الخميس، 3 مارس 2016

موجز تاريخ تركيا العلمانية (3)

موجز تاريخ تركيا العلمانية (3)


ا.محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية، متابع للشأن السياسي.

اقرأ أولا:

لقد وُضِعَتْ بذور الكثير من توجّهات تركيا الحالية في هذا العهد الذي هو مزيج من انقلاب (1980م) وسياسات أوزال[1]: الليبرالية الاقتصادية التي ستؤدي إلى نمو طبقات اجتماعية جديدة ذات ثقافة جديدة ستذهب لاحقا إلى تحدي الدولة[2]، وتجديد بعث الصنمية الكمالية والقومية التركية القاهرة لما سواها[3]، وتحسين العلاقات مع إسرائيل[4]، وتوسيع الحريات وتعزيز عمل الجمعيات وإنهاء احتكار الدولة للفضاء العام[5]، واستيعاب النمو الإسلامي[6] بل والتعبير عن تركيا خارجيا بأنها إسلامية وأوروبية معا[7] وإحياء علاقاتها القديمة ذات الجذور العثمانية مع مسلمي البلقان ووسط آسيا[8]. وكلما تقدم الزمن كلما قويت مكانة أوزال على حساب العسكر، حتى انتُخب رئيسا للجمهورية (1989م) وتسلم السلطة من قائد الانقلاب كنعان إيفرين.

عند مطلع التسعينات اختفى ما تعودت عليه تركيا من انقلابات عسكرية، لقد كان العالم كله يحيا انقلابا كاملا بسقوط الاتحاد السوفيتي الذي ألقى بظلاله على الوضع التركي؛ فمن ناحية أتاح لها التمدد إلى جمهوريات وسط آسيا وإلى بلاد البلقان، وقد كانت تحت النفوذ السوفيتي، ومن ناحية أخرى كشف لها عن نوايا أوروبا التي عاملتها بإهمال ولا مبالاة ورفضت انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي مما جعل تحوّل تركيا إلى الشرق أمرا محتما[9]، كما أن حرب الخليج (1990م) والحملة الأمريكية على العراق –والتي أيدها أوزال، بالمخالفة لرغبة الجنرالات- نزعت فيما يبدو أنياب العسكر وشلَّت قدرتهم على التفكير في انقلاب جديد بل لقد أُجبر رئيس الأركان على الاستقالة بعد مواجهة علنية مع أوزال[10].

خسر حزب الوطن الأم في انتخابات (1991م) ومات أوزال فجأة (1993م) فيما يحسب البعض أنه اغتيال[11]، فدخلت تركيا عقدا جديدا من الائتلافات الحكومية الضعيفة للأحزاب التي لم يستطع أي منها تشكيل حكومة مستقرة بمفرده، مما أنعش من جديد قوة “الدولة العميقة” التي تنمو في هذا المناخ، كان أبطال المشهد السياسي حينئذ: حزب الطريق القويم بزعامة سليمان ديميريل ثم تانسو تشيلار، وحزب اليسار الديمقراطي بزعامة بولنت أجاويد، وحزب الوطن الأم بقيادة مسعود يلماظ، ثم دخل إلى الساحة حزب الرفاه الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان، وحزب الحركة القومية بقيادة ألب أرسلان توركيش. شركاء متشاكسون لا تكاد تجمعهم رؤية أو سياسة، وفي خلفية المشهد عسكر يملأ الأفق بحربه على “الإرهاب الكردي” ويجرّ الجميع إلى طريقه وطريقته فيها حيث تتناثر على ضفاف الطريق عمليات القتل والاغتيالات المجهولة[12]، وتضعضع ما أرساه أوزال من انفتاح ومساحة نفوذ، إلا ما يخص الليبرالية فقد زادت، وما يخص إسرائيل التي قويت العلاقة بها خصوصا في مجالات التسليح والأمن والتجارة وإلى حد ما الثقافة والتعليم.[13] 

ومن بين جميع الحكومات الضعيفة لم يجد العسكر حكومة ينقلبون عليها سوى حكومة نجم الدين أربكان الائتلافية التي لم تقض سوى ثمانية أشهر، فجاء انقلاب (فبراير 1997م) الناعم الذي يحلو للمحللين أن يسمونه “انقلاب ما بعد حداثي” ظنّا منهم أن عصر الانقلابات الصريحة قد انتهى! وخيمت على السياسة التركية أجواء حرب العلمانية العسكرية على الإسلاميين بدءا من مؤسساتهم المالية والإعلامية وحتى حجاب النساء، واضطر أربكان إلى الاستقالة (يونيو 1997م) ولم يزد عمر حكومته عن سنة واحدة[14].

في السنوات الأربع التالية وصلت السياسة التركية إلى مرحلة إفلاس شاملة، وأزمات طاحنة، وانهار الاقتصاد وتسارع التضخم واتسع حجم الفساد، وبدا فشل الحكومة ساطعا مع الزلزال الهائل الذي ضرب مرمرة (أغسطس 1999م) فقُتِل فيه 18 ألفا (وقيل 40 ألفا) مع دمار هائل، وعجزت الحكومة عن التعامل مع الأزمة[15].
كان كل هذا بمثابة التمهيد للتغير الكبير الذي ستشهده تركيا بقدوم حزب العدالة والتنمية.

يمكن إجمال الصورة العامة لتركيا العلمانية على هذا النحو:

طوال تاريخ تركيا الحديث، حتى من بعد التحول نحو الديمقراطية والتعددية الحزبية (1946م)، لم تكن الحكومة المنتخبة هي الحاكم على الحقيقة، بل إنها تقع تحت هيمنة أطراف غير منتخبة مثل الجيش والبيروقراطية والقضاء[16]. 
ويمكن في مرحلة لاحقة أن نضيف إليهم “الإعلام”؛ إذ هو –خصوصا في المجتمعات الرأسمالية- بوق لمالكيه من ذوي الأموال وهم غير منتخبين، وهم به قادرون على التأثير وتوجيه الشعوب والضغط على الساسة[17].

وإذن، فلئن كانت لحظة تأسيس الجمهورية تمثل ولادة الدولة التركية العلمانية فإن لحظة التحول إلى التعددية هي لحظة إنشاء قشرة مدنية ديمقراطية شكلية تخفي تحتها ما اصطلح على تسميته فيما بعد: الدولة العميقة، الدولة الحارسة، الدولة الموازية.. إلخ.
 تلك التي تتكون من تحالف يضم حزب الشعب الجمهوري “والقيادة العليا للجيش والقضاء الأعلى والبيروقراطية، والذين استمروا في النظر لأنفسهم باعتبارهم الملّاك المستحقين للدولة”[18]، فكانت لهم هيئات سرية وعلنية لتنفيذ الأعمال القذرة، إذ كل شيء كان مسموحا به بمبرر “إنقاذ الدولة”، ولو كان قتل الآلاف وتأجيج الصراع بين المكونات المختلفة في تركيا لتوفير المبرر للانقلابات العسكرية[19]، ولم تجد هذه الانقلابات أي معارضة حقيقية من الغرب الليبرالي الذي ضغط لإنشاء تعددية من قبل بل كان هذا هو النظام المفضَّل لديهم[20]، في مشهد متكرر للنفاق وخيانة الشعارات.

وقد ظل التوجه نحو الغرب سياسة مستقرة لتركيا الحديثة في عهد جميع حكوماتها، وحتى محاولات أوزال وأربكان لم تكن جذرية ولا ثورية، وهذا طبيعي ومُتَفَهَّم، إذ لم يكن بالإمكان غير هذا، ومثلما يُقال بأنها محاولات إسلامية أرادت النفاذ إلى النظام العلماني المغلق من خلال منظومة الحريات الغربية، يقال أيضا بأن المنظومة الغربية احتوت واستوعبت الإسلاميين الأتراك وأنشأتهم خلقا جديدا.

[1] Ömer Taspinar: Turkey’s Middle East Policies Between Neo-Ottomanism and Kemalism (Massachusetts Avenue, Carnegie Endowment for International Peace, Septemper 2008), p. 11.

[2] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص43، 44، 121 وما بعدها؛ Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 20-1.

[3] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص114 وما بعدها.

[4] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص136.

[5] Yavuz, Esposito: Turkish Islam and the Secular State, p. xxv

[6] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص113، 114؛ Yavuz, Esposito: Turkish Islam and the Secular State, p. 1; Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 38-9.

[7] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص132؛ Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 22.

[8] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص133، 134؛ Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 75.

[9] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص44، 45؛ Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 509-10; Samuel P. Huntington: The Clash of Civilizations, (New York, simon & Schuster ,2003) p. 145-7.

[10] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص136، 137.

[11] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص145.

[12] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص143 وما بعدها.

[13] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص153 وما بعدها.

[14] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص170 وما بعدها؛ Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 27.

[15] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص176 وما بعدها؛ Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 29.

[16] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص48، 87، Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 505.

[17] وقد بلغ تأثير الإعلام في المسار التركي حدَّ أن أيدين دوغان، وهو رئيس أقوى مجموعة إعلامية تركية، جلس إلى أردوغان في أول أمر الحزب وصرح له بأنه هزم ثلاثة رؤساء وزارة: تورجت أوزال وسليمان ديميريل وتانسو تشيلار، كلهم بدؤوا ضده لكنهم انتهوا إلى الاستسلام له. انظر: حسين بسلي، عمر أوزباي: رجب طيب أردوغان.. قصة زعيم، ترجمة وتقديم: د. طارق عبد الجليل، (بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2011م). ص385، 386.

[18] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص49، 87.

[19] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص50، 51، 92.


[20] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص87؛ Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 505.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق