العميقة تستأسد
وائل قنديل
غضب مني بعض الأصدقاء حين قلت نصا في مقال الأمس: "إن من لا يريد أن يرى أن النزال العنيف الآن هو بين دولة مبارك ودولة 25 يناير حر فيما يراه ويعتنقه، غير أن العقل يأبى أن يعتبر ثورة اختارت الخامس والعشرين موعدا لها، لتكون ثورة ضد قمع الشرطة بالأساس، شبيهة بأخرى تتصدرها مسيرات بوليسية بالزى الرسمى".
إن يناير كان شهر ميلاد الثورة، بينما يراد ليونيو أن يكون تاريخ وفاتها ومواراتها الثرى لتحقق مقولة الجنرال "ثورة على الثورة" وبالتالي فهي ثورة مضادة بامتياز".
واليوم أرجو أن يكون الأصدقاء قد تبينوا مواقع أقدامهم وتابعوا بدقة تلك الطلعات المكثفة لجحافل الدولة العميقة مساء الاثنين على جميع الفضائيات مشحونة بكميات هائلة من الثقة والتوثب على إثر بيان القوات المسلحة الذي تعلن سطوره أن الانقلابات ليست من عقيدتها، بينما يصرخ ما بين السطور ويزعق مضمون البيان بانقلاب أبيض أو أخضر ناعم هادئ أنيق.
وأرجو أن يتوقف الغاضبون عند هذا التزامن العجيب بين صدور البيان وبين هجمة رجال الدولة العميقة جوا، على الفضائيات، وبرا على منصات القضاء الذي حكم بعودة نائب عام مبارك، مسقطا من حساباته الدستور الذي تباهت القوات المسلحة بإشرافها على إجرائه، الذي ينص على عدم جواز عزل النائب العام.
ومرة أخرى من لا يريد أن يرى أن اللعب أصبح على المكشوف وأن الصراع على السلطة بين الدولتين صار واضحا كما لم يحدث من قبل فهو حر فيما يرى، غير أن القراءة الموضوعية لبيان القوات المسلحة تقول بجلاء إن الجيش صار مصدر السلطات في مصر، يرفع من يشاء ويسقط من يشاء، مكرسا سيادة منطق القوة المادية على ما عداها، لتتوارى قيم الديمقراطية المستقرة والمبادئ الدستورية والغايات الثورية، ولتعلو قوة السلاح على قوة العقل والعدل وندخل زمن "الديمقراطية بالأمر المباشر".
إن ما يجرى الآن هو الإجهاز على ما تبقى من روح ثورة هتفت طويلا بضرورة إنهاء حكم العسكر، والارتداد العنيف إلى ما أسقطته ثورة يناير التي اخترعوا لها بديلا اسمه "يونيو" لكي تحال إلى الاستيداع.
لقد بحت الأصوات تطالب الرئيس المنتخب بالتأسيس لنظام جديد يختلف في شكله وفلسفته مع نظام مبارك، وألا يترك نفسه لأحضان الدولة العميقة بحجة التصالح والوئام والسلام الاجتماعي والتطلع إلى المستقبل.. والحاصل أن حضن العميقة كان مزروعا بالشوك، وها هي تنشب أشواكها في شرعية الرئيس ثم تقفز من السفينة التي اجتهدت لإغراقها.
وأذكر أنني كتبت يوم 30 يونيو من العام الماضي مخاطبا الرئيس ما يلي:
يكفى الرئيس الجديد احتفاء واحتفالا أن يخاطب شعبه ويصافحه في ميدان الثورة من فوق منصة خشبية متواضعة، يصل إليها سيرا على أرض تخضبت بدماء شهداء صنعوا له ولنا هذا الحلم.
إن هذا الشعب صنع ثورته لكي يأتي بنظام حكم محترم ورئيس جديد يصل إلى مقعده سيرا على الأقدام وليس على متن عربة تجرها الخيول.. ويكفي الرئيس هتافات جموع الميدان وأغنياتهم البسيطة عوضا عن بهرجة احتفالات تشق بطن خزينة الدولة المريضة أصلا.
السيد الرئيس: لقد أعطاك الشعب السلطة فتسلمها منه مباشرة، وليعد "العسكري" إلى ثكناته مشكورا، رغم كل الدماء والجراح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق