الموقف من الوفيات الأخيرة يكشف عن أزمة فكرية خطيرة
د. عدنان أمامة
بات من الشائع إثر موت رمز من الرموز المثيرة للجدل أن تشتعل الساحات الفكرية الإسلامية ومواقع التواصل الاجتماعي بسجالات وحوارات متباينة، بين متأسف على الرحيل ومبتهج به، وداع له بالرحمة، وداع عليه بالعذاب، لكن ما حدث إثر موت الترابي كشف عما هو أبعد من مجرد اختلاف وجهات نظر بتقييم شخص من الأشخاص.
لقد كشفت المواقف من موت الترابي أن حصوننا الفكرية مهددة من الداخل، وأنها توشك على الانهيار، وأن رياح التغريب التي اجتاحتها قد صدعت جدرانها، واقتلعت كثيرا من أبوابها، وأنها باتت بحاجة ماسة إلى إعادة بناء، وليس فقط إعادة ترميم.
فالترابي ما فتئ منذ عقود يدعو إلى عصرنة الإسلام وجعله ملائما لتطور الزمان، واجتاح في طريقه آيات القرآن ومتواتر السنة ومعاقد إجماع الأمة، تحت شعار تجديد الدين، ومخرجات هذا التجديد يكشف أنه تطوير للدين، وتبديل لأحكامه، وقد تجرأ على ادعاء عدم اكتمال الشريعة، حيث قال في كتابه تجديد الفكر الإسلامي ص38: (ليست الأشكال التي أخذها الدين في عهد من العهود هي أشكاله النهائية، وإنما يزدهر الدين بإذن الله في شكل جديد عهداً بعد عهد". وادعى عدم صلاحية بعض الأحكام الشرعية لزماننا المعاصر فقال في كتابه تجديد أصول الفقه ص9: (لم تعد بعض صور الأحكام التي كانت تمثل الحق في معيار الدين منذ ألف سنة تحقق مقتضى الدين اليوم، ولا توافي المقاصد التي يتوخاها، لأن الإمكانيات قد تبدلت، وأسباب الحياة قد تطورت، والنتائج التي تترتب عن إمضاء حكم بصورته السالفة، قد انقلبت انقلاباً تاماً).
وزعم أن العقيدة والأحكام الشرعية ليست دائمة ومستمرة وخالدة إلى يوم القيامة بل هي ظرفية ومرتبطة بالزمان الذي نزلت فيه فقال في كتابه تجديد الفكر الإسلامي ص86-87: (ولَمَّا كان الفكر الإسلامي في كلِّ قرن فكراً مرتبطاً بالظروف القائمة فلا نصيب من خلود بعدها إلاَّ تراثاً وعبرة، سواء في ذلك فقه العقيدة أو فقه الشريعة).
فمن الطبيعي جدا، ومن غير المستغرب أبدا أن ينتج هذا المنهج أحكاما وآراء مناقضة لقطعيات الشريعة وثوابتها، بل ومتنكرة لما هو معلوم من الدين بالضرورة، ولذلك وجدنا الترابي يفتي بجواز زواج المسلمة من النصراني واليهودي ناسفا بذلك الكتاب والسنة والإجماع، بل عد تحريم ذلك من قبيل التخرصات والأباطيل والجهالة والضلال، فقال في جريدة الشرق الأوسط عدد 9994 في 11/3/1427هـ: (التخرُّصات والأباطيل التي تمنع زواج المرأة المسلمة من الكتابي لا أساسَ لها من الدين، ولا تقوم على ساق من الشرع الحنيف.. وما تلك إلاَّ مجرَّد أوهام، وتضليل، وتجهيل، وإغلاق، وتحنيط، وخدع للعقول، الإسلامُ منها براء) وكأنه لم يطرق سمعه قوله وتعالى: (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا)، ولا علم أن أحدا من علماء الأمة على امتداد تاريخها الطويل لم يقل بذلك.
ووصف القول بأن شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتين: بالأوهام والأباطيل والتدليس: قال في جريدة الشرق الأوسط عدد 9994 في 11/3/1427هـ: (ليسَ ذلك من الدين أو الإسلام، بل هو مجرَّد أوهام وأباطيل وتدليس أريد بها تغييب وسجن العقول في الأفكار الظلامية التي لا تمت للإسلام في شيء). وهو بذلك يرد كلام الله حيث قال سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}.
إضافة إلى عشرات الطامات الأخرى التي تفوق الحصر والتي تثبت أن الرجل رأس من رؤوس الضلالة، مثل مساواته بين اليهودية والنصرانية والإسلام، ورفضه تكفير اليهود والنصارى، وتشكيكه بحجاب المرأة المسلمة، وإنكاره أشراط الساعة وخاصة نزول المسيح عليه السلام آخر الزمان، وتنقصه من الأنبياء وادعائه عدم عصمتهم، وتطاوله على الصحابة وأئمة الإسلام، ورده عشرات الأحاديث الصحيحة التي لا توافق عقله، وإباحته الردة عن الدين.
إن الأمر الشرعي الطبيعي والمنطقي أن يفرح المؤمن بموت هذا الرجل وأمثاله ويحمد الله أن أراح منه البلاد والعباد، كما كان يفعل سلفنا الصالح، وما كنت أتخيل مسلما -فضلا عن دعاة وعلماء وأساتذة مشاهير طبقت سمعتهم الآفاق- يمكن أن يذرف دمعة واحدة على هلاك هذا الضال المضل الذي نقض أصول الشريعة وقطعياتها، وعبث بفروعها وأحكامها.
لكن للأسف رأينا قادة وعلماء ودعاة وعاصفة من البيانات ترثي الفقيد، وتعدد مآثره، وإنجازاته الفكرية والدعوية والإصلاحية، وتصفه بالثائر والداعية المؤثر، والمفكر الكبير، وصاحب العقل المستنير، ومجدد الزمان، وصاحب العصر والأوان، وتترحم عليه وتسأل الله أن يعوض الأمة أمثاله، وكأنهم يعيشون في كوكب آخر ولا يدرون عن حالة الرجل ومسيرة انحرافه الطويلة.
حقا إنها داهية عظيمة أن تضيع البوصلة إلى هذا الحد ممن يفترض فيهم أنهم يقودون الأمة إلى عزها ونصرها.
كيف سينصرنا الله ونحن نعظم من يكذب كتابه ويحارب دينه؟
كيف سيعزنا الله ونحن بمواقفنا هذه نفتن شباب الأمة وأجيالها ونلبس عليهم دينهم؟
كيف سينصرنا الله ونحن نعظم من يكذب كتابه ويحارب دينه؟
كيف سيعزنا الله ونحن بمواقفنا هذه نفتن شباب الأمة وأجيالها ونلبس عليهم دينهم؟
إلى أي دين ندعو ونحن نحتفي بمن ينسف أصول الدين؟ وما الحق الذي نحمله ولم يعد لدينا تفريق بين الحق والباطل؟ وأين عقيدة الولاء والبراء التي قام عليها ديننا؟ وأين الحب في الله والبغض في الله؟ وأين نحن من قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}؟
وهل تغيرت لدينا قاعدة يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال؟ ولم نحكم على مفتي سوريا ومصر وأمثالهما بأنهم علماء سوء وأن فتاويهم المنحرفة عن الحق فتاوى شيطانية، فإذا صدرت عن شخص محسوب على الإسلاميين أصبحت اجتهادا مقدرا وتجديدا محترما، ولا تطعن في دين صاحبها وإيمانه؟
لقد كنا وما زلنا نقرر أنه لا اجتهاد في مورد النص، وأن قطعيات الشريعة ومعاقد الإجماع وثوابت الدين لا تتبدا ولا تتغير وليست محلا للخلاف، فهل يعد هذا الآن غلوا وتعصبا وضيق عطن، وعلينا أن نكون أكثر تسامحا وانفتاحا؟ وهل علينا أن نتصالح مع العلمانية التي كنا نعدها عدوا للدين؟
إن هذه المواقف تهدم عقيدة الولاء والبراء التي قام عليها الدين من جذورها، وتزيل الحواجز بين الحق والباطل، والكفر والإيمان، وتغلق باب النهي عن المنكر، إذ أي منكر يمكننا أن ننكره ونحن نقر أكبر المنكرات؟
إنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما لم يكن يومها دينا لن يكون اليوم دينا.
إننا حين نراجع نصوص الشريعة وسيرة سلفنا الصالح ومواقفهم من البدع وأهلها نرى بيننا وبينهم بونا شاسعا، فأين هذه المواقف في توقير الترابي من قوله صلى الله عليه وسلم: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي؛ إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره؛ ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده؛ فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه؛ فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه؛ فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.
وأين نحن من إطباق السلف الصالح على عداوة أهل البدع والأهواء ومحاربتهم والإغلاظ عليهم، مثل قول الإمام الشافعي، رحمه الله: "حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل؛ ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام.
وقول أبو محمد الحسين بن مسعود ابن الفراء البغوي: "قد مضى الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة؛ على معاداة أهل البدع ومهاجرتهم".
وما نقله الإمام إسماعيل الصابوني في كتابه القيم (عقيدة السلف أصحاب الحديث):
من إجماع أهل السنة على وجوب قهر أهل البدع وإذلالهم؛ حيث قال رحمه الله تعالى: "وهذه الجمل التي أثبتها في هذا الجزء؛ كانت معتقد جميعهم لم يخالف فيها بعضهم بعضاً؛ بل أجمعوا عليها كلها، واتفقوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع، وإذلالهم، وإخزائهم، وإبعادهم، وإقصائهم، والتباعد عنهم، ومن مصاحبتهم، ومعاشرتهم، والتقرب إلى الله عز وجل بـ مجانبتهم، ومهاجرتهم".
من إجماع أهل السنة على وجوب قهر أهل البدع وإذلالهم؛ حيث قال رحمه الله تعالى: "وهذه الجمل التي أثبتها في هذا الجزء؛ كانت معتقد جميعهم لم يخالف فيها بعضهم بعضاً؛ بل أجمعوا عليها كلها، واتفقوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع، وإذلالهم، وإخزائهم، وإبعادهم، وإقصائهم، والتباعد عنهم، ومن مصاحبتهم، ومعاشرتهم، والتقرب إلى الله عز وجل بـ مجانبتهم، ومهاجرتهم".
هذا في عموم البدع والأهواء فكيف إذا كانت البدع بدعا كفرية؟
إن مراجعة شاملة لمناهجنا وسياساتنا باتت أكثر ضرورة وإلحاحا من أي وقت مضى، حتى لا نكون كالتي نقضت غزلها بعد قوة أنكاثا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق