السبت، 6 ديسمبر 2014

المسؤولية والمواطن: حتى يتفرق دمه بين القبائل

المسؤولية والمواطن: حتى يتفرق دمه بين القبائل

الحضارة والمسؤولية
من أهم وسائل تفشي الفساد في أي مجتمع هو غياب المسؤولية وتشتتها، وهي من أعقد مسائله -الفساد- في الحلول وأصعبها في استئصاله. والمسؤولية عزيزي القارئ هي القيمة الإنسانية التي تفصل الهمجية عن الحضارة. هي متلازمة الحرية، فكل ما كان المرء حرا في إدارة حياته وحياة غيره (المسؤول، الغني، الوزير، السلطان) كلما زاد ثقل المسؤولية على كاهله؛ وبالعكس كلما قلت حرية المرء (العبد، الفقير، المستأجر، صغار الموظفين) تقل مسؤوليته. وعلى هذه المعادلة يقام العدل والصلاح في المجتمع طالما حافظنا عليها. في النظام الكلي للدولة يقوم هيكل المسؤوليات مقام الأعصاب في الجسم.

فالنظام المخول بتوزيع موارد الدولة وخدماتها (الشرايين) يتطلب نظاما موازيا للمحاسبة والمسؤوليات يكفل للسلطان نفاذ أوامره وقيام سلطانه ويكفل للمواطن حقوقه في كل مرحلة من مراحل توزيع الموارد والخدمات العامة. متى ما اكتمل نصاب المسؤولية في المجتمع والدولة لم يتجرأ أحد على استغلال ما وهبه الله من حرية أو ما أوكل إليه السلطان من صلاحيات سعيا في الأرض فسادا لمنافع وأطماع خاصة.

نزاع المسؤوليات
المسؤولية رغم أنها شقيقة الصلاحيات والامتيازات، إلا أن النزاع فيها عكسي. فبدل أن يتنازع الأطراف عليها هم يتنازعون عفة فيها ونفيا لها. والنزاع في نظام المسؤوليات هو نزاع سياسي أكثر مما هو قضائي أو قانوني، ذلك أن المسؤوليات هي من صلب توزيع القوى السياسية والسلطات على الخاصة من المقربين إلى السلطان وأهل الخبرة والحكمة، وترتبط ارتباطا، حلا وعقدا في يد السلطان أو من ينوب عنه. ولأن غياب نظام المسؤوليات أو تشتتها ينتج عن عدم وجود قوانين واضحة صريحة ومعلنة، يفشل القضاء عادة في حل هذا النوع من النزاع في المسؤوليات. فلا تقاضي دون نظام أو قانون.

موقع المواطن من هيكل المسؤولية

أفترض مما ذكرت سابقا في هيئة نظام المسؤوليات، بموجب البديهة، أن السلطان يجلس في أعلى قمة هذا الهرم كما بيده وبين يديه تسير أموره. دون سلطان أو من ينوب عنه، ليدير ديناميكية هذا الصرح العظيم، تتهاون كل لبنة وكل حجر فيه حتى تعم الفوضى في المجتمع ويصبح كل ذي منصب أو سلطان دولة في ذاته، وتعود كالدولة العباسية في عهد أمراء الحرب ووزراء السلطان من الترك والعرب، دويلات تحت ظل دولة. فلو افترضنا أن نظام المسؤوليات بكل فروعه ووحداته (من وزراء وأغنياء ومسؤولين وبيروقراطيين) هي كرة من صلب تزن ألف طن، هذا الوزن هو ثقل العيوب والمظالم فيه، تبقى مربوطة بسلاسل غليظة في يد السلطان فيرفع هو جل ثقلها عن المواطن في آخر هذا النظام. وما أن تزيد الفجوة بين موقع السلطان في أعلى الهرم (أن يَغِيبَ أو يُغَيب) وبقية أذرع هذا النظام كلما زاد الحمل على كاهل المواطن وزاد شقاؤه.


“حتى يتفرق دمه بين القبائل”
ولنتصور، عزيزي القارئ، واقع الحال في ظل تشتت المسؤوليات وغياب هيكلها، علينا استحضار قصة علي رضي الله عنه ومبيته في فراش خير الأنام صلى الله عليه وسلم. تقول القصة إن أهل قريش اجتمعوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عائقهم أن لو أحدهم هم بالقتل استحق هو عشيرته القصاص في هذا الدم من بني هاشم. لذلك أشار عليهم داهيتهم بأن يأتوا بأربعين رجلا يضربون ضربة واحدة “فيتفرق دمه بين القبائل”. ولولا أن الله سبحانه، تدخل بحكمته، لربما نفذت الخطة وماذا بعد ذلك؟ أعتقد أن سير الأحداث في ظل غياب المسؤولية الكاملة سيكون على هذا المنوال. يجتمع ممثلو العشائر والقبائل مع بني هاشم على طاولة حوار أبدية. منهم من يتنصل من المسؤولية كاملة، منهم من يقر بجزء منها ويلقي بأكثرها على غيره، ومنهم من يساوم عليها. وحين يتناسى الناس عامة، وأهل الضحية خاصة، القضية بعد أن أصبح ذكرها يعيد في أذهانهم وهنهم ودناءة حالهم، تعود القضية للظهور. فقد أقرّ مجلس قريش بعد التشاور إقامة محكمة “عادلة وشفافة” للأربعين رجلا المسؤولين. ولكن بدل أن تكون مسؤولية كل واحد فيهم عن القتل 100% تقسم المسؤولية على 40 بمعدل 2.5% من إجمالي المسؤولية (شبيه بمنطق محاكمات سيول جدة). وترى المحكمة بعدلها وحكمتها أنّ 2.5% من المسؤولية في هذا الجرم العظيم يساوي، ناقة، فيدفع كل متهم بواحدة ليعود إلى بيته وكأن شيئا لم يكن سوى أنه خسر ناقة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق