الأربعاء، 8 يناير 2014

(للأزهر رسالة. . . ولكنه لا يؤديها)..

(للأزهر رسالة. . . ولكنه لا يؤديها)..
الإثنين 13 من رمضان 1370 هـ الموافق 18 من يونيو 1951 م 



الأستاذ سيد قطب

هذا المعهد العظيم العريق، الذي قام حارساً على الثقافة العربية، والثقافة الإسلامية، زهاء ألف عام. . لم ينته دوره بعد، ولم تكمل رسالته. ودوره الذي ينتظره كبير، ورسالته التي تناديه ضخمة.

ولكنه لا يؤديها. . .!

لقد أدى الأزهر دوره في تلك الأجيال المتعاقبة التي انحسر فيها المد الإسلامي، ووقف جريانه؛ وانطوى فيها العالم الإسلامي على نفسه وانزوى عن الركب المندفع إلى الأمام، وراح يجتر ما أنبتته النهضة وما خلفته، فيستهلكه ولا يزيد عليه.

أدى الأزهر دوره في هذه الحقبة فوقف حارساً على ذلك التراث، يؤدي وظيفة الحارس ولا يضيف للتراث شيئاً بذكر، ولم تكن هذه بالمهمة الهينة في ذلك الأوان، ولا بالقليلة القيمة في تاريخ الشعوب.

ولكن هذه الحقبة قد انقضى أمرها - والحمد لله - ودبت اليقظة في العالم الإسلامي من جديد. وتطلع فإذا قرون مضت وقرون؛ وإذا هو متخلف في حقول شتى؛ وإذا هو يريد وصل ما انقطع، ويعتزم أن يتخذ له مكاناً في القافلة، ليس في ذيلها على وجه اليقين.

وتلفت الأزهر فإذا هو حيث هو، والقافلة كلها تسير. وعز على الأزهر أن يقف وحده، فإذا هو يهم، ولكنه فيما يبدو منه حتى اليوم، لم يدرك أين مكانه، ولم يعرف لنفسه قدرها. إنه يحاول أن يتجدد، ولكن على طريقة التقليد. إنه يريد أن يلحق، ولكن ليلهث وراء القافلة؟، لا ليأخذ بزمامها ويوجهها وإني لأعيذ الأزهر العظيم أن يكون في ذلك الموقف المهين إن رسالة الأزهر اليوم ليست مجرد العكوف على الحواشي والشروح والتنبيهات والاعتراضات. وليست كذلك المحاكاة لبعض المعاهد والكليات الجامعية باسم التجدد. فكلتاهما هي اللدنية بالقياس إلى رسالة الأزهر الحقيقة.

إن رسالة الأزهر اليوم رسالة إنشائية إبداعية، لا تفسيرية ولا تقليدية. رسالة خلق وبناء وكفاح. رسالة بعث للفكرة الإسلامية وللنهضة الإسلامية.

إن العالم اليوم تسيره نظريات فكرية واجتماعية معينة: الاشتراكية تغلب في الغرب،والشرعية تغلب في الشرق. ونحن في مصر وفي العالم الإسلامي نلهث في اللحاق بإحداهما، يجذبنا البريق من هنا ومن هناك، ولا يجذبنا البريق من هنا ومن هناك، ولا وجهة لنا مقررة، ولا فكرة لنا مستنيرة.والجامعة والمدرسة، والجماهير والدولة، كلها تلهث.وكلها تركض، وكلها مبهورة الأنفاس والمشاعر، لا عن خيرة ولا عن بصيرة، ولكنه البهر والتلاشي والدوار!. . هنا تتعين رسالة الأزهر، رسالته التي يجب أن يدركها، وأن يؤمن بها، وأن يؤديها حق الأداء.

إن للإسلام فكرة مستقلة معينة عن الحياة. فكرة كلية تمد فروعها إلى كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية الكثيرة. وإن للإسلام رأياً في الشعور والسلوك، في العبادة والعمل، في الاقتصاد، والاجتماع، في سياسة الحكم وسياسة المال، في سياسة الدولة الخارجية والداخلية. . . في كل باب من أبواب النشاط الإنساني في كل اتجاه.

ورسالة الأزهر الأولى هي أن يعكف على استخلاص هذه الفكرة الكلية، وعلى تنميتها بالبحوث والدراسات في كل حقل من حقول المعرفة، وعلى إعدادها للتطبيق العملي في واقع الحياة اليومية الحاضرة، ثم على الدعوة إليها في النهاية بعد هذه الخطوات.

رسالة الأزهر الأولى أن ينشئ ثقافة إسلامية كاملة مستمدة من الأصول الأولى للإسلام، ومن الحياة النامية المتجددة في كل آن. . هذه الثقافة لن يجدها الأزهر في الحواشي والشروح والتنبيهات والاعتراضات، أو قد يجدها ولكن في حاجة إلى أن تعرض بأسلوب العصر وطريقته، وأن تنمى بالدراسات والإضافات، كي تصبح في متناول الجماهير كلها، وفي حقول الثقافة جميعها.

ليست وظيفة الأزهر أن يقف بين الحين والحين لينادي بتدريس الدين في المدارس على أن يتولى تدريسه والتفتيش عليه رجال الأزهر كما يقول دائماً! وليست وظيفته أن يقف بين الحين والحين ليطالب برد المجالس الحسبية إلى سلطة القضاء الشرعي. وليست وظيفته أن ينادي بالويل والثبور على انحطاط الأخلاق وانتهاك الحرمات.

إنها مجرد صيحات تقليدية صغيرة لا تلقى إلا الهزؤ والزراية من الدولة ومن الناس.

أين هي الثقافة الإسلامية التي يريد الأزهر أن تدرس بالمدارس؟
إن كان يعني تلك الحواشي والشروح التي ثمرتها حقب الانطواء والاجترار، فتلك كفيلة أن تذهب بالتلاميذ إلى الكفر أو البلبلة!
وإن كان يعني مجرد حفظ سور من القرآن وشيء من الأحكام الفقهية في العبادات، فألوف وألوف يحفظون القرآن كله ويعرفون تلك الأحكام، والإسلام بعد ذلك مهمل لا يعرفه الأكثرون.

إنه ينبغي أن توجد أولاً ثقافة إسلامية. ثقافة حقيقية واضحة حية، مطبقة على واقع الحياة الحاضر، تتناول مشكلات الحياة الفردية والاجتماعية القائمة بالبحث، وتوجد لها الحلول، ويومئذ ستزحف هذه الثقافة بذاتها إلى المدارس وإلى المجتمعات، ستزحف بحكم أنها ثقافة حية، لا بحكم أن طائفة تنفع أولا تنتفع بتقريرها في المدارس والمحاكم والدواوين! وتلك هي سنة الحياة.

ما أرى الإسلام في العمل والأجور؟ ما رأيه في توزيع الملكيات والثروات؟ ما رأيه في علاقة الفرد بالدولة، وعلاقة الدولة بالفرد؟ ما رأيه في سياسة الدولة الخارجية وفي المجتمعات الدولية؟ ما رأيه في الجريمة والعقوبة؟ ما رأيه في المعاملات المالية والاقتصادية؟ ما رأيه في طرق الحكم ونظام الإدارة؟ ما رأيه في خلق الكون وناموس الحياة؟

إن للإسلام لرأيا في حقل من هذه الحقول. وحول هذه الآراء يمكن أن تنهض ثقافة متشعبة الفروع، متشابكة الأصول، تواجه فلسفات الشرق وفلسفات الغرب، وتعلن عن وجودها العالمي في هذا المضمار.

والأزهر هو الذي يجب أن يمثل هذه الثقافة، فيكون مهبطها الذي تطلب فيه، وتكون موضوعه الذي يعالجه، وعندئذ يقال: هذه فكرة الإسلام وهذه فكرة الثقافة الغربية.

وعندئذ يمكن أن تنهض الأحزاب لتمثل فكرة في الحياة ونظاماً في المجتمع، ولتضع برامجها في ظل هذه الفكرة أن تلك، وللشعب بعدها أن يختار. يختار على أسس واضحة معروفة له، لا مدسوسة في بطون الكتب الصفر، نائمة منذ ألف عام!

عندئذ يمكن أن يقوم الحكم على أساس هذه الفكرة، فيحققها في كل حقل من حقول الحياة، لا في تلك الجزئيات التي يطالب بها الأزهر في بعض الأحيان، فتذهب صيحته في الهواء!

وهناك عمل جبار ينتظر الأزهر. . هناك تنمية التشريع الإسلامي الذي وقف ألف عام، ليساير حاجات الحياة كافة ميادين الحياة: في العقوبات والمعاملات، في التجارة والملاحة، في السياسة والحكم، في علاقات الأفراد والجماعات وهناك إعادة كتابة التاريخ - التاريخ الذي نتلقفه من أفواه أجنبية، مصوغًا في ظل فلسفات تناقض فكرة الإسلام عن الحياة - لنكتبه من زاوية النظر الإسلامية إلى الحياة وإلى الحوادث، وإلى القوى التي تعمل في ظاهر الكون وباطنه على السواء.

وهناك اللغة العربية وآدابها وتراثها، مدروسة بعقلية إسلامية، مسلطاً عليها ضوء الفكرة الإسلامية. وما من شك في أننا نتلقى هذه الدراسات اليوم من أيدي المستشرقين، متأثرة- لا أقول بكيد المستشرقين للإسلام- ولكن على أقل تقدير البشرية، وتأثيراتهم الخاصة ببيئات لا يتفق جوها مع جو الإسلام.

إن الحياة الإنسانية وعرة، وإن الإنسان ليعيش بمجموعة نفسه وكيانه، فلا يمكن فصل فلسفته الفكرية عن مشاعره، ولا يمكن فصل شعوره عن سلوكه، ولا يمكن فصل يلوكه عما توحي به الثقافات والأحداث.

وحين نريد أن يكون لنا وجود مستقل يشعر به الآخرون يجب أن تكون لنا فكرة خاصة عن الحياة، ونظم مستمدة من هذه الفكرة، وثقافات تنبع منها وتنميها. ولن يكون معنى هذا هو العزلة الفكرية والثقافة؛ ولكن سيكون معناه أن تكون لنا بيئة حية تنتفع بالغذاء والشراب من كل حقل ومن كل ينبوع، وألا نكون جثة ميتة موشاة بالرقع من جميع الألوان والشياط!

ترى يعرف الأزهر واجبه، وينهض برسالته؟

إن أملي كبير لا في الجيل الذي شاخ في الأزهر، ولكن في جيل الشباب.


المصدر مجلة الرسالة العدد 937

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق