وائل قنديل
عندما يكون عبد الفتاح السيسي هو المصدر الرئيس، والوحيد، للتشريع في مصر، فلا تندهش عندما يتحول الدعاء إلى وسيلة أساسية للاقتراب من التغيير والإصلاح، في بلد قتل السياسة، ويقتل كل من يريد الاشتغال بها، بما لا يوافق رغبة الحاكم.
انظر إلى ردود أفعال المصريين مع صلاة التراويح التي أمّ فيها المصلين الشيخ محمد جبريل في مسجد عمرو بن العاص، احتفالاً بليلة السابع والعشرين من رمضان، وانظر إلى تلقيهم احتفال عبد السيسي بليلة القدر في عز ظهيرة اليوم التالي، لموعد ترقبها. في ليلة محمد جبريل، اهتزت القلوب، ودمعت العيون، وتفجرت ينابيع من الخشوع والرهبة مع تضرع القارئ ذي الصوت الصادق الشجي إلى الله، داعياً على القتلة وسافكي الدماء ومزيفي الوعي ومفسدي الذوق.
لم يحدد جبريل أسماء بعينها، غير أن السيسي وتابعيه بإجرام تحسسوا رؤوسهم وتفحصوا، وبمنطق "يكاد السيسي يقول خذوني"، تسربت الأخبار عن بدء تحقيقات عاجلة في دعاء خطيب مسجد عمرو بن العاص على "الإمام السيسي".
ستكون التهمة التي يدور حولها تحقيق وزارة الأوقاف، إن صح الخبر، هي ورود ما يلي على لسان جبريل "اللهم عليك بمن سفك دماءنا، ويتّم أطفالنا، اللهم عليك بالإعلاميين الفاسدين، سحرة فرعون، اللهم عليك بالسياسيين الفاسدين، اللهم عليك بمن ظلمنا، اللهم عليك بمن اعتدى على حرمات البيوت، اللهم عليك بمن طغى وتجبر، اللهم عليك بشيوخ السلطان".
اترك محمد جبريل واذهب إلى خطبة السيسي، في ظهيرة اليوم التالي، محتفلاً بليلة القدر، ودعك من تخريفه وتجديفه في مضمار الدين، ولا تركز كثيراً في حزمة "الإفيهات" التي وردت على لسانه، وهو يتحدث عن تجديد الخطاب الديني، من كلامه عن "شباب كثير ألحدوا بس ما سابوش الإسلام"، إلى قوله "يعني ربنا هيعذب بشر يوم القيامة عشان لم يؤمنوا به؟ لا دي حاجة صعبة قوي".
دعك من كل ذلك، ودقق جيداً في كيف استقبل المصريون هذه التجليات السيسية، إذ باتت القاعدة تقول إنه كلما خطب السيسي كان الشعب المصري على موعد مع مائدة عامرة بأطباق التنكيت والسخرية الحراقة.
وبالتالي، لا أحد يتعامل مع هذا الهراء بجدية، حتى وإن تظاهر الناس بذلك، خوفاً من بطش، وطمعاً في النجاة من سلطة حمقاء، تعتبر وجود كتب وأقلام في حقيبة طالب جامعي دليل اتهام وإدانة، وتهتم ببناء السجون أكثر من اهتمامها بعمارة دور العبادة، وتصادر حق البشر في الدعاء والتألم والتأمل.
كان عبد الفتاح السيسي منهمكاً في سفسطاته وتنظيراته العميقة في الدين وأصوله وخطابه، بينما العلماء في السجون والمعتقلات، وأمام لجان التحقيق والتأديب، حتى وإن كانوا بحجم النائب السابق لشيخ الأزهر ورئيس مجمع اللغة العربية.
كان يواصل ترويج مخدرات الوعود الكاذبة بالوطن الذي تمتد حدوده من الأرض إلى المريخ، والمشروعات التي تجعل السحاب يمطر ذهباً وعسلاً، بينما شباب مصر أصحاب السواعد القوية بين مسجون ومعتقل ومطارد وباحث عن وسيلة للخروج، ومن بقي منهم يمتهن التصفيق والهتاف بحياة الزعيم الذي يريد أن يقضي على بطالة الشباب بالتخلص من الشباب أنفسهم.
كتبت، قبل يومين، أن سلوك عبد الفتاح السيسي على هذا النحو يشي بأنه تتلبسه حالة الحاكم بأمر الله، فكلاهما مولع بالهيمنة على كل السلطات، الدينية والدنيوية، وكلاهما أفرط في اتخاذ القرارات والمراسيم، من دون الرجوع لأحد.
وإذا كان عبد الفتاح السيسي يحتفل بليلة القدر في منتصف النهار، فإن روايات تاريخية لم يقطع أحد بصحتها، ولا خطئها، تقول إن "الحاكم بأمر الله" أصدر مرسوماً بأن يؤذن لصلاة الظهر في أول الساعة السابعة، ويؤذن لصلاة العصر في أول الساعة التاسعة. غير أن التاريخ يقول عن الحاكم بأمر الله، أيضاً، إنه "فتح دار الحكمة بالقاهرة وحمل الكتب إليها وانتصب فيها الفقهاء والقراء والنحاة وغيرهم من أرباب العلوم، وفرشت وأقيم فيها خدام لخدمتها، وأجريت الأرزاق على من بها من فقيه وغيره، وجعل فيها ما يحتاج إليه من الحبر والأوراق والأقلام".
لذا.. وجب الاعتذار لذلك الحاكم التاريخي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق