّل في تصوير قدرات المقاومة الفلسطينية -التي تعمل في ظروف بائسة جدا- على تهديد وجود الدولة العبرية الآن، إلا أن التطور الطبيعي المرصود خلال ثلاثة عقود يرشحها للتصاعد وزيادة قدراتها على تهديد هذا الوجود خلال الزمن.
وهو أمر تدركه إسرائيل جيدا أكثر من غيرها، ومن هنا جاءها انقلاب الجيش المصري -بعد سنة مرسي "الكئيبة"- بفرصة ذهبية لا تُعوَّض، فراحت تستغلها لخنق المقاومة الفلسطينية، أو استنزافها في حروب جزئية، أو فتح جبهات القتال معها من جميع الجهات وبلا هوادة، مع إبقاء حدود غزة مع مصر مأزومة ومشتعلة باستمرار.
ومع هذا، فينبغي أن نميز تماما بين هدف الانقلاب وهدف الحكومة والأجهزة الإسرائيلية من هذا التحالف، إذ إن حكومة نتنياهو -مع حرصها على البقاء في صدارة المشهد السياسي الإسرائيلي وحرصها لأجل ذلك على إرضاء اليمين الإسرائيلي المتطرف بكل وسيلة- تسعى من خلال هذا التحالف -في المقام الأول- إلى المحافظة على الدولة نفسها، ودرء المخاطر عنها، في حين أن الانقلاب المصري لا يهمه إلا بقاؤه هو، واستمرار قادته في سدة الحكم، ولو ماتت القضية الفلسطينية، وتحولت مصر كلها إلى جنازات وشواهد قبور!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق