الجمعة، 1 سبتمبر 2023

دمياط والحملات الصليبية.. قرن من الملاحم


دمياط والحملات الصليبية.. قرن من الملاحم

فريق العمل

تقع مدينة دمياط في شمال مصر، قرب ملتقى البحر الأبيض المتوسط بأحد فرعيْ نهر النيل الشهيريْن، والذي يحمل اسمها. ودمياط من المدن القليلة التي لم تسرق القرون وجودها، وتدفعها حركة الأيام إلى زاوية مظلمةٍ في كتاب الواقع والتاريخ، فهي ما تزال إحدى أهم الموانئ المصرية، وموئل صناعة الأثاث الهامة.

لكن في العصور الوسطى، لاسيَّما في قرنيْ الصراع الإسلامي – الصليبي في الشرق، كان لدمياط حضور أكثر بروزًا من الناحية العسكرية، فقد كانت أهم الثغور الساحلية المصرية على البحر الأبيض المتوسط، وكانت هدفًا أساسيًا في خطط الصليبيين المتكررة للاستيلاء على مصر، فقد كان الانقضاض على ثغر دمياط بأسطول كبير يحمل جيشًا جرارًا، ومن ثم النفاذ منها إلى قلب مصر عبر النيل، مُغريًا دائمًا للصليبيين.

في هذه الجولة التاريخية سنسلط الأضواء على أبرز تلك الغزوات الصليبية التي استهدفت مصر عبر بوابة دمياط، وكيف سرقت تلك المدينة الصاخبة بالسيوف قبل البضائع أضواء التاريخ في فترة حاسمة من تاريخ العصور الوسطي، والصراع الطويل بين الشرق الإسلامي والغرب الصليبي.
صلاح الدين.. الوزير الشاب ومعركة الدفاع عن دمياط

وألح الفرنج على أهل دمياط وضايقوهم، والناس فيها صابرون في محاربتهم. وبعث صلاح الدين إلى نور الدين يستنجده، فجهز إليه نور الدين العساكر شيئًا بعد شيء، وخرج بنفسه إلى بلاد الفرنج بالساحل وأغار عليها واستباحها *المقريزي.. أحداث عام 565 هـ، كتاب «اتعاظ الحنفا بذكر الأئمة الفاطميين الخلفا».

في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي (الموافق السادس الهجري) كانت مصر على موعدٍ مع انقلابٍ تاريخي كبير، إذ آلت الخلافة الفاطمية الشيعية، التي هيمنت على مصر واتخذتها خاصرتها الكبرى لأكثر من قرنين، إلى الزوال، وعادت مصر اسميًا تحت حكم الخلافة العباسية السنية، ممثلة في القائد الطموح صلاح الدين الأيوبي، بعد حلقاتٍ مثيرة من الصراع.

على مدار سنواتٍ خمس شهدت أرض مصر ثلاث مواجهاتٍ بين قوات مملكة بيت المقدس الصليبية يقودها الملك الطموح أمالريك، وقوات الملك العادل نور الدين محمود تحت قيادة أسد الدين شيركوه، وابن أخيه الشاب صلاح الدين الأيوبي. انتهت المواجهتيْن الأولييْن بما يشبه التعادل، أما الثالثة فرغم اقتراب الصليبيين في بدايتها من انتزاع الهيمنة على مصر، إلا أنها انتهت بانتصار شيركوه وابن أخيه عام 564 – 1169م، وتوحُّد مصر والشام للمرة الأولى منذ عقود، رغم وجود بعض التعقيدات السياسية في المشهد.

عيَّن الخليفة الفاطمي العاضد شيركوه وزيرًا لمصر بصلاحياتٍ واسعة، وكحلٍّ وسط، أصبح الخطباء يوم الجمعة يدعون لكلٍ من الخليفة العاضد، وللملك العادل. في ذلك الزمن كانت هذه علامة الولاء السياسي الأهم. لكن ما لبث شيركوه أن تُوُفِّي بعد أسابيع قليلة، فعيَّن العاضد ابن أخيه صلاح الدين في موقع الوزارة خلفًا له.


كانت التحديات الداخلية تحيط بوزارة الشاب صلاح الدين، فقد اعتبره معظم الأمراء الفاطميون دخيلًا على مصر، يهدد بانتزاع كل ما تحت أيديهم من سيادةٍ ونفوذ وأموال لا تحصى، فأشعلوا العديد من الثورات والقلاقل ضد صلاح الدين. بالتوازي، لم ينسَ الصليبيون هزيمتهم المذلة في مصر، ورأوا في عودتها لأول مرة منذ عقود لمعادلة الصراع الإسلامي – الصليبي خطرًا وجوديًا، فقرروا التحرك سريعًا لانتزاع مصر من قبضة صلاح الدين قبل أن يستقر وضعه على رأس هرم السلطة فيها.


عام 565هـ – 1170م، وبينما لم يمر عام واحد على وزارة صلاح الدين الأيوبي، اكتمل تنفيذ خطةٍ خطيرةٍ للاستيلاء على مصر عبر الاستيلاء على دمياط. شهد ذلك المخطط لأول مرة تحالفًا عسكريًا بين الصليبيين في الشام، وصقلية، وإسبانيا وغيرها، والدولة البيزنطية، وهو ما تجاوز – ولو إلى حين – الخلافات المذهبية العميقة، وتضارب المصالح السياسية بين الجانبين. فقد اتفقَ الجانبان على عدم السماح لبروز قوةٍ إسلامية صاعدة في مصر والشام، تقلب الموازين القائمة في منطقة شرقي البحر المتوسط.

وصلت القوات الصليبية إلى دمياط على متن أكثر من ألف سفينة وقارب، وفرضت حصارًا بريًّا وبحريًا على المدينة. أرسل صلاح الدين الأيوبي من القاهرة مددًا كبيرًا لتعزيز صمود المدينة المحاصرة، بقيادة ابن أخيه الأمير تقي الدين عمر، وخاله شهاب الدين الحارمي، وأنفق من الخزانة ما يقارب ألف ألف دينار لدعم الجهود الحربية، واستمرَّ وصول الإمدادات إلى المدينة عبر النيل. لكن لم يستطِع صلاح الدين أن يتوجه بنفسه إلى دمياط لقيادة جهود الدفاع، خوفًا من اضطراب الأحوال في القاهرة في غيابه، واستغلال خصومه الفرصة للانقلاب.

ما إن وصلت أنباء حصار دمياط إلى الملك العادل نور الدين في الشام، حتى بادر بتعبئة جيوشه، وشن هجماتٍ عديدة ضد الصليبيين في الشام، وذلك لتخفيف الضغط عن قوات صلاح الدين في مصر، وتشتيت انتباه الصليبيين، وإجبارهم على الحرب في جبهتيْن في آن.

استمرَّ القتال أكثر من 50 يومًا، عجز خلالها الصليبيون عن اختراق أسوار المدينة الحصينة، رغم استخدامهم آلات الحصار والمجانيق، فبدأت الخلافات تدب بين قادتهم لاسيّما مع وصول الأنباء عن غارات قوات الملك العادل نور الدين على المناطق الصليبية في الشام، وعجزها عن الدفاع الفعَّال لوجود معظم قواتها في معركة دمياط. كذلك بدأت الأمراض تفعل فعلها في معسكرات الصليبيين، كما تسبَّبت الظروف الجوية في غرق الكثير من السفن والمراكب؛ مما صعّب وصول الإمدادات إلى قواتهم.

رفع الصليبيون حصارَهم عن دمياط، وانسحبوا عبر البحر مخلِّفينَ وراءهم الكثير من الأثقال والمجانيق التي عجزوا عن حملها لنقص السفن والمراكب. أقيمت الاحتفالات بالنصر أيامًا في القاهرة وفي الشام، وتعزَّز موقف صلاح الدين الأيوبي في مصر كثيرًا.
الكامل الأيوبي والحملة الصليبية الخامسة.. القدس ودمياط على الميزان

هُوَ الْكَامِل الْمولى الَّذِي إِن ذكرته ـــــــ فيا طرب الدُّنْيَا وَيَا فَرح الْعَصْرِ

بِهِ ارتجعت دمياطُ قهرًا من العِدى ـــــــ وطهر بِالسَّيْفِ وَالْملَّة الطُّهْرِ

لَك الله من ملك إِذا جاد أوسطا ــ فناهيكَ من عُرفٍ وناهيك من نُكْرِ

*بهاء الدين زهير مادحًا الملك الكامل الأيوبي بعد انتصاره على الصليبيين واستعادة دمياط عام 1221م.

عام 614 هـ – 1217م اجتمعتْ قواتُ الصليبيين في مدينة عكا، التي كانت تمثّل عاصمة الوجود الصليبي في الشرق استعدادًا لغزو مصر. وصلت أنباء الحملة الصليبية إلى الملك العادل الأيوبي – أخي صلاح الدين الأيوبي – فخرج بقواته إلى فلسطين لقطع الطريق أمام الصليبيين قبل أن يهددوا بيت المقدس، أو يتوغَّلوا في البلاد. استغلَّ الصليبيون الزيادة العددية لصالح جيوشهم، فهاجموا الكثير من مناطق فلسطين والشام ونهبوها دون أن ينتزعوا السيطرة على أي هدفٍ كبير، بينما تحصَّن العادل بقواته قرب دمشق انتظارًا لوصول الأمداد من مختلف مناطق الدولة، ثمَّ ما لبث الوضع في الشام أن استقرَّ؛ لأن تلك المعركة كانت عَرَضية، فالهدف الرئيس للصليبيين كان مصر، عبر بوابة دمياط.

في العام التالي رست المئات من سفن الصليبيين على ساحل دمياط، وأنزلت الآلاف من الجنود والفرسان من الألمان والفرنسيين وسواهم، تحت قيادة حنا دي برين، ملك بيت المقدس الذي كان يقيم في عكا، العاصمة الفعلية بعد استعادة المسلمين للقدس.

كان يفصل قوات الصليبيين عن المدينة نهر النيل الذي يصب في البحر المتوسط في تلك البقعة، والذي كان يحول دون إبحارهم عبرَه إلى القاهرة مباشرة، وجود سلاسل من الحديد تغلق مدخل النيل من البحر، ويحرسها حصنٌ منيع، يسمى حصن السلسلة.

شرع الصليبيون في تحصين مواقع تمركزهم، وبناء آلات الحصار والمجانيق لاستهداف حصن السلسلة الذي يحمي مدخل النيل، وتحول دفاعاته دون قيامهم بقص السلاسل الحديدية لاختراق النيل. وصل الأمير الكامل بن العادل إلى ظاهر دمياط بقواته، وكان واليًا لأبيه على مصر، لينظم الدفاع عن الميناء الهام، وصمد الحصن لأكثر من أربعة أشهر، رغم القصف الصليبي المتواصل، ووصلت إلى الصليبيين في دمياط إمدادات جديدة أرسلها بابا روما بقيادة الكاردينال بلاجيو شديد التعصب والحماسة.

نجح الصليبيون آخر المطاف في السيطرة على حصن السلسلة، ومن ثمَّ قطعوا السلاسل الحديدية، واخترقوا حاجزًا أقامته قوات الكامل على النيل على مسافةٍ قليلة من السلاسل، فما كان من قوات الكامل، إلا أن قامت بإغراق عدة سفن كبيرة في مجرى النيل لتعطيل الملاحة عبره جنوبًا صوب معسكر الكامل.

حتى ذلك الحين، لم تكن مدينة دمياط نفسها واقعة تحت الحصار العسكري المباشر، إذ كان النيل يفصل بينها وبين قوات الصليبيين، وكانت قوافل الإمداد تصل إليها برًا من حين لآخر، كما كان أهلها يشعرون بالاطمئنان لوجود قوات الكامل التي تحول دون عبور الصليبيين النيلَ إلى المدينة، رغم الغلاء الشديد الذي بدأ يعصف في المدينة مع تطاول الحرب، وتناقص الإمدادات داخلها.

الحملة الصليبية الخامسة


في ذلك العام 615 هـ – 1218م حدث ما لم يكن في الحسبان؛ إذ تُوُفّي سلطان مصر والشام الملك العادل الأيوبي، وذكرت بعض المصادر أن سبب وفاته هو اغتمامه لأنباء سقوط حصن السلسلة في دمياط. اضطربت الأحوال في الدولة، ووصلت الأنباء المفزعة إلى الأمير الكامل المنشغل بمعركة دمياط بأن أحد الأمراء في القاهرة – اسمه ابن المشطوب – حاول استغلال الفرصة مع بعض حلفائه للقيام بانقلاب عسكري في القاهرة، وانتزاع ملك مصر من الكامل، ومنحه إلى أخٍ للكامل يلقَّب بالفائز، لكي يحكموا فعليًا من ورائه.

ترك الكامل معسكره جنوبي دمياط على عجل، وعاد إلى القاهرة لضبط الأوضاع، فاضطربت الأحوال في دمياط، وفرَّ الكثير من أهلها وحاميتها، فاستغلَّ الصليبيون الفرصة السانحة، وعبروا النيل دون مقاومةٍ، واستولوْا على المدينة، وأعملوا القتل والسلب والنهب فيمن لم ينجح من أهل دمياط في الفرار، وهكذا سقطت دمياط بعد 16 شهرًا من بدء حصارها بهذا السيناريو الغريب، بعد صمودٍ عسكري طويل.

نجح الكامل في ضبط الأوضاع في القاهرة لصالحه، لاسيَّما مع وصول مددٍ كبيرٍ من الشام له بقيادة أخيه الملك المعظَّم عيسى، ونُفيَ ابن المشطوب إلى الشام. لكن ما لبث عيسى أن عاد إلى الشام، وخرَّب أسوار بيت المقدس، لكي لا يتمكن الصليبيون من الدفاع عنها في حال استيلائهم عليها. وشدَّد الكامل قبضته على مصر، وعلى القاهرة خصيصًا، ومنع خروج الناس منها، بعد أن خشى من أي يتسبَّب الهلع من تقدم الصليبيين في فرار الكثيرين إلى مناطق داخلية بعيدة، وإضعاف الموقف الدفاعي.

عسكر الصليبيون في دمياط، ورممّوا أسوارها وتحصيناتها، ليجعلوا منها معقلًا حصينًا، ومنطلقًا لاستكمال هجومهم على مصر، وبدأوا في شن الغارات على المناطق القريبة من دمياط، للاستيلاء على كل ما تطاله أيديهم، لكن لم تحدث مواجهة كبرى فاصلة بينهم وبين الكامل، فأصبح المشهد العسكري أشبه بحالة التعادل «stalemate» في لعبة الشطرنج. واستمرَّت الإمدادات بالرجال والأسلحة تصل إلى الصليبيين من جهة البحر.

خشى الكامل من استمرار سيطرة الصليبيين على دمياط، وتحولِّها إلى كعبةٍ للفرسان الصليبيين القادمين من أوروبا؛ مما يُنذر بنجاحهم في الاستيلاء على مصر عاجلًا أو آجلًا، فعرض على الصليبيين عرضًا سخيًّا مقابل الجلاء عن دمياط، يتضمن تسليمهم بيت المقدس، وعسقلان، واللاذقية، ومعظم ما فتحه صلاح الدين الأيوبي، ما عدا قلعة الكرك الحصينة بالأردن. أراد حنا دي برين الموافقة على عرض الكامل بعد مساومته للحصول على الكرك، و300 ألف دينار، لكن المتعصبين – وعلى رأسهم بلاجيو – رفضوا وأصروا على مواصلة القتال حتى احتلال القاهرة، والقضاء على دولة الأيوبيين. فتعثَّرت المفاوضات.

حرَّض بلاجيو الصليبيين عام 618هـ – 1221م على شن هجوم كاسح للوصول إلى القاهرة، واضطر حنا دي برين إلى الموافقة لعجزه عن كبح جماح بلاجيو، فعسكر الجيش الصليبي إلى الجنوب من دمياط على مقربةٍ من معسكر الكامل في المنصورة.

ارتكب الصليبيون خطأ فادحًا لجهلهم بطبيعة البلاد وظروفها المناخية؛ إذ كان معسكرهم يقع في منطقةٍ منخفضة، فاستغلَّ الملك الكامل تلك الفرصة السانحة التي تزامنت مع موسم فيضان النيل، فأمر بفتح السدود القريبة، فاندفعت مياه الفيضان لتكتسح الأراضي المنخفضة ومنها معسكر الصليبيين الذي تعرض لخسائر جسيمة في الأفراد والمعدات، وأحاطت المياه بالصليبيين من كل جانب، وعجزوا عن الانسحاب شمالًا إلى دمياط؛ إذ وجدوا قوات الكامل قد أغلقت في وجوههم الطريق الوحيد الذي لم تغمره المياه.

في تلك الأثناء استولى الأسطول المصري على قافلة بحرية كبيرة كانت تجلب الإمدادات إلى الصليبيين، فسرى اليأس في نفوسهم مع هذا الانقلاب المفاجيء في الأحوال. حاول الصليبيون مواصلة المفاوضات مع الكامل على قاعدة العرض السخي الذي قدمه لهم قبل أشهر، لكن لم يحظَ هذا المسعى بأي نجاح، فقد وجد الكامل نفسه قد أصبح في موضع قوة، لاسيَّما وقد وصلت إلى مصر إمدادات جديدة من الأفراد والأسلحة من طرف أخويه الأميرين: المعظم عيسى، والأشرف موسى.

لم يجد الصليبيون مفرًّا من مفاوضة الكامل على تسليم دمياط دون شرطٍ سوى ضمان سلامتهم الشخصية، فوافق الكامل على ذلك، وأخذ بعض قادة الصليبيين رهائن، لضمان تسليم حامية دمياط الصليبية المدينة إلى قوات المسلمين.

من المفارقات أن المسلمين تسلموا دمياط وقد غدت أشد تحصينًا، بعد ما أنفقه الصليبيون من جهدٍ ومال في تعزيزها دفاعيًا لتكون معقلًا دائمًا لهم في مصر. كذلك كان قد وصل مدد كبيرٍ عبر البحر إلى الصليبيين بعد أيامٍ قليلة من تسليمها للمسلمين، ولو وصل هذا المدد قبل أيام لتغير مسار معركة دمياط كثيرًا.

دمياط وحملة القديس لويس

أحدثت هزيمة الصليبيين الساحقة على يد قوات سلطان مصر الصالح نجم الدين أيوب في موقعة غزَّة عام 642هـ – 1244م صدمةً هائلة في أوروبا الكاثوليكية، لاسيَّما أنها ثبَّتت استعادة السيطرة الإسلامية على بيت المقدس، الهدف الرئيس للحملات الصليبية على المشرق.

أيَّد بابا روما إينوسنت الرابع ما أعلنه لويس التاسع ملك فرنسا من عزمه قيادة بحملة صليبية كبرى – عُرِفَت بالحملة الصليبية السابعة – لاستعادة ما فقده الصليبيون في الشرق، لكن استغرق إعداد تلك الحملة شهورًا طويلة، لاسيّما مع انشغال الأوروبيين بالخطر المغولي الذي كان يستهدف شرقي أوروبا في تلك الفترة، وببعض الصراعات الداخلية بين ملوك أوروبا، كالصراع بين فرنسا وإنجلترا.

عام 647هـ – 1249م وصلت قوات الحملة الصليبية إلى جزيرة قبرص، استعدادًا للانقضاض منها على مصر، عبر دمياط أيضًا. لما ترامت الأنباء إلى سلطان مصر آنذاك الصالح أيوب بن الكامل، عزَّز حامية دمياط بالمقاتلين والإمدادات الكافية لتحارب الصليبيين أشهرًا، ووضعها تحت قيادة الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، وعسكر بقواته في المنصورة إلى الجنوب من دمياط، لقطع الطريق أمام الصليبيين لغزو القاهرة إذا نجحوا في احتلال دمياط. وأقام في قصرٍ أقامه أبوه الكامل إبان الغزوة الصليبية السابقة على مصر قبل أكثر من 30 عامًا.


الصالحُ الملكُ الذي لِزمانِه … حُسنٌ يتيهُ به الزمانُ ورَوْنقُ

مَلِكٌ تحدّثَ عن أبيهِ وجَدّه … نسبٌ لَعَمري فى العلا لا يُلحَقُ

*بهاء الدين زهير مادحًا الملك الصالح نجم الدين أيوب.


وقعت بعض المواجهات بين قوات الصليبيين، وحامية دمياط التي خرجت لتواجهَهم خارج الأسوار، لكن لم تسفر تلك المواجهات عن نتيجة حاسمة. لكن وقعت الهزيمة، عندما ارتكب الأمير فخر الدين وقادته خطأً كبيرًا في المناورة بالقوات؛ فتسبَّب بظنِّ أهل دمياط أن الجيش على وشك الانسحاب من المدينة كما حدث في الغزوة السابقة زمن الكامل، فاضطربت أحوال المدينة، وانسحب منها معظم سكانها وحاميتها، واستولى الصليبيون على المدينة الحصينة دون مقاومةٍ تُذكر، وعثروا بداخلها على ما لا يُعَدُّ ولا يحصى من الأسلحة والذخائر والأقوات.

«أما بعد فَإِنَّهُ وصل كتابك، وَأَنت تُهددُ فِيهِ بِكَثْرَة          جيوشك وَعدد أبطالك. فَنحْن أَرْبَابُ السيوف، مَا قُتِل منا قِرنٌ إِلَّا جددناه، وَلَا بغى علينا بَاغ إِلَّا دمرناه. فَلَو رَأَتْ عَيْنَاك – أَيهَا الْمَغْرُور – حد سُيُوفنَا، وَعظم حروبنا،    وفتحنا مِنْكُم الْحُصُون والسواحل، وأخربنا مِنْكُم ديار    الْأَوَاخِر والأوائل، لَكَانَ لَك أَن تعض على أناملك بالندم، ولابد أَن تزل بك الْقدَم، فِي يَوْم أَوله لنا وَآخره عَلَيْك»
، كان هذا رد الصالح أيوب بقلم بهاء الدين زهير، على رسالة لويس التاسع ملك فرنسا مهددا باجتياح مصر.

جُنَّ جنون الملك الصالح، وأمر بإعدام العشرات من قادة حامية دمياط، ووبَّخ الأمير فخر الدين بشدة، وشرع في تعزيز الدفاعات في منطقة المنصورة، لتعطيل تقدم الصليبيين من دمياط إلى القاهرة. وفي المنصورة وعلى مدار أسابيع لم تنقطع الاشتباكات بين الجانبين، وتصاعدت هجمات المتطوعين المصريين والقبائل العربية بأسلوب حرب العصابات ضد مواقع الصليبيين وخطوط إمداداتهم، ووقع العشرات من الصليبيين بين أسير وقتيل كل يوم.

لكن في تلك الأثناء أخذت صحة الصالح أيوب في التدهور رغم العناية الطبية الفائقة التي بُذِلت له، ومات. فأخفت زوجته المملوكة شجر الدر خبر وفاته؛ حتى لا تضطرب نفوسُ المقاتلين في تلك الأوقات العصيبة، بينما أعلمت دائرة ضيقة من كبار القادة ومماليك الملك الصالح بما حدث، وأرسل على وجه السرعة إلى توران شاه بن الصالح، وكان في حصن كيفا جنوبي تركيا الحالية، ليعود على وجه السرعة ليتسلَّم زمام السلطنة، وأخذت تصدر المراسم السلطانية، وتوقعها، ويكأنَّها صادرة من السلطان شخصيًا، ونظَّمت البيعة من الأمراء والمقَدَّمين إلى توران شاه، وأصبح الأمير فخر الدين هو المتصرف في إدارة الدولة والمعركة بجانب شجر الدر.

أما الصليبيون فقد وصلتهم أنباء مرض الصالح الشديد، فأرادوا استغلال الفرصة لحسم المعركة، فتقدموا بالقوة الضاربة لجيشهم جنوبًا حتى لم يفصِل بينهم وبين معسكر المسلمين سوى فرع من النيل يسمى بحر أشموم. تبادل الجيشان القصف بالمجانيق، واشتدَّت أعمال المقاومة الشعبية ضد الصليبيين، وابتكر المصريون طرائق فريدة للإيقاع بالصليبيين، فكان بعضهم يجعل من قشر البطيخ خوذة، ويسبح على تلك الحال إلى مقربة من معسكر الصليبيين، فإذا نزل أحدهم إلى الماء للحصول على ثمرة البطيخ أمسك به وعاد به أسيرًا إلى البر الآخر.

استمرَّت تلك الحال أسابيع، حتى دلَّ بعض العملاء من المعسكر الإسلامي الصليبيينَ على مخاضٍ في بحر أشموم يمكن أن يعبروه بخيولهم، فقام 1400 فارس صليبي يقودهم الكونت دارتوا شقيق الملك لويس التاسع، بمباغتة معسكر المسلمين عبر ذلك المخاض، فتمكنوا من قتل الأمير فخر الدين، والعديد من فرسان المسلمين ومقاتليهم الذين لم يفيقوا من الصدمة بعد، ووصل بعض فرسان الصليبيين إلى بوابة قصر السلطان.

دارت في شوارع المنصورة وأزقتها حرب شوارع حامية الوطيس، واستعاد المسلمون التوازن مع ما أظهره مماليك الصالح من بسالة وشراسة في القتال، لاسيَّما ركن الدين بيبرس البندقداري – السلطان المملوكي الشهير فيما بعد – والذين نجحوا في قتل المئات من فرسان الصليبيين وفي مقدمتهم الكونت دارتوا نفسه. وكانت معركة المنصورة تلك بداية هزيمة الحملة الصليبية على مصر.

وصل توران شاه إلى مصر، فأعلنت وفاة أبيه الصالح، وتقدَّم لقيادة الجيش في المعركة الدائرة. وقام الأسطول المصري بهجوم جريء، إذ فُككت بعض السفن، وحملت على الجمال، ونُصبت في النيل بين دمياط والمنصورة، فباغتت قافلة بحرية كبيرة لإمداد الصليبيين كان قوامها 52 سفينة، وقتل أكثر من ألف صليبي، وانقطع المدد عن القوات الصليبيية في المنصورة، فساءت أحوالها، وتجرأ المقاتلون والمتطوعون المسلمين أكثر في هجماتهم ضد الصليبيين.

حاول لويس التاسع أن يحقق ما عجز عنه عسكريًا عبر المفاوضات، فراسل توران شاه باستعداده لتسليم دمياط مقابل القدس وبعد مناطق الساحل الشامي، فقوبل طلبه برفضٍ قاطع.

مع مطلع العام التالي 648هـ حاولت قوات لويس التاسع الانسحاب شمالًا إلى دمياط، فتتبعهم فرسان المماليك والمتطوعون، وأثخنوا فيهم، ثم دارت موقعة كبيرة في فارسكور جنوب دمياط، قاد فيها توران شاه بنفسه قوات المسلمين، وألحق هزيمة ساحقة بقوات لويس التاسع، قتل فيها أكثر من 10 آلاف من الصليبيين، وأسر الآلاف؛ فأمر توران شاه بقتلهم. أما لويس التاسع فقد وقع في الأسر، واعتقل في دار القاضي فخر الدين بن لقمان في المنصورة.

وبينما تجري المفاوضات بين الصليبيين والمسلمين من أجل تقرير مصير لويس التاسع الأسير، ومدينة دمياط، دبَّ الخلاف بين السلطان توران شاه، ومماليك أبيه الصالح أيوب، لاسيَّما فارس الدين أقطاي، وعز الدين أيبك، وركن الدين بيبرس، وقد حنق المماليك منه لإساءته لزوج أبيه شجر الدر، وتنكره لما فعلته بعد وفاة أبيه من أجل حفظ الدولة انتظارًا لعودته، كما غضبوا لتقديم توران شاه رجاله الذين جاءوا معه من حصن كيفا في المناصب. تطورت الأمور سلبًا إلى حد قيام المماليك بقتل توران شاه قبل أن تمر ثلاثة أشهر على سلطنته، وأقاموا مكانه شجر الدر سلطانةً على مصر، وتلقبت بأم خليل المستعصمية.

أتمت شجر الدر المفاوضات مع لويس التاسع، والتي قضت بتسليم دمياط دون قيدٍ أو شرط، وإطلاق سراح لويس ومن بقي من أسرى جيشه – وكانوا 12 ألفًا – مقابل 400 ألف دينار. وذاعت أبيات للشاعر المصري جمال الدين بن مطروح يخلد فيها الانتصار على جيش لويس التاسع على هيئة حوار يسخر فيه من الملك لويس.


أتيت مصرًا تبتغي مٌُلكهَا … تحسب أَن الزمر يَا طبل ريحْ

وكل أَصْحَابك أودعتَهم … بِحسن تدبيرك بطن الصَّرِيحْ

سَبْعُونَ ألفا لَا يرى مِنْهُمُ … إِلَّا قَتِيل أَو أَسِيرٌ جريح

وَقل لَهُم إِن أزمعوا عودةً … لأخذ ثأر أَو لفعل قَبِيح

دَار ابْن لُقْمَان على حَالهَا … والقيد بَاقٍ والطواشي صبيحْ

والطواشي صبيح هو الشخص الذي كان مكلفًا بحراسة لويس التاسع إبان أسره في دار ابن لقمان. ورغم الهزيمة الساحقة في مصر، فإن الكنيسة الكاثوليكية كانت تقدر لويس التاسع لإيمانه المسيحي الشديد، وجهده الصليبي اللافت، فاعتبرته قديسًا، وحصل على لقب سانت لويس.

جدير بالذكر أن لويس التاسع نظَّم حملة صليبية كبيرة على نمط حملة دمياط، لكن كان هدفها تونس، بعد أكثر من 20 عامًا، لكنه مرض ومات أثناء الحملة، ففشلت في تحقيق هدفها، وأهدى إليه أحد شعراء تونس قصيدة على نهج قصيدة ابن مطروح، فقال:


يَا فرنسيس هَذِه أُخْت مصر … فتأهب لما إِلَيْهِ تصيرْ

لَك فِيهَا دَار ابْن لُقْمَان قبرًا … وطواشيك مُنكرٌ وَنَكِيرْ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق