القنبلة الموقوتة
آيات عرابي
بعد أيام قليلة من الإنقلاب كنت اشارك في احدى المظاهرات الرافضة للإنقلاب في ميدان تايم سكوير بنيو يورك, جائتني احدى مراسلات فوكس نيوز وكنت قد تعرفت عليها أثناء اجراء لقاء مع زميلها المصري, في برنامج كنت أقدمه على قناة إيه آر تي.
بعد السلامات الروتينية, سألتني عن سبب وجودي بالمظاهرة, فلما اجبتها انني جئت اتظاهر رفضاً للإنقلاب, علت وجهها علامات استغراب لم تحاول اخفاءه, ودار بيننا حوار مقتضب, سألتها إن كانت ستجري لقاءات, فاجابتني بتباسط أبناء المهنة الواحدة, أنها ستجري لقاءات ولكنها لن تجري لقاءً معي وأنه من غير المفترض أن تظهر مثلي في الصورة (هكذا قالتها), فاندهشت وشاركتني بعض المصريات اللواتي حضرن الموقف دهشتي, وسألتها عن السبب, فاجابتني بأنه من المفترض أن نعرض مؤيدي مرسي كإسلاميين فقط.
كان تلك المكاشفة المذهلة في بداية الإنقلاب هي مفتاحي لرسم صورة واضحة للمشهد لألمس ملامح عملية الإدارة الصهيونية الخفية للمعركة الإعلامية خلف الستار.
جعلني هذا المس البعد الإجرامي الخطير خلف أغنية (احنا شعب وانتو شعب) بخلاف بذاءة العمل وانحطاطه.
ويمكنك أن تملس ملامح خطة دعائية ما تبدو البصمة الصهيونية فيها واضحة, إذا ما عدت لتفحص كل كلمة قيلت قبل الإنقلاب, مثل الحملة التي دشنتها المخابرات عبر إعلام العسكر لوصف الإخوان المسلمين بالخرفان.
وهي مسائل قُتلت بحثاً في السابق, والخلاصة أن هناك مخططاً مرسوماً بعناية منذ البداية لبث الفرقة, كان يهدف في مراحله الأولى إلى عزل الإخوان المسلمين نفسياً لتبرير كل المجازر التي خطط العسكر لارتكابها في حقهم, كما يتبين لاحقاً أنه يهدف إلى تهيئة الأجواء المجتمعية في مصر لحالة من التشاحن وصولاً لنقطة اللا عودة التي يصبح فيها الصدام بين مكونات المجتمع حتمياً.
وإن كانت لحظة إلقاء بيان 3 يوليو المشؤوم التي وقف فيها ذلك المجرم التعس يزدرد لعابه ويلقي بيان 3 يوليو بنظرات زائغة هي اللحظة التي بدأ عندها تأثير الدومينو إيذانا بتفكك يصعب رأبه, فإن اللحظة التي سيبدأ فيها تشغيل سد النهضة هي اللحظة التي ستبدأ فيها موجة كاسحة من الخراب في اجتياح مصر.
اللحظة الثانية التي رسخت لعملية الهدم المجتمعي القادمة كانت مجزرة رابعة, كان مشهد المجزرة مكملاً لمشهد 3 يوليو, وباكتمال المشهد اصبح هناك ثأر ودماء يمكنها العمل كمفجر لمخزون من البغضاء المجتمعية التي لا تنتهي.
بالإضافة إلى ذلك رسب الجيش المصرائيلي في أهم اختباراته عبر حياته المليئة بالهزائم.
كانت البذرة التي وضعها محمد علي رجل فرنسا في مصر للدولة العلمانية تقوم على وجود جيش علماني لا يحكمه دين, واختبر رجل فرنسا جيشه في أكثر من جريمة في الحجاز والعراق وحارب جيوش الدولة العثمانية لإضعافها أكثر من الداخل, بل وقصف المصريين في قراهم بالمدافع وحصد 4 آلاف شهيد من المصريين الذين ثاروا على التجنيد الإجباري, وعلى الرغم من ذلك, لم يكن قد تم نسف السقف الذي يحكم المجتمع بعد, فكانت الخلافة ما تزال قائمة ولو اسمياً, وظل الدين سقفاً يحكم تصرفات الجميع وإن كان بصورة أقل مما كان عليه الحال قبل الاحتلال الفرنسي, وربما كان هذا بالتحديد هو ما مهد لظهور عرابي وثورته على الخديوي توفيق, واطلق علماء الأزهر فتوى بتكفير الخديوي لاستعانته بالانجليز ولكن في النهاية وقع الاحتلال ودخل البريطانيون القاهرة.
لم يكن بإمكان الاحتلال البريطاني أن يخاطر ويحتفظ بذلك الجيش الذي ظهرت فيه بؤرة مقاومة تعتبر الخلافة العثمانية سقفا لها, على الرغم من 42 سنة قضاها محمد علي وابناءه في إفساد كل شيىء وفي فصل كل مظاهر الدولة عن الدين.
فكان قرار البريطانيين بحل جيش عرابي وانشاء قوة عسكرية من 6 آلاف من الساقطين الذي رضوا بالعمل تحت علم بريطانيا, وكان التأسيس الثاني لمنظومة الجيش والذي سيصبح فيما بعد عمود الخيمة في دولة العسكر.
وعلى الرغم من فساد البذرة والبصمة البريطانية الخالصة من البداية وعلى الرغم من التجديدات الأمريكية في عهد المقبور عبد الناصر والتي تلتها ترميمات سوفييتية في عهده لأسباب يطول شرحها, ثم إعادة توجيه منظومة المخابرات أمريكياً من جديد بدءاً من سنة 1971 ثم الطلاء الإسرائيلي بعد معاهدة السلام, كان أمام ذلك الجيش فرصة لا تتكرر لإثبات أنه جيش الشعب حقيقة كما يحلو للبعض أن يرددوا.
كان دخول الجيش المصرائيلي على الخط وقصفه لأهالي سيناء ومشاركته في مجزرة رابعة وفي الاعتداء على طلبة الجامعات وفض المظاهرات, بمثابة إفاقة من حالة السبات الصناعي التي وُضع فيها إعلامياً ليمارس مهمته التي انشيء من أجلها وهي حماية الكيان الصهيوني والعمل كقوات أمن مركزي تمنع الشعب من الثورة.
حالة اصطفاف كامل, فالجيش المصرائيلي ومؤسسات العسكر اصبحت تمارس دور العدو علانية ودون مواربة.
وبعد ذلك تبدأ قنبلة سد النهضة في العمل لتفكيك هيكل المجتمع وتحويل مصر التي ظلت بلداً (ولا أقول دولة) متماسكاً طيلة 6 آلاف سنة.
وخطورة سد النهضة تأتي من نسفه للأساس الذي قامت عليه مصر, النيل الذي قامت حوله الحضارة, وهو العامل الذي كفل مركزية الدولة وعدم تفتيتها حتى الآن كما يقول الرائع الراحل محمد جلال كشك وكما قال العبقري الراحل د. جمال حمدان.
فلأول مرة في تاريخها يتم نزع الغراء الذي يلصق مكونات المجتمع ويكفل لمصر شكل الدولة ويحفظ مركزيتها. خطورة سد النهضة لا تأتي فقط من نقص حصة مصر من المياه, بل تمثل تلك الجريمة الشيطانية تعدياً على مركزية مصر وعلى الزراعة التي قام حولها المجتمع, فالمزارع هو الأساس الذي قام فوق أكتافه المجتمع, وتدمير الزراعة كفيل بتحويل مصر إلى خرابة حقيقية من العصر الحجري وإشعال موجات من الحرب الأهلية والمجاعات والتقاتل على الطعام, والهجرات الجماعية.
مشاهد سكان يرتدون الخيش ويتجمعون حول برك المياه الراكدة أو بجانب بالوعات الصرف الصحي المتبقية يقومون بشواء جثة حمار نافق أو يصطادون بشراً لأكل لحومهم, ليست خيالية ولا يفصلنا عنها الا سنة أو سنتين على الأكثر.
وفي هذه الحالة سيتمكن العدو الصهيوني من وضع يده على سيناء ولكن سيبقى أمامه قبل هذا الهدف أن يحيد التهديد الذي يمثله مسلحو ولاية سيناء, وهو ما يفسر لك شيك الدعم على بياض الذي منحه الغرب لمجرم الإنقلاب والقوات الدولية التي تنساب إلى سيناء.
ووسط هذا كله, فالقنبلة الموقوتة التي يجب إيقافها هي ذلك الجيش المصرائيلي, والذي يدير ظهره لعملية بناء سد النهضة ويقمع الشعب في محاولة لمنعه من الثورة على وكلاء نتن ياهو في القاهرة.
ولا أرى ضرراً على مصر كلها أشد من الخرافات التي يروج لها البعض عن شرفاء الجيش الوهميين, وهي مسكنات تخدر معسكر الثورة وتمنح الجيش المصرائيلي وقتاً ثميناً يحتاجه للمزيد من القضاء على الثورة, مما يوفر الوقت لاستكمال سد النهضة وتصب في مصلحة الكيان الصهيونية حتى تصبح مصر كلها أمام واقع جديد ينهي تاريخها.
اوقفوا تلك القنبلة الموقوتة وسرحوا الجيش المصرائيلي وامتنعوا على الأقل كخطوة أولى عن ارسال أبناءكم للتجنيد الإجباري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق