المسؤولية والمواطن: حتى يتفرق دمه بين القبائل
الحضارة والمسؤولية
من أهم وسائل تفشي الفساد في أي مجتمع هو غياب المسؤولية وتشتتها، وهي من أعقد مسائله -الفساد- في الحلول وأصعبها في استئصاله. والمسؤولية عزيزي القارئ هي القيمة الإنسانية التي تفصل الهمجية عن الحضارة. هي متلازمة الحرية، فكل ما كان المرء حرا في إدارة حياته وحياة غيره (المسؤول، الغني، الوزير، السلطان) كلما زاد ثقل المسؤولية على كاهله؛ وبالعكس كلما قلت حرية المرء (العبد، الفقير، المستأجر، صغار الموظفين) تقل مسؤوليته. وعلى هذه المعادلة يقام العدل والصلاح في المجتمع طالما حافظنا عليها. في النظام الكلي للدولة يقوم هيكل المسؤوليات مقام الأعصاب في الجسم.
“حتى يتفرق دمه بين القبائل”
ولنتصور، عزيزي القارئ، واقع الحال في ظل تشتت المسؤوليات وغياب هيكلها، علينا استحضار قصة علي رضي الله عنه ومبيته في فراش خير الأنام صلى الله عليه وسلم. تقول القصة إن أهل قريش اجتمعوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عائقهم أن لو أحدهم هم بالقتل استحق هو عشيرته القصاص في هذا الدم من بني هاشم. لذلك أشار عليهم داهيتهم بأن يأتوا بأربعين رجلا يضربون ضربة واحدة “فيتفرق دمه بين القبائل”. ولولا أن الله سبحانه، تدخل بحكمته، لربما نفذت الخطة وماذا بعد ذلك؟ أعتقد أن سير الأحداث في ظل غياب المسؤولية الكاملة سيكون على هذا المنوال. يجتمع ممثلو العشائر والقبائل مع بني هاشم على طاولة حوار أبدية. منهم من يتنصل من المسؤولية كاملة، منهم من يقر بجزء منها ويلقي بأكثرها على غيره، ومنهم من يساوم عليها. وحين يتناسى الناس عامة، وأهل الضحية خاصة، القضية بعد أن أصبح ذكرها يعيد في أذهانهم وهنهم ودناءة حالهم، تعود القضية للظهور. فقد أقرّ مجلس قريش بعد التشاور إقامة محكمة “عادلة وشفافة” للأربعين رجلا المسؤولين. ولكن بدل أن تكون مسؤولية كل واحد فيهم عن القتل 100% تقسم المسؤولية على 40 بمعدل 2.5% من إجمالي المسؤولية (شبيه بمنطق محاكمات سيول جدة). وترى المحكمة بعدلها وحكمتها أنّ 2.5% من المسؤولية في هذا الجرم العظيم يساوي، ناقة، فيدفع كل متهم بواحدة ليعود إلى بيته وكأن شيئا لم يكن سوى أنه خسر ناقة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق