أحمد بن راشد بن سعيّد
اعتداءات إسرائيل ومستوطنيها على الفلسطينين، وانتهاكاتها المستمرة حرمة المسجد الأقصى، لم تثر ولا تثير رموز هذا التيار، فلا يحس المرء منهم من أحد، ولا يسمع لهم ركزا.
سارع هؤلاء إلى استنكار العملية بأقسى العبارات متظاهرين بغضبهم لحقوق الإنسان، وللحريات الدينية، ولحرمة دور العبادة.
غرد مثلاً محمد المحمود (وهو كاتب في جريدة الرياض): «العدوان الإسرائيلي لا يعني أن نكون مجرمين على هذا النحو الإرهابي»، و «من لم ير عملية القدس جريمة قذرة، فليراجع ضميره. مقاومة الاحتلال ليست مبرراً لتقديس العنف».
كاتب سعودي آخر هو أحمد عدنان انتفض غضباً للهجوم على الكنيس، فأعلن إدانته له بطريقة خطابية (وكأنه جهة رسمية ينتظر العالم رأيها في الحدث)، قائلاً: « إنني أدين تماماً تماماً استهداف الكنيس اليهودي في القدس... كما أدين استهداف دور العبادة في كل مكان».
فارس أبا الخيل، مغرد سعودي، سارع إلى اتهام حركة حماس بتنفيذ عملية القدس التي وصمها بالإرهاب: «إصرار جماعات الإسلام السياسي مثل حماس على ممارسة الإرهاب ومباركته دليل على حال الفشل السياسي وانعدام قدرتها على تقديم الحلول...الإرهاب بكل أشكاله فعل مرفوض ومُجرَّم».
عبد الله حميد الدين، كاتب سعودي في صحيفة الحياة، استنكر هو الآخر هجوم الكنيس مغرداً بما يلي: «كل العقلاء الفلسطينيين يدينون عملية القدس. فقط مراهقو حماس والجهاد يباركونها, وطبعاً المراهقون مجاهدو المقاهي والمكيفات في تويتر»،
مضيفاً: «أنفقنا الكثير ضد إسرائيل مما كان يمكن إنفاقه في تنمية المنطقة وفي تحسين أوضاع الفلسطينيين أنفسهم»، و «إسرائيل لا تهدد السعودية عسكرياً..(هي) تعتدي على الفلسطينيين، ولكن هذا لا يعني أنها تهدد السعودية»
(كل التغريدات منشورة في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2014).
الكاتب الكويتي المعروف بتأييده المطلق لإسرائيل، عبد الله الهدلق، استنكر عملية القدس بوصفها «ممارسة ترفضها كل الفطر السليمة والقيم الإنسانية والأديان»
(صحيفة الوطن الكويتية، 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2014).
لم تكن هذه المواقف مفاجئة، لكنها تكشف القاع الذي تردّى إليه تيار خليجي ذو صوت عال، لم يعد يختبئ خلف التوريات والمواربات، بل أمسى يتباهى بالانحياز إلى الصهيونية، وربما قام بعض أفراده بالدردشة الحميمية مع قادة عسكريين إسرائيليين عبر موقع تويتر، وعبّروا لهم عن تعاطفهم معهم،
مثلما ما فعلت كاتبة سعودية في جريدة «الجزيرة»، هي سمر المقرن، التي كتبت إلى الناطق باسم الجيش الصهيوني، أفيخاي أدرعي، إبّان العدوان الأخير على غزة: «لماذا تردون بصواريخكم على حماس ارهابية؟ لماذا صواريخكم تتجه صوب اطفال وابرياء؟» (20 تموز/يوليو 2014).
يجد المرء نفسه مذهولاً حد الانصعاق وهو يرى كتابات أو تدوينات خليجية تردد صدى الرواية الإسرائيلية ذاتها عن ثنائية «الجلاد» و «الضحية»، فيتحول الفلسطيني المحاصَر في قطاع غزة إلى إرهابي أو انتحاري «يستفز» الإسرائيلي، و «يتحرش» به، ويتحول الغاصب الإسرائيلي إلى «مدافع عن نفسه».
هذه الرواية المشوهة والظالمة تكاد تكون المهيمنة في الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، وقد بذل أكاديميون ومثقفون أميركيون كإدوارد سعيد وإبراهيم أبو لغد ونعوم تشومسكي وإديموند غريب جهوداً كبيرة لتصحيحها.
لكن إعادة كتّاب خليجيين إنتاجها ظاهرة تستدعي الاهتمام والاستقصاء.
من الصعب جداً إعادة تذكير مواطنين عرب بأحقية الفلسطيني في أرضه، فمن المعضلات توضيح الواضحات، ولكن من الواجب أيضاً مقاومة هوجة التطبيع، ورفض التشويش الذي قد يحدثه هذا الخطاب المتصهين، لاسيما في ظل سطوة الدعاية الرسمية السائدة التي لا تفتأ تتغنى بالسلام والتسامح والحوار.
لم يواجه منتجو هذا الخطاب مشكلة في تجريم عملية القدس. تأطيرات «التحرش» و «الاستفزاز» و «العبثية»، (وحتى «الأخونة») التي ملؤوا بها الأعمدة والشاشات في حال العدوان على غزة لا يصلح استخدامها في سياق العملية، ومن ثم فلا بد من تأطيرات أخرى، كانتهاك دور العبادة، وقتل «الأبرياء»، وتشويه مقاومة الاحتلال عبر اتخاذ «المدنيين» هدفاً.
نشوء هذا الخطاب مرتبط بتغيرات كبيرة في المشهد السياسي الخليجي؛ تتحمل مسؤولياته في المقام الأول الأنظمة والنخب التي شجعته، ثم التيارات العروبية والإسلامية التي غضت الطرف عنه، وأحجمت عن مواجهته.
بالطبع يرتكب مستنكرو عملية القدس خطيئة كبرى إذ ينظرون إليها بمعزل عن سياقاتها التاريخية والسياسية؛ الأمر الذي يقود إلى المساواة بين الجاني والمجني عليه. ثمة تأطيران جوهريان في التناول الإخباري؛ التأطير المشهدي/السطحي الذي يكتفي بنقل الحدث المباشر بعيداً عن استدعاء خلفياته (episodic)، والتأطير الموضوعي الذي يستقصي القصة الخبرية من جذورها (thematic).
مثلاً، عندما نقلت قناة العربية خبر الإفراج عن الفتى طارق أبو خضير، ابن عم الشهيد المقدسي محمد أبو خضير، الذي خطفه مستوطنون يهود وعذبوه ثم أحرقوه وهو حي، كتبت على صدر شاشتها: «إسرائيل تفرج عن ابن عم الفتى القتيل أبو خضير». قناة الجزيرة اختارت تأطيراً آخر: «الإفراج عن طارق أبو خضير بكفالة بعد تعرضه للضرب على يد جنود إسرائيليين لاحتجاجه على مقتل ابن عمه».
التأطير الأول مشهدي غيّب التفاصيل وهمّش الخلفيّات من أجل تخفيف اللوم على المعتدي، بينما الثاني موضوعي سبر غور المشهد انحيازاً إلى الحقيقة، واحتراماً لحق الجمهور في المعرفة (7 تموز/يوليو 2014).
استنكار عملية الهجوم على الكنيس موقف يشي بالضحالة (أو التواطؤ) لأنه منبت الصلة بالسياق، كما أنه ينزع إلى «لوم الضحايا» على غضبهم وانفجارهم، ولذا فهو غير عقلاني، ويتماهى مع منطق القوة وإملاءات الحقائق على الأرض.
وهؤلاء الذين يسكتون عن جرائم الاحتلال الصهيوني، وعربدة مستوطنيه، وتغوّل جدرانه التي تلتهم الزرع والضرع، يسارعون إلى النيل من كل عملية ثأر أو مقاومة، وهو ما يشي بتضعضهم النفسي الذي يوارونه بهذه الوعظية المترفة عن الأخلاق والحريات.
ثوبُ الرياء يشفُّ عما تحته
وإذا التحفتَ به فإنك عاري!
ينسى هؤلاء (أو هم يتناسون) أن إسرائيل لم تجنح للسلم يوماً، وأن اتفاق أوسلو عام 1993 لم يكن سوى نكبة أخرى، إذ تضاعف عدد المستوطنين منذ إبرامه خمس مرات.
وبحسب مركز الدراسات العربية في القدس، فقد ارتفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية عند توقيع الاتفاق من 105 آلاف إلى نحو 600 ألف في عام 2013.
كما بلغ عدد المستوطنين في القدس الشرقية في العام نفسه أكثر من 200 ألف، بينما لا يزيد عدد المقدسيين على 280 ألفاً يتعرضون لسياسات إبعاد وتضييق وسجن وسلب للأراضي وهدم منظم للبيوت.
يتجاهل هؤلاء أن كل صهيوني في فلسطين مغتصب للأرض، أو «محض لص» كما يخبرنا أمل دنقل، فلا مدني هنا ولا بريء. وبحسب الصحافية الإسرائيلية، أميرة هاس، فإن الكنيس الذي تعرّض للهجوم «بُني على أراضٍ للقرية الفلسطينية السابقة، دير ياسين»، وإن «أولئك الذين يلتزمون الصمت تجاه العملية لا ينتقدونها لأنهم «يشتركون في الغضب الذي قاد إلى القتل»، ويرونه رداً على «سياسة إسرائيلية تجاه الفلسطينيين لم تكن سوى سلسلة من الهجمات، وعمليات سلب وطرد منذ عام 1948» (صحيفة هاآرتس، 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2014).
وكالة الأنباء الفرنسية قالت إن منطقة هارنوف (حيث حدث الهجوم) «قريبة من القرية الفلسطينية السابقة، دير ياسين، التي ذبحت فيها الميليشيات اليهودية أكثر من 100 قروي في عام 1948» (18 تشرين الثاني/نوفمبر 2014).
موقع آي بي تي الإخباري الأميركي (International Business Times) قال إن الكنيس لا يبعد سوى دقائق عن قرية دير ياسين التي شهدت مذبحة في عام 1948 راح ضحيتها أكثر من 100 شخص، وشكّلت نقطة تحول في الصراع (18 تشرين الثاني/نوفمبر 2014).
مؤلم أن تصبح السرديات الصهيونية أمراً مألوفاً، والأكثر إيلاماً أن نصل إلى مرحلة يسعى فيها بعض الخليجيين إلى جعل الاصطفاف مع العدو، والتشكيك في الحق الفلسطيني، «وجهة نظر».
• @LoveLiberty
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق