سليم عزوز
إيطاليا ليست حاضرة في المشهد المصري، بكل تفاصيله، وهي لا تُذكر إلا في صفحات الحوادث، عند ذكر تعرض مهاجرين مصريين غير شرعيين لمكروه في طريقهم إليها عبر البحر، فهي ليست من الدول التي دعمت الانقلاب، من أول الولايات المتحدة الأمريكية إلى إسرائيل، مرورا بفرنسا وروسيا، تلك الدول التي تسيرت بعد الربيع العربي، أي ذكرت سيرتها، باعتبارها قوى استعمارية، ونظرت إلى بلدان الثورات على أنها ليست أكثر من مستعمرات قديمة، ينبغي ألا تنهض ويكون لها الحق في اختيار من يحكمها، وأن تشعر شعوبها بالعزة، ويتكلم حكامها الذين هم من اختيار هذه الشعوب عن الاستقلال الحقيقي الذي لن يتأتى إلا بصناعتها لسلاحها ودوائها وإنتاجها لغذائها!.
قوى الاستعمار القديم، لم تكتف بدعم الثورة المضادة، بالاعتراف بها وحسب، وإنما قامت بإبرام صفقات في التسليح، وغير ذلك، وقد ظلت فرنسا بعيدة عن بلادنا، وانشغالها كله انصب على دول المغرب العربي، تمارس عليه نفوذها القديم، وعندما قامت الثورة في تونس، حرضت أتباعها من نخبة فاشلة لتعويق مسيرة الديمقراطية، وإفشال أي قوى تعبر عن هوية البلاد وانتمائها!.
لكن، فرنسا لم تكتف بالقسمة القديمة بينها وبين قوى الاستعمار الأخرى، وإنما جعلت من مهامها تدعيم موقف قائد الانقلاب العسكري في مصر، "عبد الفتاح السيسي" وتقديمه على أنه شريك، و"الشراكة" هنا تُذكر من باب التلاعب بالمفردات، لكن المستهدف هو التبعية، لتكون بلد الجن والملائكة، كما وصفها طه حسين في سيرته الذاتية "الأيام"، "كفيل"، وقد تكاثر على مصر "الكفلاء" بعد الانقلاب العسكري، فحتى الإمارات صارت "كفيلا"، ولم تعد واشنطن فقط هي "الكفيل العام" لحكام المحروسة كما كان الحال في عهد المخلوع حسني مبارك.
ورغم عملية التزاحم هذه، فإن "إيطاليا" ظلت بعيدة، وفي زيارته لها، في إطار سعيه للحصول على شرعية خارجية تغنيه عن الجماهير التي أعطته ظهرها في الانتخابات الرئاسية التي نافس فيها نفسه، بدا رئيس الوزراء الإيطالي غير مكترث بالسيسي، وبما يقول، وفي المؤتمر الصحفي لهما، تركه يتكلم وأخذ يعبث في هاتفه الخلوي، متخليا عن اللياقة وعن الدبلوماسية، على نحو مثل إهانة منه لضيفه، وعندما انتهى من لعبته على النقال، نظر إليه فوجده يتكلم فنظر خلفه بدون مبرر، وبدون أن يكون مشغولا بالمتكلم أو بما يقول.
وعندما يقوم إرهابي، باستهداف قنصلية لبلد ليست مشغولة بنا، فإن هذا كاشف عن أنه "إرهابي أحول"، إلى جانب أنه "طيب"، على نحو كاشف بأننا كما دخلنا مرحلة "الإرهاب الأحول"، فقد دخلنا مرحلة الإرهابي رقيق المشاعر، وطيب القلب!.
فقد راع هذا "الإرهابي الأحول" والطيب في نفسه الوقت، أن يقوم بعمليته في يوم السبت، وهو إجازة أسبوعية في السفارات وتوابعها، فضلا عن قيامه بعمليته الإجرامية في وقت مبكر، وفي السادسة والنصف صباحا قبل نزول الناس من بيوتهم، ليضمن أن يكون ضحاياه ليسوا كثرة، فما هي الضرورة الموضوعية التي تجعل مصريا في نهار رمضان ينزل للشارع مبكرا قبل بدء "الدوام" و"العمل الرسمي"، الذي يكون بعد التاسعة صباحا!.
وليس هذا فقط الكاشف عن مواصفات الإرهابي وكونه "أحولا"، فالشاهد أنه كان على بعد خطوات من هدف أكثر أهمية للإرهابي غير "الأحول" وهو مبنى دار القضاء العالي، الذي يتولى الحكم على الإرهابيين، وقد حكم على عدد منهم بالإعدام والسجن، وجاري الحكم بإعدام عدد آخر، وعندما يترك الإرهابي مرتكب العملية هذا الهدف، ويفجر هدفا أقل أهمية، فلا نلام إذا وصفنا سيادته بأنه "أحول"، ولا نكون هنا قد ارتكبنا في حقه ما يستدعي إنزال عقوبة السب والقذف المقررة في القانون علينا، فأنا أصفه ولا أسبه أو أقذفه!.
ومن الأدلة التي تؤكد على أن الفتى "أحول" هو ما قالته النيابة العامة في تقريرها الذي أشارت إليه جريدة "الوطن" من أن السيارة المتفجرة كانت في اتجاه آخر، وهي التي كانت تحمل المتفجرات، ورغم أنها قد صارت كما وصفتها مذيعة التلفزيون المصري بعبقريتها اللغوية "أشلاء"، إلا أن النيابة تمكنت من أن تجمع "أشلاءها" وتكتشف بعد عملية "التجميع"، و"إعادة التصنيع"، أنها كانت في اتجاه هدف آخر، ولكن لأن المسؤول عن العملية "أحول"، فقد أصاب هدفا آخر هو القنصلية الإيطالية.
فيبدو، والله أعلى وأعلم، أن الإرهابي كان سينعطف يسارا حيث دار القضاء العالي، فوجد نفسه ينعطف يمينا حيث القنصلية الإيطالية فأصابها في مقتل!.
هنا رؤية أخرى إذا استبعدنا "الحول" عن هذا "الأحول"، وهو بسبب تعسف مرور القاهرة، الذي أغلق منذ سنوات "فتحة الإسعاف" للقادم من الزمالك، والمهندسين، وبولاق أو من ميدان رمسيس وما قبله، ويريد الوصول لشارع رمسيس حيث دار القضاء العالي ووسط القاهرة وميدان العتبة فالحسين والدراسة وما إلى ذلك!.
فقد صارت "الفتحة" التي تسمح بمرور السيارات في الاتجاه سالف الذكر بعد مائتي متر وبالقرب من ميدان عبد المنعم رياض، وربما قال الإرهابي في سره، إن هذا الطريق يحتاج لخمسة دقائق أخرى للوصول للهدف، فرأى أن يفجر الأقرب وهو القنصلية الايطالية من باب "خير البر عاجله"!.
لست مع هذه الرؤية، لأن تقرير النيابة، كما ذكرت جريدة "الوطن"، قال إن السيارة المتفجرة كانت في اتجاه آخر، كما أثبتت المعاينة. ولا مناص من تبني رؤية "الإرهاب الأحول".
ولأنه "أحول" فقد كانت تفجيراته في القنصلية الايطالية في شارع الجلاء، فإذا بها عابرة للشوارع، كمرحلة أولية قبل أن تتحول إلى عابرة للقارات، فتخرج من شارع الجلاء حيث تقع السفارة، إلى شارع رمسيس، وتنعطف التفجيرات إلى شارع عبد الخالق ثروت، وتترك مبنى نقابة المحامين، وتصيب المبنى الذي يليه وهو مبنى نقابة الصحفيين، حيث تهشمت الواجهة الزجاجية للمبنى، ووقعت تلفيات بداخل المكاتب، كما لو كانت النقابة تعرضت لتفجير مستقل.
واللافت، إذا كان "التفجير الأحول" في نيته استهداف الواجهات الزجاجية، فقد كان على بعد خطوات من القنصلية الايطالية ولـ "فركة كعب" وعلى نفس الرصيف، يقع مبنى مؤسسة "الأهرام" بواجهته الزجاجية أيضا، ولم يكن الأمر يستدعي عبور الشوارع، ليروى التفجير ظمأه بالنيل من زجاج الواجهة، ونقابة الصحفيين بالذات، وهي التي تقود المواجهة ضد مشروع قانون الإرهاب لما تضمنه من سعي سلطة الانقلاب لإلغاء مهنة الصحافة، وإبطال نظرية تعدد المصادر كضرورة مهنية من ضرورات الخبر الصحفي والاكتفاء بما يعلنه المصدر الرسمي في الجرائم الإرهابية!.
حتى كتابة هذه السطور، وبعد مرور أكثر من أربع وعشرين ساعة من وقوع الحادث، لم يعلن المصدر الرسمي حقيقة ما جرى، وإن كانت وكالة "رويترز" التي تنافس وكالة "أنباء الشرق الأوسط" الرسمية في التقرب من الانقلاب العسكري، قد ذكرت أن "داعش" هي من أعلنت مسؤوليتها عن الحادث على مواقع "موالية" على الانترنت. وهو خبر من بضع كلمات ويفتقد للجدية المهنية!.
اللافت أنه رغم "حول الإرهابي" الذي قام بالعملية، أنه لم يتم القبض عليه، واللافت كذلك أنه رغم "حوله" واستخدامه سيارة تحمل 450 كيلو غرام من المادة المتفجرة، قيل أنها نفس المادة المستخدمة في حادث اغتيال النائب العام، إلا أنه تمكن من أن يصل إلى مبتغاه في وسط العاصمة المصرية في أمان، فلم توقفه لجنة من لجان الشرطة المرابطة في الشوارع، ولم تتمكن قوات الجيش التي لا تزال حتى الآن تمارس عملها وسط المدنيين، من القبض عليه قبل ارتكاب جريمته، ولم يتشكك رجال الأمن فيما يحمله ولا تتسع له حقيبة يد، ولا يعقل أن كل اللجان اعتقدت أن المتفجرات هي بطيخ أو مانجو تيمور في طريقه لسوق العبور!
واللافت كذلك، أنه رغم "الحول"، وقوة التفجير الذي سمع دويه سكان القاهرة جميعا، وأصاب مبنى نقابة الصحفيين من بعد، فإن "الأحول" تجنب إصابة حرس القنصلية الذين لم نسمع لهم ذكرا في الموضوع، لا بين الموتى ولا بين المصابين، ولا بين الذين احتشدوا في التو واللحظة يهتفون بإعدام الإخوان، وتنفيذ حكم الإعدام في الرئيس محمد مرسي!.
وربما لأنه "أحول" فقد استهدف أمن القنصلية، فأصاب المارين في الشارع لدواعي "الحول"!
ويل لنا من الإرهاب الأحول!
azouz1966@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق