الثلاثاء، 30 ديسمبر 2014

كيف يمكن أن يرفضها مسلم؟!..


كيف يمكن أن يرفضها مسلم؟!..

بقلم: د.محمد عباس

عندما يضيق حذاؤك عليك فإنك تخلعه..
كذلك تفعل فى الملابس فتتخلص منها إذا ضاقت أو بليت..
بل إنك تفعل نفس الشىء مع ضرسك إن حار فيه الطبيب.. فتخلعه إن غلبك وجعه..
لكن..
إذا أوجعتك عينك .. هل تخلعها؟!..
أم تحتفظ بها حتى ولو كلّ منها البصر.. حتى ولو كانت عينا ناقصة..
إذا مرض قلبك.. هل تذهب إلى الطبيب ليستأصله؟!..
أم أن هناك ما تستحيل الحياة أو تصور الحياة دونه، لذلك فإننا – مهما أصابه من مرض - لا نتخلى عنه أبدا بل نحاول قصارى جهدنا علاجه.. مدركين أن فشلنا فى العلاج لا يعنى سوى الموت..
***
نفس الأمر ينطبق على الخلافة..
إننى أدرك أن بعض القراء – أرجو أن يكونوا قلة - سيفتح شدقيه ليصب اللعنات على هذا الكاتب المتخلف الرجعى الذى يريد أن يعيده القهقرى إلى جبروت وظلمات حكم الخلافة..
توقف يا مسكين..
توقف..
فلقد سمموا عقلك وزيفوا وعيك وغسلوا مخك ووضعوا لك ذاكرة مزيفة مغشوشة..
توقف فإنك مسموم.. وأنت تخرف.. فإن لم تكن تخرف فإنك تجدف..
توقف يا مسكين.. فليس ما بك شحم بل ورم.. وليس ما تظنه حيوية الحركة حركات بل تشنجات.. فتوقف واقرأ..
***
فى مقالات سابقة قلنا أن أحد المحظورات فى الفكر الإسلامى أن نحكّم عقلنا فى شرع الله.. فكيف يحكم الناقص على كامل والجزئى على كلى؟!..
قلنا أيضا أن الشريعة ثابتة والفقه متغير..
والآن.. هل الخلافة – أو الإمامة فالكلمتان تستعملان بذات المعنى – فقه أم شرع؟؟..
لقد ذهب جمهور علماء الأمة الإسلامية إلى أن إقامة الإمامة أو الخلافة الشرعية فرض أساسي من فروض الدين ، بل هو (الفرض الأعظم) الذي يتوقف عليه تنفيذ سائر الفروض ؛ لأنه - كما يقول الجرجاني - : (من أتم مصالح المسلمين وأعظم مقاصد الدين) .
بل بلغ الأمر أن دراسة الخلافة تأتى فى أبواب العقيدة والتوحيد لا فى أبواب الفقه..
***
حتى الحرب العالمية الأولى لم يكن هناك بين المسلمين فى شتى أرجاء العالم مسلم يشك فى وضع الخلافة فى الإسلام كإمامة عظمى ( مقارنة بالإمامة الصغرى فى الصلاة)..
كانوا يدركون أن الأمور تختل، وأنها يجب أن تعود إلى النموذج المرسوم، وكانوا يعلمون أنها منذ قرون وهى خلافة ناقصة، وكان الأمل أن تعود وتكتمل.. لا أن تلغى وتهدم..
وكما يقول أنور الجندى فى كتابه أصالة الفكر الإسلامى فى مواجهة التغريب والعلمانية والتنوير الغربى- دار الفضيلة:
" كان إسقاط الخلافة الإسلامية من أكبر أهداف النفوذ الأجنبى الزاحف على العالم الإسلامى وكان المخطط يرمى إلى تفكيك وحدة المسلمين وتمزيق المجتمع الإسلامى إلى وحدات متفرقة وقد عملت بريطانيا التى كانت تقود الحرب ضد الإسلام والأمة الإسلامية على رسم خطوات هذه المؤامرة التى بدأت بعزل السلطان عبد الحميد وتولى الحكم فى الدولة العثمانية أعدى أعداء الإسلام : الاتحاديون الذين رسموا الخطة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك الذى لم يكن فى أغلب كتابات المؤرخين المنصفين مسلما ، بل كان من الدونمة ، ووقفت بريطانيا وراء الخطة وعندما تحرك مسلمو الهند كلفت المستشرق " مرجليوث " كتابة دراسة يدعى فيها أن الخلافة ليست من الإسلام، ولما ذهب الشيخ على عبد الرازق ليدرس فى بريطانيا أهداه هذا الكتاب الذى أصدره باسمه تحت عنوان ( الإسلام وأصول الحكم ) . كان هدف الكتاب ضرب الإسلام فى عقيدة من أكبر عقائده وفريضة من أعظم فرائضه وهو أنه دين ودولة ونظام ومجتمع ومن ثم فقد عبر الكتاب عن وجهة نظر الاستشراق اليهودى التلمودى الهدام وقد واجه الكتاب ومؤلفه حربا شديدة وكشف عن الزيف الذى ذهب إليه على عبد الرازق ، حين ادعى أن الإسلام ليس دين شريعة ونظام مجتمع وحكم ولكنه منهج عبادى شأنه شأن المسيحية وغيرها ، ولقد كذب علماء الإسلام دعوى على عبد الرازق وتكشف من بعد أن هذا الكتاب لم يكن إلا ترجمة لكتاب مرجليوث ، ولقد واجهت حركة اليقظة الإسلامية كتاب على عبد الرازق المنحول وفندت فساد وجهته وأخطاءه ولكن قوى التغريب ما تزال تعيد نشره وطبعه مع مقدمات إضافية يكتبها مضللون شعوبيون يخدعون الناس بألقابهم وأسمائهم ".
وكان ممن انبروا للرد على كتاب مرجليوت المنسوب إلى على عبد الرازق الدكتور السنهورى الذى قدم فى رسالة للدكتوراه مشروعا يرمى إلى تطوير الخلافة كما عرضها الفقهاء. وكان من رأيه إزاء فداحة الانهيار أنه: إذا كان هناك استحالة في إقامة نظام خلافة راشدة أو كاملة فلا مناص من إقامة حكومة إسلامية غير كاملة على أساس حالة الضرورة للظروف التي يمر بها العالم الإسلامي حالياً "عام 1925م" . وأن هذا النظام الناقص يجب اعتباره نظاماً مؤقتاً لحين التمكن من إقامة النظام الراشد مع العلم بأن الشريعة لا تفرض شكلاً معيناً لنظام الحكم.
***
على أننى قبل أن أستطرد فإن علىّ أن أنوه بردود كثيرة جاءتنى بالبريد الإليكترونى، والحقيقة أننى دهشت لأن معظمها يعتب علىّ فى الاستشهاد والإشادة بالدكتور السنهورى، فهو من وجهة نظرهم الذى وضع الدساتير العلمانية على حساب الشرع..
ولست أحب لنفسى ولا لكم يا قراء أن نستهلك جهدنا فى جدل فرعى لن يسهم فى حال صحته بتقريبنا من الحقيقة أبدا، أما فى حال بطلانه فلن يسفر إلا عن صرفنا عن هذه الحقيقة.
وبرغم أننى أحترم الدكتور السنهورى إلا أننى أومن بأن الرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال، و أن كل الناس عدا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يؤخذ منه ويرد عليه.
 ثم أننى أضيف أن ما آخذه من الدكتور السنهورى هو موقفه من الخلافة، وهو موقف صحيح. ولنا جميعا الحق فى أن نرده فيما نحسب أنه أخطأ فيه. لكننى إحقاقا للحق أضيف أن الرجل كان ذا باع طويل فى الدفاع عن الشريعة، وله مؤلفات عديدة فى ذلك يسدل الطواغيت ستائر التعتيم عليها، وربما كان عدم الاطلاع على هذه الأعمال سببا فى تشوه صورة بعض القراء عنه.كما أنه فيما وضع من دساتير حاول قدر ما استطاع أن يعيد الشريعة إلى تبوء عرشها القديم، لكنهم أخذوا منه ما يتفق مع أهوائهم وتركوا ما يتفق وشرع الله، وقرءوا ما كتب قراءة من يقرأ : " ويل للمصلين " ثم يصمت..!!..
***
منهج سيادة الشريعة كان منهجا أصليا فى فكر السنهورى، ولقد كان رد فعله سريعا وعمليا على سقوط الخلافة (1924) وعلى كتاب الإسلام وأصول الحكم، حيث كان فى فرنسا، وكان قد حصل بالفعل على شهادة الدكتوراه، لكنه تقدم برسالة أخرى إلى جامعة السربون عن ضرورة إعادة الخلافة.. وحصل عليها بالفعل عام 1926 ، ولقد كتب هذه الرسالة بوازع دينى رغم عدم تكليفه بها وتحذير أساتذته من صعوبتها والمناخ الأوروبي السياسي والفكري المعادي لفكرتها!.
وواصل جهوده وجهاده فتقدم برسالة إلى مؤتمر "لاهاي" للقانون الدولي سنة 1932م
أثبت بها لأساطين القانون أن الشريعة الإسلامية هي الأرقى -حتى بمقاييس العصر الحاضر-، وهي الأنفع والأوفى، إذا ما قورنت بالمنظومات القانونية الأخرى، وقد بلغ من تأثير هذه الرسالة على هذا المؤتمر الدولى أنها لفتت أنظار فقهاء القانون الغربي، إلى تميز-بل وامتياز- الشريعة الإسلامية، الأمر الذي انعكس في اعتمادهم الشريعة الإسلامية منظومة قانونية عالمية متميزة.
أحب أن أنبه القراء أيضا أن السنهورى قد اتخذ ذلك الموقف والعالم الإسلامى كله فى قمة الانهيار أمام الغرب والانكسار أمام جيوشه والانبهار بحضارته.. لم تكن الصحوة الإسلامية قد أدت بنا إلى ما وصلنا إليه الآن من إدارك للزيف والعفن فى تلك الحضارة..
***
فى دراسة للدكتور محمد عمارة يوجز الأمر بقوله : "أراد السنهوري وكتب وعمل للنهضة العامة للشرق الإسلامي، ولقد قاده القانون إلى ضرورة تأسيس هذه النهضة الشرقية العامة على الشريعة الإسلامية، فكانت مخططاته ودراساته وآراؤه حول ضرورة بعث الشريعة الإسلامية بالاجتهاد الجديد والدراسات المقارنة والحديثة، لتتخطى هذه الشريعة الغراء أعناق القرون، فتعود -ثانية- المرجعية الحاكمة، لا في القضاء والقانون والتشريع وإنما المرجعية الحاكمة في كل ميادين الثقافة والفكر والعلم والقيم والحياة.
"فالرابطة الإسلامية-كما يقول السنهوري- يجب أن تفهم بمعنى المدنية الإسلامية، وأساس هذه المدنية الشريعة الإسلامية …". فالشريعة الإسلامية هي أساس المدنية الإسلامية، التي هي الصيغة الحضارية للنهضة الشرقية.
ولذلك جعل السنهوري من بعث الشريعة الإسلامية بفتح باب الاجتهاد الجديد فيها مشروع حياته، بل وحلمه في هذه الحياة.
وكتاب الدكتور السنهوري (فقه الخلافة وتطورها) كتبه منذ عام 1926، ولم يتصد لترجمته لنشره على قراء العربية سوى ابنته
 ( وزارات ثقافاتنا وأجهزتنا الإعلامية وصحفنا الكبرى مشغولة بقضايا أهم من الخلافة.. كقصص الجنس ومسارح العرى وروايات الكفر و..و..و.. ألا شاهت الوجوه‍‍)..
يقع الكتاب فيما يقارب الأربعمائة صفحة ، وفى دراسة لمحمد سيد بركة يوجز فيها اتجاه الكتاب حيث يرى الدكتور السنهورى أن الخلافة هي الحكومة الإسلامية الكاملة وأن خصائص الخلافة تتميز عن الحكومات الأخرى بالخصائص الثلاث الآتية:
1- أن اختصاصات الحكومة "الخلافة" عامة ، أي تقوم على التكامل بين الشؤون الدنيوية والدينية .
2- أن حكومة الخلافة ملزمة بتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية .
3- أن الخلافة تقوم على وَحدة العالم الإسلامي .

ومتى اجتمعت هذه الخصائص في الحكومة الإسلامية أصبحت حكومة شرعية مهما يكن شكلها واستحقت أن توصف بأنها حكومة الخلافة .
***
والآن.. فلنقف وقفة قصيرة لنواجه صنفين من الناس يرفضون الخلافة ممن يحملون أسماء كأسمائنا وألسنة تنطق كألسنتنا ويدعون دينا هو ديننا..
الصنف الأول هو الغالب، وهو يتشكل من جمّ غفير وجمع كبير من ضحايا وسائل إعلام يتنافس فيها إعلام الحكام مع وسوسة الشيطان، هم الذين زيفوا وعيهم وغسلوا مخهم، فأصبح مفهوم الخلافة عندهم يعنى الظلم والظلمات، وهذا صنف ما أن يعرف الحقيقة حتى يتبعها ( وهذا ما يخيف الغرب ووكلائه وعملائه أشد الخوف).
 أما الصنف الثانى فهم الأقلون الأخسرون لكنهم الأشد خطورة.. إنهم على وعى كامل بالحقيقة، لكنهم يبدلونها تبديلا فى سبيل هدم الإسلام كله، ومن هؤلاء من يساهم فى تشويه تاريخنا كله بالكذب البواح كى يصل إلى مبتغاه.
لنواجه هؤلاء وأولئك بمفهوم لخلافة.. والذى ينحصر فى أمرين جوهريين تندرج تحتهما التفاصيل الأخرى.. :
- تطبيق الشريعة الإسلامية..
- ووحدة العالم الإسلامى..
***
ذلك هو مفهوم الخلافة.. فإن جاز أن يرفضه الشيطان و أعوانه والغرب وعملاؤه .. فكيف يمكن أن يرفضه مسلم..؟!..

تاريخ النشر: 2014-12-28

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق