الثلاثاء، 30 ديسمبر 2014

بين البابا تواضروس والأسقف روميرو

بين البابا تواضروس والأسقف روميرو


خليل العناني*



يصرّ البابا تواضروس الثاني، رئيس أساقفة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر، على العيش في جلباب السلطة، فهو لا يكتفي، فقط، بالصمت على فسادها وإجرامها، وإنما، أيضاً، يبرر استبدادها وبطشها، حتى ولو كانت ضد أبنائه من الأقباط المسيحيين. 
وهو منذ انقلاب الثالث من يوليو، والذي لعب دوراً مهما في ترتيباته، وشارك بنفسه، وهو يجلس على يسار الجنرال عبد الفتاح السيسي، في أثناء إذاعة بيان الانقلاب، لم يمارس دوره الروحي والديني المفترض حسب تقاليد الكنيسة، بقدر ممارسته دوراً سياسياً صريحاً تعكسه تصريحاته المثيرة للجدل واللغط، والتي كان جديدها تحريضه السلطات على فرض مزيد من التضييق على الحريات على المواطنين المصريين، بدعوى أن لديهم الكثير من الحرية "الزائدة". 
وقد رفض البابا تواضروس، في حواره مع صحيفة "إلموندو" الإسبانية، أخيراً، محاسبة من تورطوا في دماء من سقطوا في مذبحة "ماسبيرو" عام 2011، على أيدي المجلس العسكري، ويدافع عن حسني مبارك وبراءته، ويرى أن دوره الحقيقي يجب أن يكون على "يمين" السلطة، تماماً مثلما يفعل غيره من شيوخ السلطان على الناحية الأخرى.

البابا تواضروس بحاجة لمزيد من القراءة والتعلم من أقرانه في أميركا اللاتينية الذين لعبوا دوراً مهماً في القضاء على الاستبداد، وقادوا حركات التحرر من السلطوية، وإسقاط الحكم العسكري، ودافعوا عن حقوق الإنسان، خصوصاً حقوق الطبقات العاملة والفلاحين. وهنا، أنصحه بقراءة قصة القس أوسكار روميرو، رئيس أساقفة السلفادور ومطران كنيسة سان سلفادور بين عامي 1977-1980.

لم يكن مجرد مناهض لحكم العسكر في السلفادور، والذين ارتكبوا مجازر مروعة بحق العمال والفلاحين، وإنما كان، أيضاً، مدافعاً أصيلاً عن حقوق الإنسان، وأنشأ منظماتٍ عديدة تدافع عن حقوق الفقراء والعمال والفلاحين، وتقدم لهم المساعدة الإنسانية والقانونية ضد السلطة. 
روميرو الذي بدأ حياته أسقفاً محافظاً ومتحفظاً على لاهوت التحرير، ووصايا المجمع الفاتيكان الثاني التي حررت الكنيسة الكاثوليكية من قيود فكرية وثقافية جامدة كثيرة سيطرت على الفكر المسيحي، لم يتحمل مشاهد القتل والعنف التي جرت بحق الأبرياء، تحت حكم الجنرال كارلوس هومبرتو الدامي، والذي ارتكبت ميليشياته وقواته مجازر واسعة بحق المعارضين له ولحكمه، فقام بتحريض الجنود وتشجيعهم على عدم إطاعة أوامر القتل، حفاظاً على أرواح الأبرياء.

كانت انتهاكات السلطة، خصوصاً ضد الفقراء والفلاحين في السلفادور سببا مهماً في ثورية الأسقف روميرو ونقطة تحول في طريقة تعاطيه مع السلطة وجرائمها.

فهو لم يقم فقط بإدانة عمليات القتل والتعذيب والاختطاف التي نفذتها "فرق الموت"، التابعة للجنرال كارلوس هومبرتو، وذلك في خطبه ومواعظه أيام الأحد، والتي كان يجري بثها على موجات الراديو في جميع أنحاء السلفادور وأميركا اللاتينية، وإنما قامت الكنيسة، تحت رعايته، بدور مهم وقوي، في توثيق هذه الجرائم، والمطالبة بتقديم المتورطين فيها للعدالة.
فقد تم إنشاء مكتب تابع للكنيسة الكاثوليكية في السلفادور، للمساعدة القانونية، أطلق عليه اسم socorro juridico، وهو المكتب الذي كان مسؤولاً عن توثيق انتهاكات حقوق الإنسان وتسجيلها، وتقديم المساعدة القانونية لأهالي الضحايا، فضلاً عن تقديم المأوى لفارين كثيرين من جحيم الصراع بين السلطة ومعارضيها، من أحزاب اليسار والحركات الشيوعية.

فسلفه كان هو الأسقف لويس جونزالس (1939-1977) الذي قاد عملية التغيير داخل الكنيسة الكاثوليكية في السلفادور،
وقامت بعملية "تحرير" فكري وعقلي للمسيحيين العاديين في بلاده، بتبنيه لاهوت التحرير، ونقله وصايا المجمع الفاتيكاني الثاني منتصف الستينات.لم يكن روميرو الأسقف الوحيد الذي رفض استبداد السلطة وانتهاكاتها في السلفادور، فقد سبقه مناضل آخر أكثر ثورية، ولحقه مناضل آخر أكثر دفاعاً عن حقوق الإنسان في بلاده.
كما كان له دور في الدفاع عن حقوق البسطاء من الفقراء والفلاحين، خصوصاً بعد المذبحة التي ارتكبها العسكر ضدهم عام 1932.
وخلال عهد جونزاليس، كان قد تم تشكيل أول مكتب للدفاع عن حقوق الإنسان، من أجل تقديم الدعم والمساندة للفلاحين والفقراء ضد انتهاكات السلطة.

أما خليفة رميرو فهو القس أرتورو ريفيرا، الذي كان كبير أساقفة كنيسة سان سلفادور بين عامي 1980 و1994، وكان مدافعاً شرساً عن حقوق الإنسان في السلفادور، وأنشأ، أيضاً، مكتب Tutela Legal التابع للكنيسة، من أجل تقديم المساعدة القانونية والإنسانية لضحايا الانتهاكات في السلفادور، وقد لعب المكتب دوراً مهما في توثيق جرائم السلطة ضد المواطنين، بالعمل مع الأمم المتحدة والصليب الأحمر، وغيرها من المنظمات الدولية المهتمة بقضايا حقوق الإنسان. وكان لهذه المنظمة دور مهم جداً في توثيق مذبحة "الموزوت" عام 1981، والتي راح ضحيتها نحو 800 شخص على أيدي العسكر.

دفاع الأسقف روميرو عن العدالة ووقوفه أمام انتهاكات العسكر كلفه حياته، فقد تم اغتياله، بينما كان يؤدي صلاته في قداس يوم الأحد، الرابع والعشرين من مارس/آذار 1980.

ويوم تشييع جنازته، أطلق العسكر الرصاص الحي على المشيعين، ما تسبب في سقوط ضحايا كثيرين.
رحل الأسقف روميرو، وبقيت سيرته الطيبة ومقولاته المؤثرة، ومنها أن "الكنيسة التي لا تدافع عن حقوق الفقراء، ولا ترفض الظلم، ليست الكنيسة الحقيقية ليسوع المسيح".


*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق