هلاوس
فهمي هويدي
إذا جاز لنا أن نعتبر أن للسياسة تقاليعها، فبوسعى أن أقول إن الحديث عن روسيا في السياسة المصرية هو تقليعة الأسبوعين الأخيرين في خطابنا الإعلامى والسياسي.
إذا جاز لنا أن نعتبر أن للسياسة تقاليعها، فبوسعى أن أقول إن الحديث عن روسيا في السياسة المصرية هو تقليعة الأسبوعين الأخيرين في خطابنا الإعلامى والسياسي.
عبر عن ذلك سيل التعليقات التي حفلت بها وسائل الإعلام المصرية المرئية والمقروءة. التي تزامنت مع سيل الرسائل والإشارات الإيجابية الدالة على أن علاقات البلدين بصدد استعادة دفئها.
وهو ما تجلى في استقبال الطراز الروسي والحفاوة به في أبرز الموانئ المصرية، وذلك في إطار التمهيد للزيارة التي يفترض أن يقوم بها اليوم للقاهرة وفد روسي مهم، على رأسه وزيرا الدفاع والخارجية، وهي التي سبقتها عدة زيارة لوفود شعبية مصرية لموسكو، واتصالات دبلوماسية بين القاهرة وموسكو كانت معبرة عن الرغبة في استعادة الدفء ومد الجسور بين الطرفين.
ما حدث يعد تطورا نوعيا إيجابيا في علاقات البلدين، وهو يستحق الحفاوة والترحيب بكل تأكيد، لكنني لا أستطيع أن أكتم دهشة إزاء المزايدات والمبالغات الفجة التي قدِّم بها ذلك التطور إلى الرأي العام المصري.
ما حدث يعد تطورا نوعيا إيجابيا في علاقات البلدين، وهو يستحق الحفاوة والترحيب بكل تأكيد، لكنني لا أستطيع أن أكتم دهشة إزاء المزايدات والمبالغات الفجة التي قدِّم بها ذلك التطور إلى الرأي العام المصري.
فقد صوره البعض على أنه صفعة مصرية للولايات المتحدة الأمريكية، وقرأت لمن ادعى أنه بمثابة انقلاب استراتيجي في السياسة الخارجية المصرية.
وتواضع آخر فذكر أنه نصف انقلاب، ونشرت إحدى صحفنا تقريرا إخباريا تحدث عن «الرعب» الحاصل في واشنطن جراء متغيرات السياسة المصرية. كما قرر كثيرون أن مصر بصدد التحول إلى الاعتماد على السلاح الروسي استلهاما لما فعله الرئيس عبد الناصر قبل نحو ستين عاما. حين تحدى واشنطن بإعلانه عن عقد صفعة الأسلحة التشيكية.
الذي لا يقل غرابة عما سبق أن أستاذا للعلوم السياسية كان قد سافر إلى موسكو ضمن أحد الوفود الشعبية قال في ندوة عامة بعد عودته في سياق امتداحه الموقف الروسي، إن موسكو وجهت إلى واشنطن مؤخرا إنذارا شديد اللهجة طلبت منها فيه عدم التدخل في الشؤون المصرية.
في تكرار للإنذار الذي وجهه بولجانين إلى الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي. وهي قصة مخترعة لا أساس لها.
تلك مجرد نماذج للادعاءات التي راجت في الفترة الأخيرة، وكانت أقرب إلى التمنيات أولى من الهلاوس منها إلى حقائق الواقع وخرائطه.
وللإنصاف فإن التصريحات التي صدرت عن الخارجية المصرية في هذا الصدد كانت أكثر دقة ومسؤولية، حتى أزعم أنها بمثابة تكذيب لإدعاءات وسائل الإعلام، فضح ما تضمنته من عبث وتهريج.
فقد قرأت في صحيفة الشرق الأوسط (عدد 11/11) تصريحا للمتحدث باسم الخارجية المصرية الدكتور بدر عبد العاطي قال فيه إنه «يوجد بالفعل اتجاه لعلاقات قوية مع موسكو، لكن ليس على حساب علاقاتنا بأي طرف» ــ المقصود هنا هو الولايات المتحدة ــ إلى أن أضاف قوله: نحن لا نستبدل طرفا بطرف آخر، ولكن نعمل على تنويع البدائل المتاحة بما يعظم المصلحة الوطنية المصرية. اللافت للنظر أن تقرير الشرق الأوسط نقل عن أحد المحللين الاقتصاديين الأمريكيين قوله إنه لا يبدو أن هناك قلقا في واشنطن من التقارب بين القاهرة وموسكو.
مثل هذه التصريحات تعطي انطباعا مغايرا بل معاكسا تماما لما تعبر عنه وسائل الإعلام المصرية، التي رأيت كيف اتسم أداؤها بدرجة محزنة من الخفة والشطط.
مثل هذه التصريحات تعطي انطباعا مغايرا بل معاكسا تماما لما تعبر عنه وسائل الإعلام المصرية، التي رأيت كيف اتسم أداؤها بدرجة محزنة من الخفة والشطط.
وهو ما أرجعه إلى عاملين. الأول يتمثل في توهم كثيرين أن هناك طلاقا بين القاهرة وواشنطن بسبب تحفظ الإدارة الأمريكية لأسباب قانونية داخلية على انقلاب 3 يوليو الذي حدث في مصر، الأمر الذي دفع بعض وسائل الإعلام عندنا إلى الحديث عن تدبير مؤامرة أمريكية لصالح الإخوان، اتهم الرئيس أوباما خلالها بالتواطؤ مع التنظيم الدولي للجماعة. وردا على تلك المؤامرة، فإن مصر الجديدة قررت أن تدير ظهرها للولايات المتحدة، وأن تبحث عن بديل وجدته في روسيا.
الأمر الثاني أن البعض عندنا استعادوا أجواء الخمسينيات والستينيات وخرائطها. ثم استسلموا لوهم آخر تمثل في إعادة إنتاج التجربة الناصرية وعودة الزعيم الخالد لسياسته التي استثمرت أجواء الحرب الباردة، وهو ما شجعه على أن يمد جسوره مع الاتحاد السوفييتي للرد على واشنطن التي رفضت إمداده بما احتاجه من سلاح.
الذين استسلموا لمثل هذه الهلاوس تجاهلوا عمق وتعقيد العلاقات المصرية الأمريكية التي نسجت خلال 40 سنة، بحيث صارت تحتمل خلافا في الرأي في حين غدا الطلاق في ظلها بمثابة جراحة كبرى لا تتوفر شروط نجاحها في وضع مصر الراهن.
الأمر الثاني أن البعض عندنا استعادوا أجواء الخمسينيات والستينيات وخرائطها. ثم استسلموا لوهم آخر تمثل في إعادة إنتاج التجربة الناصرية وعودة الزعيم الخالد لسياسته التي استثمرت أجواء الحرب الباردة، وهو ما شجعه على أن يمد جسوره مع الاتحاد السوفييتي للرد على واشنطن التي رفضت إمداده بما احتاجه من سلاح.
الذين استسلموا لمثل هذه الهلاوس تجاهلوا عمق وتعقيد العلاقات المصرية الأمريكية التي نسجت خلال 40 سنة، بحيث صارت تحتمل خلافا في الرأي في حين غدا الطلاق في ظلها بمثابة جراحة كبرى لا تتوفر شروط نجاحها في وضع مصر الراهن.
كما تجاهلوا أن عبد الناصر لم يعد، وأن الاتحاد السوفييتي انهار وأن الحرب الباردة انتهت، وأن روسيا ليست امتدادا للاتحاد السوفييتي، وأن الدنيا كلها تغيرت خلال نصف القرن الأخير
ــ غدا بإذن الله ننتقل من الهلاوس إلى محاولة قراءة الحقائق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق